56 من حديث (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر..)

بَابُ التَّرْغِيبِ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ

1533- عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1534- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1535- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا؛ نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ: فَأَمَّا إِذَا أَبَيْتُمْ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ. قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1536- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1537- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

1538- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: باب الترغيب في مكارم الأخلاق. لما ذكر الترهيب من مساوئ الأخلاق كما تقدم، وبعض الناس يبدأ بها قبل الترهيب، وكل ذلك صحيح؛ فإنَّ الترهيب والترغيب أمران مطلوبان، فالمؤمن يجب أن يهتم بالمكارم، ويحذر المساوئ، والنصوص جاءت بهذا وهذا: جاءت النصوص من الكتاب والسنة بالترهيب من مساوئ الأخلاق، والدَّعوة إلى مكارم الأخلاق.

وقد روى أحمدُ رحمه الله والبخاري في "الأدب المفرد" بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: إنما بُعثتُ لأتمم صالح الأخلاق يعني: ليدعو إلى صالح الأخلاق ويكملها، علاوةً على ما عند الناس فيها من عربٍ وغيرهم، فهو بُعث ليدعو الناس إلى بقية مكارم الأخلاق التي هي أعظمها وأهمّها وأكبرها: توحيد الله والإخلاص له، وأن يكون عبدًا لله وحده، لا لغيره، وأن يخصَّه بالعبادة، فهذا أعظم خلقٍ، وأكرم خلقٍ.

ثم الأخلاق التي شرعها الله بعد ذلك من: المحافظة على الصلوات، وأداء الزكوات، وصيام رمضان، وحجّ البيت، وبرّ الوالدين، وصلة الرحم، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وصدق الحديث، ومواساة الفقير، ونصر المظلوم، إلى غير هذا من الأخلاق الكريمة.

كل هذا مما جاءت به الشَّرائع التي جاءت بها الأنبياء، وجاء نبينا ﷺ -وهو أكمل الخلق- بأكمل ذلك، وأتم ذلك.

وذكر الحافظُ ابن كثيرٍ رحمه الله أنَّ الحافظ الخرائطي روى هذا الحديثَ بلفظ: إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق بدل صالح الأخلاق مكارم الأخلاق، وكلا المعنيين متقارب.

والمقصود أنَّ الله بعثه ليُتمم مكارم الأخلاق وصالح الأخلاق، ويدعو إليها، وينهى عن سفسافها ورديئها.

فالمؤمن ينبغي له أن تكون عنده همة عالية، يجتهد بسببها وعلى ضوئها إلى الأخذ بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال الواردة في الكتاب والسنة؛ حتى يكون متَّصفًا بما يُحبه الله ورسوله، تاركًا ما يُبغضه الله ورسوله.

ومن ذلك حديث ابن مسعودٍ الذي دلَّ على فضل الصدق، وأنه ينبغي للمؤمن أن يتحلى بالصدق في أقواله وأعماله؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: عليكم بالصدق؛ فإنَّ الصدق يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجلُ يصدق ويتحرى الصدقَ حتى يُكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، "إيَّا" من صيغ التَّحذير: إياكم والكذب؛ فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجلُ يكذب ويتحرى الكذبَ حتى يُكتب عند الله كذَّابًا.

فهذا فيه الحثُّ على الصدق، وأنه يجرّ أهله ويهديهم ويقودهم إلى البرِّ بأعمالهم وأقوالهم، ثم هذا البرُّ يهديهم إلى الجنة، ويقودهم إلى الجنة، ثم هذا البر وهذه العناية لا يزال يتحراها حتى يُكتب عند الله صديقًا مع الصديقين الذين هم أفضل الناس وأكملهم بعد الأنبياء، فإنَّ رتبة الصّديقية بعد النبوة: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69]، والله يقول جلَّ وعلا: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، ويقول سبحانه: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]، ولما عدَّ أصناف المؤمنين قال: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ [الأحزاب:35].

أما الكذب فيجرّ إلى الفجور، والفجور: هو التَّوسع في المعاصي والمخالفات، كما يقال: فجر كذا، إذا اتَّسع خرقه، انفجر الوادي، أو انفجر النهر، أو كذا، إذا اتَّسع، فالفجور: التَّوسع في المعاصي والمخالفات والانهماك فيها، نعوذ بالله.

فالكذب يجرّ إلى ذلك، يجرّ إلى كثرة المعاصي والشرور، ثم هذه المعاصي تجره إلى النار، وتُوجب له النار، وتهديه إلى النار، نسأل الله العافية، فلا يزال الرجلُ يتحرى الكذبَ ويكذب بين الناس حتى يُكتب عند الله كذَّابًا، ومَن كُتب عند الله كذَّابًا هلك، نسأل الله العافية.

ففي هذا الحثّ والتحريض على الصّدق في القول والعمل، والحذر من الكذب في القول والعمل، وليس الكذب خاصًّا بالقول، ولا الصّدق خاصًّا بالقول، بل يكون في القول، ويكون في العمل؛ ولهذا قال: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119].

فالصدق في الصلاة أداؤها كما أمر الله كاملةً، والصدق في الزكاة أن يتخلص منها، وأن يُؤديها كاملةً، والصدق في الصوم أن يتحرى فيه ما أمر الله، وأن يصونه عمَّا يُغضب الله من المعاصي، والصدق في الحجِّ أن يُؤديه كما شرع الله، فالصدق يكون في القول، ويكون في العمل.

الحديث الثاني: يقول ﷺ: إياكم والظنّ؛ فإنَّ الظنَّ أكذب الحديث.

تقدم هذا في الترهيب من مساوئ الأخلاق في الباب الماضي، وذكره هنا لأنه من مساوئ الأخلاق، إذا أخذ به العبدُ وصار ظنينًا -كثير الظن في الناس- فهذا من مساوئ الأخلاق، وإذا تباعد عن ذلك وترك هذه الظنون السَّيئة فهذا من مكارم الأخلاق.

إياكم والظنّ؛ فإنَّ الظنَّ أكذب الحديث يعني: ترك الظن، والبُعد عنه، والحذر منه من مكارم الأخلاق، والتلبس بالظن السيئ وفعله مع الناس بدون حُجَّةٍ من مساوئ الأخلاق، فالظن الذي يُعتبر هو ما كان على بينةٍ، ما تقوم عليه البينة والشَّواهد، فإذا شهد عدلان بأنه قتل، بأنه سرق ثبت هذا الظنُّ وصار ظنًّا حقيقيًّا مُعتمدًا في الشريعة، وقد يُفضي إلى اليقين، قد تقوى الشَّهادة والعدالة حتى يكون هذا الشيء يقينًا عند الحاكم وعند الوالي ونحو ذلك.

وقد تكون الظنون مبنيةً على علاماتٍ أخرى، مثل: مجالسة الأشرار، وصحبة الأشرار، وكونه معهم في غالب أموره، هذا يُوجب ظنَّ السوء به، ولو لم تقم بينةٌ أنه فعل هذا الشيء، لكن كونه معهم، وكونه يصحبهم، وكونه يعرف بهم، هذا من الدلائل والقرائن على سُوء حاله، وفي الحديث الصحيح: المرء على دِين خليله، فلينظر أحدُكم مَن يُخالل.

فينبغي للمؤمن أن يحذر الظنون السَّيئة، وأن يبتعد عن مواضع الظنون السيئة، وأن يتحرى في قوله وعمله العلامات الصَّادقة، والبينات الصادقة التي تُبعده عن السُّوء، وتجعله في عداد الأخيار، وعداد أصحاب المروءة ومكارم الأخلاق.

