18 من قوله: ( فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ..)

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ۝ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ۝ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ۝ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:71-74].
 يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة، والعدد، وتكثير العدد بالنفير في سبيل الله ثُبَاتٍ أي: جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة، وسرية بعد سرية، والثبات جمع ثبة، وقد تجمع الثبة على ثبين، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله: فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أي: عصبا، يعني سرايا متفرقين أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا يعني كلكم، وكذا روي عن مجاهد، وعكرمة، والسدي، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حيان، وخصيف الجزري.

الشيخ: والمعنى في هذا أن الواجب جهاد الأعداء سواء بالجملة كالجيوش الكبيرة، أو بالسرايا على حسب ما تقتضيه المصلحة، وعلى حسب ما يراه ولي الأمر، قد تدعو الحاجة إلى السرايا، وتبعث في جهات كثيرة في أنحاء الدنيا، سرية إلى كذا، وسرية إلى كذا، وسرية إلى كذا........، وقد تدعو الحاجة إلى أن يكونوا جميعًا جيشًا واحدًا لكون العدو متجمع، إذا كان العدو متجمعًا في جهة واحدة، وجب التجمع له، وأن يكون الجيش واحدًا ضد الجيش المتجمع من العدو، وقد تكون السرايا أنفع لأنه ليس هناك للعدو تجمع فالسرايا تنتقل إلى العدو من هنا، ومن هنا، تخيف العدو، فتأخذ ما أمكن من قواته، ومن عدده، ومن أمواله لمصلحة المسلمين.
والحاصل من هذا، أن ولي الأمر ينظر ما هو الأصلح في جهاد الأعداء، فتارة يرسل السرايا، وهي الثبات، وتارة يجمع الجيوش، ويسير بها إلى جهة معينة.
وكان النبي هكذا عليه الصلاة والسلام كان يبعث السرايا ها هنا، وها هنا، وربما خرج في الجيش جميعًا كيوم بدر، ويوم أحد، والأحزاب، وكيوم الفتح.
وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ قال مجاهد، وغير واحد: نزلت في المنافقين، وقال مقاتل بن حيان: لَيُبَطِّئَنَّ أي: ليتخلفن عن الجهاد، ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه، ويبطئ غيره عن الجهاد كما كان عبدالله بن أبي بن سلول -قبحه الله- يفعل، يتأخر عن الجهاد، ويثبط الناس عن الخروج فيه. وهذا قول ابن جريج، وابن جرير، ولهذا قال تعالى إخبارًا عن المنافق أنه يقول: إذا تأخر عن الجهاد فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي: قتل، وشهادة، وغلب العدو لكم لما لله في ذلك من الحكمة قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا أي: إذ لم أحضر معهم وقعة القتال يعد ذلك من نعم الله عليه، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر، أو الشهادة إن قتل.
 وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أي: نصر، وظفر، وغنيمة لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أي: كأنه ليس من أهل دينكم، يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا أي: بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه. وهو أكبر قصده، وغاية مراده.
ثم قال تعالى: فَلْيُقَاتِلْ أي: المؤمن النافر فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ أي: يبيعون دينهم بعرض قليل من الدنيا، وما ذلك إلا لكفرهم، وعدم إيمانهم، ثم قال تعالى: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا أي: كل من قاتل في سبيل الله سواء قتل أو غلب عند الله مثوبة عظيمة، وأجر جزيل، كما ثبت في الصحيحين: وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة.

الشيخ: وهذا كله حث على الجهاد في سبيل الله، وأنه ينبغي للمؤمن أن لا يجبن، وأن لا يبطئ بالخروج خوفًا من القتل، أو خوفًا من أن يغلبوا، بل عليه أن يبذل وسعه، ويأخذ حذره، ويشارك إخوانه، فإن قتل فشهيد، وإن أصابه جراحات وغيرها فعلى أجر عظيم، وإن غلب وقتل العدو وفاز بالنصر فذلك أعظم وأفضل، وهو حصول المطلوب في الدنيا مع السعادة في الآخرة، هكذا هم المجاهدون، إن قتلوا فإلى الجنة والسعادة والشهادة، وإن ظفروا بعدوهم وقهروا عدوهم فعلى خير عظيم من النصر والتأييد، وعظيم الأجر، وحسن العاقبة، ولهذا قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ أي من الأعداء فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ۝ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء:71-72] يعني منكم أناس ليسوا على المطلوب بل عندهم من التأخر، والتثبيط عن الجهاد ما هو معلوم، وهم المنافقون؛ لأنهم تظاهروا بالإسلام، وليسوا من الإسلام في شيء، ولهذا هذا شأنهم التثبيط، والتأخر، والإرجاف، وغير هذا مما يضر المسلمين.
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ۝ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:75-76].
يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله، وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال، والنساء، والصبيان، المتبرمين من المقام بها، ولهذا قال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ يعني مكة، كقوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد:13]، ثم وصفها بقوله: الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا أي: سخر لنا من عندك وليًا وناصرًا، قال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا سفيان عن عبيد الله، قال: سمعت ابن عباس قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين. حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن ابن أبي مليكة أن ابن عباس تلا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ [النساء:98] قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله .

الشيخ: يعني ممن تأخروا في مكة حتى جاء الفتح بسبب استضعافهم.
ثم قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ [النساء:76]، أي: المؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه، والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان، ثم هيج تعالى المؤمنين على قتال أعدائه بقوله: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76].
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ۝ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ۝ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:77-79].
كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة، والزكاة، وإن لم تكن ذات النصب، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح، والعفو عن المشركين، والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبًا لأسباب كثيرة، منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها: كونهم كانوا في بلدهم، وهو بلد حرام، أشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار، ومنعة، وأنصار، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه، جزع بعضهم منه، وخافوا مواجهة الناس خوفًا شديدًا، وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي: لولا أخرت فرضه إلى مدة أخرى، فإن فيه سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأيم النساء، وهذه الآية كقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ [محمد:20] الآية.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن عبدالعزيز بن أبي رِزمة، وعلي بن زنجه، قالا: حدثنا علي بن الحسن عن الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، وعن عكرمة، عن ابن عباس: أن عبدالرحمن بن عوف، وأصحابا له أتوا النبي ﷺ بمكة، فقالوا: يا نبي الله، كنا في عزة، ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، قال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم، فلما حوله الله إلى المدينة، أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77] الآية، ورواه النسائي، والحاكم، وابن مردويه من حديث علي بن الحسن بن شقيق به.
وقال أسباط، عن السدي: لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، وهو الموت. قال الله تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى.
وقال مجاهد: إن هذه الآية نزلت في اليهود، رواه ابن جرير.
وقوله: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى أي: آخرة المتقي خير من دنياه.
 وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي: من أعمالكم بل توفونها أتم الجزاء، وهذه تسلية لهم عن الدنيا، وترغيب لهم في الآخرة، وتحريض لهم على الجهاد.

الشيخ: وفي الآية الأخرى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:216] فمن طبيعة الإنسان كراهة القتال، وخوف الموت، لكن متى استقام الإيمان، وعرف فضل الجهاد، وماله عند الله من الخير العظيم، والعاقبة الحميدة قبل ذلك، وشمر إليه، وسارع إليه؛ لأن إيمانه يحفزه إلى ذلك.
.......
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن زيد عن هشام، قال: قرأ الحسن قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ  قال: رحم الله عبدًا صحبها على حسب ذلك، وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه.الشيخ: ومثل النبي ﷺ له أعظم من هذا، مثل النبي ﷺ: ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع في البحر، الله المستعان، ويقول لعبدالله بن عمر: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا حتى لو متع فيها مائة عام أو ألف عام فهي قليل بالنسبة إلى حياته الأخروية، فإن حياته الأخروية حياة مستمرة لا انقطاع لها، ولا فناء لها، فهي حياة لا تحصى آمادها، بل آلاف السنين، وآلاف وآلاف بلا نهاية، فالشيء المحدود بالنسبة إلى الشيء الدائم قليل جدًا مهما كانت حاله، والله المستعان.
وقال ابن معين: كان أبو مسهر ينشد:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالًا فإنها ... متاع قليل، والزوال قريب
وقوله تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي: أنتم صائرون إلى الموت لا محالة، ولا ينجو منه أحد منكم، كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، وقال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34]، والمقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة، ولا ينجيه من ذلك شيء سواء جاهد أو لم يجاهد، فإن له أجلًا محتومًا، ومقامًا مقسومًا، كما قال خالد بن الوليد حين جاءه الموت على فراشه: "لقد شهدت كذا وكذا موقعًا، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء".

الشيخ: والمعنى أن الموت لابد منه، وله حد محدود، وليس الجهاد يقربه، ولا عدم الجهاد يبعده، بل متى جاء الأجل انتهى الأمر، انتهى الأمد، فلا ينبغي لعاقل أن يمنعه خوف الموت من الجهاد، ولا ينبغي لعاقل أن يمنعه خوف الموت من المسارعة إلى الخيرات، والمسابقة إلى الطاعات، فالموت له حد محدود، وأجل معدود، متى وصل انتهى الأمر، ولهذا قال خالد هنا رحمة الله عليه، ورضي الله عنه: "ما في عضو من أعضائي إلا وفيه جرح، وطعنة" ومع ذلك ما تم أجله إلا أن يموت على فراشه، أنجاه الله من حروب كثيرة في الجاهلية، والإسلام، وقد باشر حروبًا عظيمة في الإسلام؛ في قتال بني حنيفة، في قتال الفرس، وفي قتال الروم ثم مات على فراشه وأرضاه، والله المستعان.