الحديث ..... يقول ﷺ: إياكم والجلوس في الطرقات، يُحذر أصحابه من الجلوس في الطرقات؛ لأنها مظنة الشَّر، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا بدٌّ من مجالسنا. يعني: نحتاج إليها، قال: أما إذا أبيتُم فأعطوا الطريقَ حقَّه، قالوا: وما حقُّه يا رسول الله؟ قال: غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

هذه خمسة خصالٍ مهمة، مَن كان في الطريق، أو يجلس عند بابه في الطريق، أو في مجالس أخرى في الطرقات، فليُراعِ هذه الأمور، فإن أدَّاها وإلا فليبتعد عن هذا المجلس: غضُّ البصر عن محارم الله: عن النساء، وعورات الناس. وردّ السلام على مَن سلَّم عليه، يجب ردّ السلام: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، على الأقل الردّ. وكفّ الأذى عن الناس، بعض الناس إذا كان في الطريق: هذا يشتمه، وهذا يُؤذيه بشيءٍ من الأذى، وهذا يقول فيه كذا وكذا، وهذا يقول فيه كذا وكذا، المقصود أنه يُؤذي المارة بلسانه أو بأفعاله، هذا من الظلم، فيجب الحذر من ذلك.

الرابع والخامس: الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، فلا بدَّ إذا رأى معروفًا قد ضيع يأمر به، رأى منكرًا قد فُعل ينهى عنه في هذا المجلس الذي رآه، مرَّ عليه إنسانٌ يشتم يُنكر عليه، مرَّ عليه إنسانٌ قد أبدى عورته يُنكر عليه، مرَّ عليه إنسانٌ يغتاب الناس يُنكر عليه.

وهكذا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في هذا الطريق الذي جلس فيه، أو عند بابه، أو على محلٍّ يمر عليه الناس، وإن كان غير طريقٍ، يجب عليه إنكار المنكر، ويجب عليه الأمر بالمعروف؛ لأنَّ المؤمنين هكذا، المؤمنون هكذا: يجب أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر أينما كانوا، كما قال سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71]، هذه أخلاقهم، ذكورًا كانوا، أو إناثًا كانوا.

الرابع: حديث معاوية بن أبي سفيان، أمير المؤمنين ، يقول النبيُّ ﷺ: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدِّين متَّفق على صحته.

وهذا خبر عظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدِّين، فالفقه في الدِّين من أعظم المكارم، ومن أعظم خصال الخير، ومن أعظم أسباب السعادة، والجهل بالدِّين من أعظم أسباب المساوئ، ومن أعظم أسباب الشَّر، ومن أعظم أسباب الهلاك والوقوع في المعاصي؛ ولهذا جعل المؤلفُ هذا الحديثَ في هذا الباب؛ لأنَّ الفقه في الدِّين والتَّبصر في الدِّين من أعظم مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.

فجديرٌ بكل مؤمنٍ، وجدير بكل مؤمنةٍ التَّفقه في الدِّين، والتعلم، والتَّبصر، والإقبال على كتاب الله، وعلى سنة رسوله ﷺ: علمًا، وبحثًا، ومراجعةً، وعملًا، هكذا يكون المؤمنُ، وهكذا تكون المؤمنةُ إن أرادوا السَّعادة والخير.

الخامس حديث أبي الدَّرداء: يقول ﷺ: ما من شيءٍ في الميزان أثقل من حُسن الخلق.

هذا يدل على فضل حُسن الخلق، وقد جاءت به الأحاديث الكثيرة عن النبي ﷺ، ومن ذلك ما تقدم في رواية مسلم: البر حُسن الخلق، ومن ذلك حديث أم سلمة: كاد حُسن الخلق أن يذهب بخيري الدنيا والآخرة، ومن ذلك حديث عبدالله بن عمرو: يقول ﷺ: إنَّ أحبَّكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا.

هذا يدل على فضل حُسن الخلق، وأنه ينبغي للمؤمن أنه يتحلى بهذا الخلق الكريم، وأن يحرص ويُجاهد نفسه، هذه الأمور تحتاج إلى جهادٍ وصبرٍ، ويقول ﷺ: لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ، وفي اللفظ الآخر: طليقٍ، هذا من حُسن الخلق أيضًا.

فالمؤمن يُجاهد نفسه مع إخوانه، مع أهل بيته، مع مَن يُقابله: من إخوانه، من أستاذه، مع زميله، مع ضيفه، يجتهد ويحرص، مهما كانت الحالُ عليه أن يُحسن خلقه، وأن يبتعد عن العنف والشدة وسُوء الخلق مهما استطاع، والتوفيق بيد الله جلَّ وعلا، إنما المؤمن يسعى ويسأل ربَّه التوفيق، ويستعين بالله جلَّ وعلا، ويُجاهد نفسه ويتصبر، فكل إنسانٍ يجد من نفسه بعض الشيء، لكن لا بدَّ من تصبر: مع الضيف، مع الزميل، مع الأستاذ، مع الصاحب، مع الجار، مع الزوجة، مع الأولاد، مع الخادم، لا بدَّ من تصبر حتى يُحقق هذه الخصلة، وهي حُسن الخلق.

كذلك حديث ابن عمر: الحياء من الإيمان رواه الشَّيخان في "الصحيحين"، لا شكَّ أن الحياء من الإيمان.

وهكذا حديث أبي هريرة: يقول ﷺ: الإيمان بضع وسبعون -أو قال: بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من الإيمان خرَّجه الشَّيخان، وهذا لفظ مسلم.

هذا يُفيد أنَّ الحياء من جملة شُعب الإيمان، قال النبيُّ ﷺ في حديث عمران في "الصحيحين": الحياء خيرٌ كله، الحياء لا يأتي إلا بخيرٍ، فينبغي للمؤمن أن يتحلى بالحياء.

وما هو الحياء؟

الحياء: خلق كريم، خلق باطن، خلق قلبي يحمل على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويزجر عن قبائح الأخلاق، وعن سفاسف الأعمال، فالمستحي هو الذي يتحرى الأخلاق الفاضلة، والصِّفات الحميدة، والأعمال الجيدة، ويتباعد عن الأعمال السيئة، وعن سفاسف الأخلاق، وعن مقابلة الناس بما لا ينبغي، هذا هو الحياء.

وليس الحياء: الجبن والضعف عن طلب العلم، أو عن حضور حلقات العلم، أو عن السؤال، ليس هذا هو الحياء، هذا جبن، وهذا ضعف وخور لا ينبغي.

قال مجاهد رحمه الله فيما ذكره البخاري تعليقًا مجزومًا به: "لا يتعلم العلم مُستحٍ ولا مُستكبر"، مَن استحى ما حصل العلم، بقي في جهالته، إذا استحى يسأل، أو يحضر حلقات العلم، أو يذهب إلى سؤال العلماء بقي على جهالته، فلا بدَّ من السؤال وطلب العلم ومُزاحمة طلاب العلم في طلب الخير؛ حتى يُدرك ما قسم الله له من ذلك.

وهكذا قالت أم سليم: يا رسول الله، إنَّ الله لا يستحي من الحقِّ، فهل على المرأة من غسلٍ إذا هي احتلمت؟ فقال النبي: نعم إذا رأت الماءَ، قالت عائشةُ رضي الله عنها: نِعم النساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهنَّ الحياء أن يتفقهن في الدِّين.

فالمقصود أنَّ التفقه في الدِّين هو الواجب على الرجال والنساء، ومَن ترك ذلك حياءً فهذا ليس بحياءٍ، ولكنه ضعف وجبن وجور وجهل، وإنما الحياء هو الذي يزجرك عن القبائح، ويحملك على المكارم، هذا هو الحياء، أما حياء يمنعك من إكرام الضيف، يمنعك من حضور حلقات العلم، يمنعك من السؤال، يمنعك من نشر العلم، يمنعك من نشر السلام، من ردِّ السلام؛ هذا ليس بحياءٍ، ولكنه ضعف وخور وجبن وجهل لا ينبغي للعاقل.

وفَّق الله الجميع.

س: ...............؟

ج: هذا داخل في "إياك والظن".

س: صلاة الأوابين بعدهم، يُصليها بعد التراويح؟

ج: يقول النبي ﷺ: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال حين يشتد الحرُّ على أولاد الإبل.

س: لكن ما يُقال: هؤلاء مبتدعون؟

ج: السنة بعد التراويح، ما في بأس، لكن ما تُسمَّى صلاة الأوابين، وإن سمّوها الأمر سهل، هذا ما نعرف أنه ورد في هذا شيء ما، لكن الصلاة بعد التراويح ما فيها بأس.

..............

1539- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1540- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: المُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1541- وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1542- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغَيْبِ، رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ.

1543- وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ نَحْوُهُ.

1544- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1545- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَام، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها فيها الحث على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وما يعود على العبد من خيرٍ في الدنيا والآخرة، وهو ﷺ قد دعا إلى كل خيرٍ، وحرض على كل خيرٍ، كما قال في الحديث الصحيح: ما بعث الله من نبيٍّ إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرّ ما يعلمه لهم، وهو أفضل الأنبياء وأكملهم بلاغًا، فقد دلَّ الأمة على كل خيرٍ، وحذرها من كل شرٍّ عليه الصلاة والسلام.

وفي حديث أبي مسعودٍ يقول النبيُّ عليه الصلاة والسلام، وأبو مسعودٍ هو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري المشهور، نُسب إلى بدرٍ ولم يكن من أهلها، وقال آخرون: بل هو بدري على الوقعة. والمشهور الأول.

يقول: عن النبي ﷺ: إنَّ مما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئتَ خرجه البخاري.

هذا الحديث العظيم من جوامع الكلم، فقد أدرك الناسُ من كلام الأنبياء الماضين هذه الكلمة: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئتَ، وهذا لا شكَّ يدل على أن الإنسان متى ذهب عنه الحياء لم يُبالِ بشيءٍ، وصارت أعماله وأقواله تقع على غير هدًى؛ لقلة الحياء.

فالحياء خلق عظيم، يحجز صاحبه عمَّا لا ينبغي، ويحول بينه وبين الصفات الذَّميمة والأخلاق المنكرة؛ ولهذا قال ﷺ: الحياء من الإيمان، الحياء خير كله.

وفي هذا الحث على الحياء، والابتعاد عما لا ينبغي من الأخلاق التي يُستحيا منها، سواء كانت قوليةً أو فعليةً، وألا يفعل إلا ما كان معروفًا بأنه خير، معروفًا بأنه صلاح، معروفًا بأنه خلق كريم، وأما ما يُستحيا منه فينبغي الابتعاد عنه.

والحديث الثاني حديث أبي هريرة : يقول ﷺ: المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان رواه مسلم في الصحيح.

وهذا الحديث من الأحاديث العظيمة، ومن جوامع الكلم، ومن الأصول الإسلامية، فإنه جمع فوائد جمة، يقول ﷺ: المؤمن القوي يعني: في إيمانه وغيرته لله، وإن كان ضعيف البدن خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، الضعيف في قوته وغيرته وإيمانه، وفي كلٍّ خير في كليهما خير، ولكن ذاك القوي الذي يغار لله أكثر، ويُقيم الحقَّ أكثر، ويدعو إلى الله أكثر ..... هذا عند الله أفضل، وإن كان ذاك لم يأتِ المعاصي، ولكنه ضعيف في غيرته وقوته وتنفيذه أحكام الله.

وفي كلٍّ خيرٌ يعني: في كليهما خير، ولكنهما مُتفاضلان، وهكذا المسلمون يتفاضلون في أعمالهم وتقواهم لله، وغيرتهم لله، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، هم يتفاضلون، فمَن كان أكثر عملًا صالحًا، وأقوى في إنكار الباطل، وأقوى في إقامة الحقِّ؛ كان أحبَّ إلى الله أكثر.

ثم قال: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز هذه قاعدة؛ يجب الحرص على ما ينفع من أمر الدِّين والدنيا، وعدم العجز، لا يترك الأسباب، ولا يترك الأعمال، بل يحرص على ما ينفعه، وأهم شيءٍ ما يتعلق بالآخرة، وما ينفعه في دينه، ويكون سببًا لنجاته يوم القيامة، وعليه مع هذا أن يحرص على ما ينفعه في الدنيا؛ حتى يستغني عمَّا في أيدي الناس، حتى يأكل الحلال، حتى يقوم بأمر الله؛ ولهذا قال: احرص على ما ينفعك وأطلق، فالمعنى: ينفعك في الدنيا والآخرة.

ولا تعجزنَّ العجز هو ترك العمل، العاجز هو الذي يضعف عن العمل من غير بأسٍ، بل كسلًا وضعفًا.

وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ يعني: لو فات المحبوبُ الذي طلبته، أو حصل المكروه الذي أردتَ السلامة منه فلا تعجز، وقل: قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل: لو أني فعلتُ كذا وكذا لكان كذا وكذا وتعترض على القدر، الأمر مضى، ولكن عليك أن تقول: "قدر الله وما شاء فعل"، "هذا قدر الله" خبر لمبتدأ محذوف، المعنى: هذا قدر الله، وتقول: "إنا لله، وإنا إليه راجعون"، ولا تجزع، ولا تسخط، ولا تقل: لو أني فعلتُ كذا، لو أني ذهبتُ للطبيب ما مات، لو أني سافرتُ إلى كذا ما جرى هذا. هذا غلط، قدر الله نافذ، لو أراد الله شيئًا لفعلته، ولكن الله أراد أنه ينفذ هذا القدر.

فعليك أن تصبر لحكم الله، وأن تقول: إنا لله، وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل. ولا تجزع، ولا تقل: لو أني فعلتُ كذا لكان كذا وكذا؛ فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان يعني: تفتح عليك عمل الشيطان الذي قد يُفضي إلى الجزع والتَّسخط وعدم الرضا بقدر الله، وعدم الصبر، وسوء الظن بالله، فهو عدو الله يُلقي عليك هذه الكلمة: لو، لو؛ حتى يقع في قلبك من الشُّرور وسُوء الظن ما لا ينبغي أن يقع في قلبك، ولكن تقول: "قدر الله وما شاء فعل، إنا لله، وإنا إليه راجعون"، ويقول سبحانه: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155- 157]، ويقول ﷺ: ما من عبدٍ يُصاب بمصيبةٍ فيقول: إنا لله، وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مُصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله في مُصيبته، وأخلف له خيرًا منها.

والحديث الثالث: حديث عياض بن حمار المجاشعي التَّميمي، يقول ﷺم: إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يبغي أحدٌ على أحدٍ، ولا يفخر أحدٌ على أحدٍ.

وهذا حديث عظيم يدل على أنَّ الواجب على المؤمن ألا يفخر، وألا يتكبر، بل عليه التواضع لإخوانه، وعدم التكبر عليهم، وعدم الفخر؛ ولهذا قال: حتى لا يبغي أحدٌ على أحدٍ فيتعدَّى، ولا يفخر أحدٌ على أحدٍ.

فالواجب التواضع فيما بينه وبين إخوانه، كما يتواضع لله، ويخضع لله، ويُؤدي حقَّه، هكذا يتواضع لإخوانه، ولا يتكبر عليهم بنسبٍ أو مالٍ أو وظيفةٍ أو غير ذلك، ولا يفخر عليهم بنسبٍ أو مالٍ أو غير ذلك، بل يتواضع ويعتبرهم إخوانه في كل شيءٍ، وقد يكونون أفضل منه، لو تأمل قد يكونون أفضل منه في علمهم وأعمالهم، لكن قد يعميه عن ذلك الكبر والهوى.

فالواجب على المؤمن أن يتواضع لله؛ حتى يعرف قدر إخوانه، وحتى يعرف لهم حقَّهم، وحتى يُنصفهم فيما يتعلق بحقوقهم عليه.

والرابع حديث أبي الدَّرداء: يقول النبيُّ ﷺ: مَن ردَّ عن عرض أخيه بالغيب ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة.

وهكذا حديث أسماء بنت يزيد شاهد في الباب، والمعنى: أن المؤمن إذا سمع مَن يتكلم في عِرض أخيه يرد عنه ويقول: اتَّقِ الله يا فلان، دع عنك هذا الكلام. إذا سمعه يقول: فلان بخيل، فلان شرس الأخلاق، فلان كذا، فلان كذا. يقول: اتَّقِ الله، دع هذا، هذا من الغيبة.

ولما قال رجلٌ عند النبي ﷺ في غزوة تبوك لما تخلف كعب قال: شغله النظر في عطفيه وكذا وكذا. قال: قام معاذ وقال: ما علمنا عليه إلا خيرًا. فدلَّ ذلك على أنَّ المؤمن يرد عن عِرض أخيه بالغيب، ولا يسكت وهو يسمع الغيبة، بل يتكلم ويقول: اتَّقِ الله يا فلان، دع هذا عنك، لا ينبغي لك هذا، لا يجوز لك هذا. من باب التعاون على البر والتقوى، ومن باب إنكار المنكر، ومن باب الرد عن عِرض أخيه؛ حتى لا يتساهل الناسُ في هذا ويتوسعوا في هذا؛ فتقع الشَّحناء والعداوة بين الناس.

والخامس حديث أبي هريرة : يقول ﷺ: ما نقص مالٌ من صدقةٍ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه، هذه ثلاث خصال عظيمة، فالمال لا تنقصه الصدقة، بل يزيده الله بركةً وخيرًا.

فينبغي للمؤمن الصَّدقة، ولا يخشى الفقر، الصدقة في محلها، من غير إسرافٍ، ومن غير إضاعةٍ لمن تحت يديه، بدأ بمَن تعول، فيتصدق من الفضل الذي أعطاه الله، وله من الله الوعد بالخلف: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، فالصدقة تزيد بركةً، وتزيد خيرًا، ولكن عليه أن يتحرى ما شرع الله في ذلك.

وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا بعض الناس قد يظن أنه إذا عفا يكون ذليلًا يحقره الناس، هذا غلط، العفو لا يزيده إلا عزًّا، ما يزيده ذلةً، العفو يزيده عزًّا عند الله وعند المؤمنين إذا كان العفو في محله.

الثالث: وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه قد يظن بعض الناس أن التَّواضع ذلٌّ، وأنه مهانة، وأنه ضعف، لا، التواضع عزة وكرامة، وإيمان وتقوى، وخوف من الله ، فهو لا يزيده إلا رفعةً عند الله وعند المؤمنين، فلا ينبغي أن يتخيل أن عفوه ذلٌّ، ولا أن تواضعه ذلٌّ، بل ينبغي له أن يعرف أنَّ عفوه عزٌّ وكرمٌ، وأن تواضعه لله ولإخوانه عزٌّ وكرمٌ، وأنه لا يزيده الله بذلك إلا رفعةً، ولا يزيده الله بذلك إلا محبَّةً في قلوب المؤمنين، فلا يدع العفو، ولا يدع التَّواضع.

والحديث السادس: حديث عبدالله بن سلام الإسرائيلي ، أسلم قديمًا من حين هاجر النبيُّ ﷺ إلى المدينة ، يقول: إنه سمع النبيَّ يقول: أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنةَ بسلامٍ.

كل هذا من مكارم الأخلاق، كل هذه من محاسن الأعمال: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وصلة الأرحام، والصلاة بالليل والناس نيام، كلها من مكارم الأخلاق.

وقد قال هذا الكلام حين قدم المدينة عليه الصلاة والسلام، قال: أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنةَ بسلامٍ.

هذه الأخلاق تُوجب محبَّة الله له، ومحبة العباد جميعًا: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وصلة الأرحام محبَّة بين الناس، وكونه يقوم بالليل والناس نيام ذكرٌ له عند الله ، مما يذكره الله به ويُحبه عليه ، فينبغي للمؤمن أن يتخلق بهذه الأخلاق.

ولما سُئل عليه الصلاة والسلام: أي الإسلام أفضل؟ قال: أن تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على مَن عرفتَ ومَن لم تعرف.

فإطعام الطعام فيه فوائد للضيف والفقير والغريب، إذا عرف الغريبُ والضعيفُ أنَّ هذا البيت فيه إطعام طعامٍ قصد إليه وأكل، وقد يكون مُضطرًّا إلى ذلك، من أسباب تقارب القلوب، وتحابّ المسلمين، وعدم الوحشة بينهم.

وصلة الأرحام كذلك: محبّة القرابة، ومُواساة لهم، وإحسان إليهم، وعون على تفقد أحوالهم، وقربهم منك، وسماعهم لكلامك، وانتفاعهم بعظتك، فإذا أهملتهم وأضعتهم أبغضوك، ولم يسمعوا لك.

أما الصلاة بالليل والناس نيام ففضلها عظيم، وعواقبها حميدة، وهي من صفات الأخيار من عباد الله، فينبغي للمؤمن أن يفعلها؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا ورسوله دعوا إليها، وأمرا بها، وحثَّا عليها؛ ولما فيها من الخير العظيم؛ ولأنها من صفات الأخيار من أصحاب النبيِّ ﷺ ومَن بعدهم، والله أعلم.

1546- وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: قَالَ ﷺ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ ثَلَاثًا، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

الشيخ: المعروف في رواية مسلم ما فيها: ثلاثًا، إنما رواها أبو داود وجماعة زيادة: "ثلاثًا"، المعروف في نسخ مسلم التي قرأناها ما فيها "ثلاث"، الدِّين النَّصيحة فقط، لكن زاد أبو داود وجماعة: "ثلاثًا" في رواية تميم، وفي رواية ابن عمر أيضًا، وفي روايات أخرى، ولعلها رواية، تُراجع ..... النووي، أو ..... لعلها رواية، لكن المشهور في رواية مسلم من دون ذكرها.

1547- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ تَقْوى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

1548- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ. أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

1549- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

1550- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: المُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الصَّحَابِيَّ.

1551- وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اللَّهُمَّ كَمَا أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها تدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال كما ذكر المؤلفُ في أول الترجمة، والله جلَّ وعلا بعث نبيَّه ﷺ ليدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وأعظمها توحيد الله والإخلاص له، هو أعظم الأخلاق العظيمة، وهو أفضلها، ففيه الخلق العظيم الذي يليق بالعبد أن يصف به ربَّه، وأنه سبحانه المستحق للعبادة، فأحسن الأخلاق وأعظمها وأكرمها أن يكون العبدُ عابدًا لله وحده، خالصًا له بالعبادة، تاركًا للشرك به .

روى أحمدُ رحمه الله بإسنادٍ جيدٍ عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: إنما بُعثتُ لأتمم صالح الأخلاق، رواه الخرائطي أيضًا بسندٍ لا بأس به بلفظ: إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق.

وهو مبعوثٌ ﷺ ليدعُ الناس إلى مكارم الأخلاق التي منها توحيده، والإخلاص له، وامتثال أوامره، وترك نواهيه جلَّ وعلا، والوقوف عند حدوده.

ويدخل في ذلك كلُّ ما هو خلق كريم: من الإحسان إلى الناس، ودعوتهم إلى الخير، والصبر على أذاهم، ونصر المظلوم، وردع الظالم، إلى غير هذا من الأخلاق التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، ومن هذا النَّصيحة.

الحديث الأول: حديث تميم الدَّاري رحمه الله، وهو أبو رقية، عن النبي ﷺ أنه قال: الدِّين النَّصيحة، كررها ثلاثًا بعدة روايات، من حديث ابن عمر، ومن حديث تميمٍ في غير مسلم: الدِّين النَّصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامَّتهم.

ولا ريب أنَّ النصيحة من أعظم مكارم الأخلاق، ومن أعظم خصال المؤمن، ومن الدلائل على صفاء قلبه، وقوة رغبته في الخير، فالنَّصيحة أمرها عظيم، وببذلها والتَّعاون فيها تصلح المجتمعات، وتصلح الأُسَر، وبالغفلة والإعراض عنها تكثر الشرور، وتقل الخيرات، وتعظم الشحناء، ويحصل التفرق؛ ولهذا قال: الدين النَّصيحة، فجعل الدِّين كله نصيحة.

والمعنى: أن الدين يعود إلى النَّصيحة في الأخلاق والأعمال، فالدين كله نصيحة: فالتوحيد نصيحة لله، وأداء أوامر الله، وترك نواهي الله، نصيحة لله، وتعظيم كلام الله، والإيمان بأنَّ كلامه سبحانه حقٌّ، وأنه مُنزل مُنزَّهٌ عن كل باطلٍ، وأنه لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، واتِّباع أوامره، وترك نواهيه، كل هذا من النَّصيحة لكتاب الله.

وهكذا النَّصيحة للرسول ﷺ بالإيمان به، واعتقاد أنه رسول الله حقًّا، وأنَّ الله بعثه للناس كافَّة، وأنه بلغ البلاغ المبين، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وأنه خاتم النَّبيين، كل هذا من النَّصيحة للرسول عليه الصلاة والسلام، وأعظم ذلك: اتِّباع شريعته، والاستقامة عليها، والمحافظة عليها، والموالاة فيها، والمعاداة فيها، والدَّعوة إليها، كل هذا من النَّصيحة للرسول عليه الصلاة والسلام.

ثم النَّصيحة لأئمة المسلمين بالتَّعاون معهم على الخير، ودعوتهم إليه، وتوجيههم إليه، والحثّ على السمع والطاعة لهم في المعروف، والتحذير من المنازعة والخروج عليهم، إلى غير هذا مما ينفعهم وينفع المسلمين، والدعاء لهم بظهر الغيب بالتوفيق والهداية وصلاح الحال، كل هذا من النَّصيحة لولاة الأمور.

أما النصيحة لعامَّة المسلمين فهي أنواع كثيرة: منها دعوتهم إلى الخير، وتعليمهم، وتوجيههم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وإقامة الحدود عليهم، إلى غير هذا مما ينفعهم.

الحديث الثالث حديث أبي هريرة : يقول ﷺ: أكثر ما يُدخل الناسَ الجنة تقوى الله وحُسن الخلق، هذا من أعظم مكارم الأخلاق: أن يتَّقي ربَّه، وأن يُحسن خلقه، فتقوى الله تستدعي فعل أوامره، وترك نواهيه، وإقامة الحدود، والصبر على الحقِّ، والكفّ عن الأذى، فتقوى الله تجمع كل خيرٍ، مع أنَّ حُسن الخلق هو من تقوى الله، حُسن الخلق من تقوى الله؛ بأن يُحسن خلقه مع إخوانه في جميع الأحوال، وهكذا في حال الدَّعوة إلى الله لا يكون فظًّا ولا غليظًا، كل هذا جماع الخير.

وفي اللفظ الآخر: إنكم لن تسعوا الناسَ بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحُسن الخلق، فحُسن الخلق أشمل، وبسط الوجه من حُسن الخلق؛ ولهذا عطفه عليه.

تقدم قوله ﷺ: البر: حُسن الخلق، وتقدم في الحديث: ما من شيءٍ في الميزان أثقل من حُسن الخلق، وقوله ﷺ في الحديث الصحيح: إنَّ أحبَّكم إليَّ وأقربكم مني منزلةً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقًا.

وتقدم قوله ﷺ: لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ، وفي لفظٍ: طليقٍ.

كل هذا من حُسن الخلق، وهكذا حديث: المؤمن مرآة أخيه المؤمن، وحديث المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.

كل هذا من مكارم الأخلاق: كونه ينصح لأخيه، يكون مرآةً له يُريه عيوبه، وينصحه بتركها، ويُريه حسناته ويحثّه على الثبات عليها والقيام بها والاستمرار فيها، المرآة تُريك ما في وجهك، وما أمام المرآة مما قد لا تراه؛ فتزداد في إصلاحه، تُريك عيب وجهك، عيب رقبتك، أشياء قد لا تراها، ولا تفطن لها، فالمؤمن مرآتك: يُريك حسناتك وسيئاتك، وينصحك ويُوجهك إلى الخير.

وهكذا الذي يصبر على الناس ويُخالطهم، ويدعوهم إلى الحقِّ، ويزجرهم عن الباطل، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر؛ خيرٌ من الذي يعرض ويبقى في بيته.

وقوله ﷺ: اللهم كما حسَّنْتَ خلقي فحسِّن خلقي، هذا فيه طلبٌ من الله جلَّ وعلا أن يُحسن خلقه، وهذا أيضًا من طلب مكارم الأخلاق، فإنَّ دعاءه الرب وسؤاله إياه أن يُحسن خلقه معناه أن يطلب أن يُعطى مكارم الأخلاق، فإن تحسين الخلق من مكارم الأخلاق، فالإنسان إذا صار عنده شيء من الشدة، شيء من سوء الخلق، فينبغي له أن يضرع إلى الله ويسأله من فضله، وأن يُجاهد نفسه في ذلك ويُعودها الخير، فحُسن الخلق يُكتسب أيضًا؛ يُكتسب بالمجاهدة، وبطلب الله جلَّ وعلا أن يُعينه على ذلك، فقد يكون الإنسانُ غليظًا، وقد يكون شديدًا، وقد يكون شرس الأخلاق، ولكن بالتَّمرن والتَّدرب وسؤال الله التوفيق والهداية ومُعالجة النفس وجهادها يُعطى خيرًا كثيرًا.

وفَّق الله الجميع.

س: إذا كان الواحدُ ما يقدر [أن] يصبر على الأذى؟

ج: يُجاهد نفسه حتى يقوى، الإنسانُ يحتاج إلى جهادٍ.

س: ...............؟

ج: إذا قال هذا حسن، مثلما قال النبيُّ، أقول: حسن، لكن يقوله في كل حالٍ، في جميع الأحوال، ولو ما نظر إلى المرآة؛ لأنَّ هذا طلب هو في حاجةٍ إليه.

س: ................؟

ج: على كل حالٍ هذا الطلب في جميع الأحوال، يسأل ربَّه هذا في جميع الأحوال، وإن نظر في المرآة ورأى ما أنعم الله يشكر الله ويسأله المزيد من فضله.

س: الأحاديث هذه كلها ثابتة؟

ج: ما أعلم فيها شيئًا، ما أعلم فيها ضعفًا، وسكوت المؤلف عليها كذلك.

بَابُ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ

1552- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا.

1553- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

1554- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1555- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ.

1556- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ... عَشْرَ مَرَّاتٍ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1557- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِئَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1558- وَعَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْم لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

الشيخ: هذا الباب في الذِّكر والدعاء، ختم به المؤلفُ الكتاب، والمناسبة ظاهرة؛ لأنَّ الذكر والدعاء تُختم به الحياة، تُختم به المجالس، تُختم به الصَّلوات، يُختم به الصيام، فذكر الله جلَّ وعلا مطلوب دائمًا في أول الحياة، وفي آخرها، وفي أثنائها، وفي كل عملٍ؛ ولذلك شرع الله جلَّ وعلا الذكر في جميع الأوقات، وندب العباد إلى الذكر دائمًا في كل شيءٍ، قال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41- 42].

وأول الدِّين وأول الإسلام ذكر، وقول: "لا إله إلا الله" أول كلمةٍ يقولها المسلمُ ويدخل بها الإسلام ذكر، وهي أعظم الذكر: "لا إله إلا الله"، ومَن كان آخر كلامه "لا إله إلا الله" دخل الجنة.

فهذا الذكر العظيم مأمورٌ به العبد دائمًا في جميع الأحوال: في صغره وكبره، وشيبته وشبابه، ومرضه وصحته، وسفره وإقامته، وعند موته، وفي جميع الأحوال، وفيه خير عظيم، وفضل كبير، مع خفَّته وسهولته.

فينبغي للمؤمن ألا يزال لسانه رطبًا من ذكر الله؛ ولهذا قال رجلٌ: يا رسول الله، إنَّ الشَّرائع قد كثرت عليَّ، فأخبرني ببابٍ جامعٍ أتشبث به، فقال : لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله، وقال عليه الصلاة والسلام: سبق المفردون، قيل: يا رسول الله، وما المفردون؟ قال: الذَّاكرون الله كثيرًا والذَّاكرات.

فذكر الله جلَّ وعلا فيه الخير العظيم، والفائدة العظيمة، سواء كان قوليًّا أو عمليًّا أو قلبيًّا:

فالذكر يكون بالقلب: كتعظيم الله ومحبَّته والشَّوق إليه، وخوفه ورجائه، والتَّذكير بحقِّه عليك.

والذكر يكون باللِّسان: من قول "لا إله إلا الله"، و"سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله"، ومن الاستغفار والدعاء، وغير ذلك مما يقوله اللِّسانُ مما يُحبه الله.

ويكون بالأعمال: من صلاةٍ وصومٍ وجهادٍ وصدقات، وغير ذلك؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: يقول الله : أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاههذه معية خاصَّة تقتضي رحمته له، وتأييده له، وتوفيقه، مثلما قال جلَّ وعلا في قصة موسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، وفي قصة محمد: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، هذه يُقال لها: معية خاصَّة التي تقتضي محبَّة الرب للعبد، وثناءه عليه، وتوفيقه له، وتأييده له، وإعانته له على الخير.

وهناك معية عامَّة مع العباد جميعًا، كما قال سبحانه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] يعني: بعلمه واطِّلاعه وقُدرته عليهم .

والحديث الثاني: يقول عليه الصلاة والسلام: ما عمل ابنُ آدم عملًا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله.

هذا فيه حثٌّ على الذكر، ولا يقتصر على اللِّسان مثلما تقدم، بل يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالعمل.

والمقصود من هذا التَّحذير من الغفلة، قال الله في أهل النار: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، وقال : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، فالغفلة عن الله وعن ذكره هي مفتاح الشَّر وطريق الشيطان: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ۝ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36- 37]، فينبغي الإكثار من ذكر الله.

وهكذا قوله ﷺ: ما جلس قومٌ مجلسًا يذكرون الله فيه إلا حفَّتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السَّكينة، وذكرهم الله فيمَن عنده، وهكذا إذا اجتمعوا على دراسة القرآن، جاء في هذا المعنى أيضًا، وهكذا قوله ﷺ: ما جلس قومٌ مجلسًا لا يذكرون الله فيه، ولم يُصلوا على النبي ﷺ إلا كان عليهم حسرةً، وفي لفظٍ: إلا قاموا عن مثل جيفة حمارٍ.

هذا فيه الحثُّ على عمارة المجالس بذكر الله واستغفاره ودعائه، والصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام، أو بقراءة ما تيسر من القرآن.

المقصود أنه لا ينبغي أن تكون المجالسُ عاريةً من هذا الخير، بل تكون معمورةً بما تيسر من ذلك: من قراءة القرآن، أو ذكر الله، أو الاستغفار، أو الدعاء، أو صلاة على النبي ﷺ، وإذا جمع بين ذلك صار أكبر وأعظم.

وهكذا حديث أبي أيوب، وهو الحديث الخامس: يقول ﷺ: مَن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، عشر مرات، كان كمَن أعتق أربعة أنفسٍ من ولد إسماعيل رواه الشيخان: البخاري ومسلم في "الصحيحين".

وهذا فيه فضل عظيم، عشر مرات، لكن مع الإيمان، ومع التَّصديق؛ لأنَّ هذه الكلمات إنما تنفع مع الإيمان والصدق، مَن قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير" يعني: مُعتقدًا لها، مُؤمنًا بمعناها، مُعتقدًا أنه لا معبودَ حقّ إلا الله : كان كمَن أعتق أربعة أنفسٍ -من العرب المستعربة- من ولد إسماعيل.

وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: مَن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، زاد الترمذي: يُحيي ويُميت، وهو على كل شيءٍ قدير، مئة مرةٍ في يومٍ كانت له عدل عشر رقابٍ، وكتب الله له مئة حسنةٍ، ومحا عنه مئة سيئةٍ، وكان في حرزٍ من الشيطان ذلك اليوم حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به، إلا رجلٌ عمل أكثر من عمله خرَّجه الشيخان في "الصحيحين".

وهذا حديث عظيم لا ينبغي للمُسلم أن يدعه، هذه الأشياء ينبغي للمسلم أن يُحافظ عليها كل يومٍ، ويُكثر منها، ولا سيما أهل العلم يُقتدى بهم.

هذه أذكار عظيمة، وفيها فوائد جمَّة، مع الصدق والإخلاص والرغبة فيما عند الله .

وهكذا حديث أبي هريرة : يقول ﷺ: مَن قال: سبحان الله وبحمده، مئة مرةٍ؛ حُطَّت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر.

هذا فيه فضل التَّسبيح؛ لأنه تقديسٌ لله، وثناء عليه.

زاد أبو داود: سبحان الله العظيم وبحمده مئة مرة.

فينبغي أن يُقال ذلك مئة مرة صباحًا ومساءً، وعند مسلم: مَن قال ذلك حين يُصبح وحين يُمسي، فينبغي أن يُقال هذا عند الصباح وعند المساء.

ولو ذكر المؤلفُ حديث "لا إله إلا الله مئة مرة" هنا لكان أنسب، وكأنه ذهل عنه عند جمع هذا الكتاب رحمه الله.

وهكذا حديث جُويرية، وهو الحديث السابع: يقول ﷺ لما دخل عليها وهي في مُصلاها من صلاة الفجر، حتى أضحت وهي في مُصلاها تُسبح وتذكر الله رضي الله عنها، وهي أم المؤمنين، قال: لقد قلتُ بعدك كلمات لو وُزنت بما قلت اليوم لوزنتهنَّ: سبحان الله العظيم وبحمده عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته.

فهذا يدل على فضل هذه الكلمات، وأنها تُكرر ثلاث مرات: "سبحان الله العظيم وبحمده عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه"، زيادة من وجه: "سبحان الله مداد كلماته"، هذه الأربع كلمات لها شأن عظيم، ينبغي المحافظة عليها.

وفَّق الله الجميع.

س: ..............؟

ج: هذا يأتي، هذا حديث آخر.

س: ................؟

ج: يعني: أُنزهك، حامدًا لك يعني: أُنزهك بحمدي لك وثنائي لك، منَزَّه عن صفات النَّقص، مع حمده والثناء عليه.

س: ................؟

ج: يُجاهد نفسه حتى يتأمل ويستفيد، وإذا أكثر منها دخل في قلبه ذلك، واستقرَّ في قلبه ذلك، وهُدي إلى التَّذكر والتَّعقل، المهم أن يعتادها ويُكثر منها، وعليه أن يتحرى الصدق في ذلك، والعمل بمُقتضاها.

س: ...............؟

ج: يُروى هذا، والمقصود الإكثار من هذا هو الذي ينبغي للمؤمن ......

س: ذكر الله في المجلس هل يكون علنًا أو .....؟

ج: لا، علنًا حتى يتأسَّى بعضُهم ببعضٍ؛ حتى يستفيد هذا من هذا.

س: ...............؟

ج: لا، لا يتعمد [أن] يكون جماعيًّا، بل هذا يذكر، وهذا يذكر، لكن الجماعي ما له أصل

1559- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

1560- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1561- وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

زَادَ النَّسَائِيُّ: وَلَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ.

1562- وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ. رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

1563- وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَفْظِ: الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ.

1564- وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

1565- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الدُّعَاءُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لَا يُرَدُّ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ.

1566- وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا. أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها من الدلالة على فضل الذكر والدعاء، وأنه ينبغي للمؤمن أن يُكثر من الذكر والدعاء، وأنَّ ذلك من رحمة الله وفضله، حيث أحسن إلى عباده، وشرع لهم أنواعًا من الذكر والدعاء تنفعهم النَّفع العظيم، ولا تُكلفهم كثيرًا، ولا تشقّ عليهم، فهذا من نعم الله العظيمة، فإنَّ الأذكار كلها خير وهدى، وكلها رحمة، وكلها تزيد المؤمن درجات وحسنات، وتكفير سيئات، مع قلة المؤنة، وقلة المشقة، فهذا من رحمة الله وفضله .

ولهذا أكثر في كتابه العظيم من الحثِّ على ذلك؛ لما فيه من الخير العظيم، والفائدة العظيمة، والعاقبة الحميدة للذاكرين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41- 42]، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].

ويقول ﷺ: سبق المفردون، قيل: يا رسول الله، مَن المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذَّاكرات، وقال جلَّ وعلا: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ الآية [البقرة:186].

فينبغي للمؤمن أن يُكثر من الدُّعاء، ومن ذكر الله أينما كان: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191].

في هذا الحديث يقول ﷺ: الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله يعني: أنها من الباقيات الصَّالحات.

فالباقيات الصَّالحات: الأعمال التي تبقى للمؤمن وتنفعه في الآخرة إذا فعلها لله، وأدَّاها لله مخلصًا، فهذه كلمات عظيمة، كثيرة المؤنة، يسيرة المؤنة، ونفعها عظيم: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله يقول سبحانه: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46]، وفي الآية الأخرى: وَخَيْرٌ مَرَدًّا [مريم:76]، فينبغي للمؤمن أن يُكثر منها؛ لعظم شأنها.

وهكذا قوله ﷺ: أحب الكلام إلى الله أربع، لا يضرُّك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، سواء بدأت بالتَّسبيح، أو بالتَّحميد، أو بلا إله إلا الله، أو بالتكبير، كله واسع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. أو قلت: لا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر. أو قلت: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله. كله واسع؛ ولهذا قال: لا يضرك بأيهن بدأت.

فينبغي أن يُكثر من ذلك؛ لأنها كثيرة المؤنة، عظيمة النفع والجدوى والأجر.

وهكذا حديث أبي موسى: ألا أدلك على كنزٍ من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.

وجاء في هذا المعنى عدة أحاديث تدل على فضل هذه الكلمة: "لا حول ولا قوة إلا بالله".

وفي زيادةٍ أخرى: ولا ملجأ من الله إلا إليه.

هذه الكلمة تُفيد التَّجرد من الحول والقوة، وأن كل شيءٍ بيده ، وأن العبد ضعيف، ليس له قدرة ولا حول ولا تصرف إلا بالله وحده .

"لا حول ولا قوة إلا بالله" المعنى: لا حول لي على شيءٍ، ولا قوة لي على شيءٍ إلا بالله وحده ..... تنصل وتجرد من حولك وقوتك، وإقرار بذلك لله وحده ، وهذا تحقيق لتوحيد الربوبية، الذي هو الدليل والبرهان على توحيد العبادة والألوهية، فإنَّ مَن أقرَّ أن ربه هو صاحب الحول والقوة، بيده كل شيءٍ، كان هذا مما يدعوه إلى إفراده بالعبادة، وتخصيصه بالعبادة، وطاعة أوامره، وترك نواهيه : لا حول ولا قوة إلا بالله، وهي كلمة عظيمة، ولا سيما عند الشَّدائد والكروب؛ فإنَّ الله يُعين العبد بها على تسهيل أموره، وتفريج كرباته؛ لأنه اعترف بالشيء لأهله، وهو الله وحده ، لا حول ولا قوة إلا بالله.

وكذلك حديث النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري وعن أبيه، يقول النبيُّ ﷺ: الدعاء هو العبادة.

هذا يدل على عظم شأن الدُّعاء، وأنه هو العبادة، حصره في العبادة لعظم شأنه، مثل: الدين النصيحة، الحج عرفة، بين عظم شأن الدعاء، وما ذاك إلا لأنَّ الدَّاعي معترف بأن ربَّه هو الغني الذي يطلب منه الجود والكرم ، وهو سميع الدعاء؛ ولهذا دعاه، وهو القادر على إجابة الدعوة، وهو الرؤوف، وهو الرحيم، وهو اللطيف؛ ولهذا صار دعاؤه يتضمن وصف الله بصفاتٍ كثيرةٍ، دعاؤك إياه يتضمن اعترافك بغناه، وأنه هو الجود والكرم؛ ولهذا طلبته، يتضمن أنه يسمع دعاءك، مع كونه فوق السماء، فوق العرش جلَّ وعلا، ويتضمن أنه رحيم يرحم الدَّاعين، ويُجيب دعوتهم، ويتضمن أنه عليم بحالك، لا تخفى عليه خافية.

فالدعاء هو العبادة، فينبغي الإكثار منه؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، فسمَّى الدُّعاء عبادة: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ يعني: صاغرين، حقيرين، فالتكبر عن الدُّعاء من صفات الجبابرة، من صفة مَن عُدِمَ الإيمان، أما المؤمن فإنه يعتقد أنَّ ربه جلَّ وعلا هو الكريم، وهو الجواد، وهو الغني الحميد، وهو اللَّطيف بعباده، السميع لدعائهم، فيلجأ إليه ويسأله بالرخاء والشدة: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.

وفي اللفظ الآخر: الدعاء مخُّ العبادة، هذه الرواية وإن كان فيها ضعف، لكنها داخلة في المعنى: الدعاء هو العبادة، فإنَّ مخَّ الشيء خالصه، فالمعنى فيه حصر أنَّ الدعاء هو العبادة الحقيقية التي فيها الاعتراف بكل شيءٍ مما يليق بالله.

والدعاء دعاءان:

  • دعاء العبادة: وهو ذكر الله وتوحيده وطاعته.
  • ودعاء المسألة: وهو طلب الحاجة من الله .

فالدعاء بنوعيه هو العبادة، سواء كان دعاء مسألةٍ: كاغفر لي، وارحمني، وأنجني، وارزقني. أو دعاء عبادةٍ: كالحمد والصلاة والصوم، فإنه دعاء؛ فإنَّ المصلي إنما صلَّى يطلب، وإنما صام يطلب، وإنما حجَّ يطلب، فهو بحجه أو صلاته أو صومه أو استغفاره أو تسبيحه إنما فعل هذا يطلب الثوابَ من الله، يرجو منه الثواب، يريد منه الثواب ، فهو داعٍ في الحقيقة، فالمصلي داعٍ، والصائم داعٍ، والحاج داعٍ.

وهكذا مَن سأل باللَّفظ: كاغفر لي، وارحمني، وأنجني، وارزقني، فهو سائل، وهو داعٍ.

فالدعاء سواء كان دعاء عبادةٍ: كالصلاة والصوم، أو دعاء مسألةٍ: كاغفر لي، وارحمني، هو العبادة، فالإكثار من هذا ومن هذا إكثار من العبادة.

فينبغي للمؤمن ألا يملَّ، وألا يعجز، وألا يضعف، بل يُكثر من الدعاء فهو خير، مأجور على دعائه، أما الحاجة فقد تُنجز لحكمةٍ، وقد تُؤخر لحكمةٍ، كما في الحديث الصحيح: يقول ﷺ: ما من عبدٍ يدعو الله بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تُدخر له دعوته في الآخرة، وإما أن تُعجل في الدنيا، وإما أن يُصرف عنه من الشَّر مثل ذلك، قالوا: يا رسول الله، إذًا نُكثر، قال: الله أكثر، ففي هذا أنَّ دعاءك لا يضيع عليك، بل أنت في دعائك على خيرٍ: أجرٌ لك يُعجَّل، وحاجة تُقضى، أو تُؤجل، أو تُعطى خيرًا منها وأفضل منها، فربك حكيم عليم .

كذلك حديث أنسٍ: الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُرَدُّ، ويُعرف أنَّ الدعاء له أوقات يُجاب فيها أكثر، فينبغي للمؤمن أن يتحرى الأوقات التي تُناسب، ويكون الدُّعاء فيها أقرب للإجابة؛ لأنه في حاجةٍ إلى ذلك، مثل: كونه يتحرى الأوقات المناسبة حتى تُجاب دعوته له، فهو مأمور بهذا، ومشروع له هذا.

ومن ذلك: ما بين الأذان والإقامة، ومن ذلك: آخر الليل، ومن ذلك: جوف الليل، ومن ذلك: آخر الصلاة؛ حيث قال ﷺ: ثم ليختر من المسألة ما شاء بعد التحيات، ومن ذلك: السجود؛ يقول ﷺ: أقرب ما يكون العبدُ من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدُّعاء، ويقول: أما الركوع فعظِّموا فيه الربّ، وأما السجود فاجتهدوا في الدُّعاء؛ فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم.

فالمؤمن يتحرى الأوقات والهيئات المناسبة التي وُعد فيها الإجابة، وإن كان الدعاءُ مطلوبًا في كل وقتٍ، وفي كل حينٍ، والله وعد بالإجابة مطلقًا، سواء دعوته في الصلاة، أو في خارج الصلاة: في الليل، أو في النهار، بين الأذان والإقامة، وفي غير ذلك، لكن تحري الأوقات التي جاء فيها نصٌّ خاصٌّ يكون ذلك أكمل: في آخر الصلاة قبل السلام، وفي آخر الليل عند التنزل الإلهي، وفي جوف الليل الآخر، وما بين الأذان والإقامة، وهكذا عند الكروب والشدة: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62].

فينبغي للمؤمن أن يتحرى هذه الأوقات، ومع ذلك يدعوه في الأوقات الأخرى، يكون حريصًا، ويكون مُكْثِرًا من الدعاء؛ فإن الله يُحب من عباده أن يسألوه، وأن يضرعوا إليه، وأن يُكثروا من ذلك؛ لأنَّ في دعائهم إياه اعترافًا بجوده وكرمه وإحسانه إلى عباده، وقُدرته على الإجابة، وسمعه للدَّاعي، وعلمه بحال الداعي، وفي اللفظ الآخر: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء، وما ذاك إلا لما فيه من اعتراف الدَّاعي، فإنَّ ربه يسمع دعاءه، وأنه على كل شيءٍ قدير، وأنه جواد كريم، وأنه الرحمن الرحيم؛ ولهذا دعاه.

س: ................؟

ج: إذا جمع بين الأمرين يكون أفضل: إذا تصدق وذكر الله يكون أفضل، مثل: المجاهد الذي يذكر الله، والذي لا يذكر الله، الذاكر أفضل من مُقسم الدَّراهم وهو غافل، وأفضل من المجاهد وهو غافل، لكن مما ينبغي للمؤمن أن يكون ذكر الله مع كل عملٍ: مع صدقته، ومع جهاده، ومع عيادته للمريض، ومع جميع أحواله يذكر الله بقلبه ولسانه.

كذلك حديث سلمان الفارسي ، يقول: عن النبي ﷺ أنه قال: إنَّ ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردّهما صفرًا.

هذا فيه الحثُّ على رفع اليدين عند الدعاء، وأنَّ رفع اليدين في الدُّعاء من أسباب الإجابة، فينبغي رفعهما عند الدعاء رجاء الإجابة؛ وامتثالًا لهذا الحديث وما جاء في معناه.

وكان عليه الصلاة والسلام في كثيرٍ من الأحيان يرفع يديه ويُلح في الدُّعاء عليه الصلاة والسلام، ولما وقف في عرفة رفع يديه ودعا في حجة الوداع، وهكذا في مُزدلفة وقف في المشعر الحرام صباح يوم النحر ورفع يديه ودعا، وهكذا على الصفا والمروة رفع يديه ودعا في السعي عليه الصلاة والسلام، وهكذا لما دعا عند الجمرتين: الجمرة الأولى، والجمرة الثانية، رفع يديه ودعا عليه الصلاة والسلام، وهكذا في الاستسقاء رفع يديه ودعا، وبالغ في ذلك عليه الصلاة والسلام.

فكل موضعٍ رفع فيه النبيُّ يُشرع لنا الرفع فيه؛ اقتداءً به عليه الصلاة والسلام، وهكذا المواضع التي لم يرفع فيها لا، نعلم أنه رفع فيها لنا أن نرفع عند الدعاء؛ فهو من أسباب الإجابة، أما المواضع التي فعلها ولم يرفع فإنا لا نرفع فيها؛ فإن الأحوال ثلاثة:

  • حال رفع فيها، نرفع فيها.
  • وحال ترك الرفع فيها لا نرفع فيها.
  • وحال لم يرد فيها شيءٌ نرفع فيها؛ لأنه من أسباب الإجابة.

ومن الحال الوسطى التي فعلها ولم يرفع: دعاؤه بين السَّجدتين ما رفع فيه، بين السجدتين دعاؤه في التَّحيات ما رفع يديه، قبل أن يُسلم دعا من دون رفعٍ.

ومن ذلك: بعد السلام، إذا سلَّم من الفريضة ما كان يرفع، فيدعو بينه وبين نفسه، ولكن لا يرفع يديه، كما أنه لم يرفع قبل السلام، فهكذا بعد السلام.

المواضع التي فعلها ﷺ بين أمته وأصحابه ولم يرفع لا نرفع، والمواضع التي فعلها ورفع نرفع فيها، كما في رفعه في عرفة، وفي مُزدلفة، وفي السعي على الصفا والمروة، وعند الجمرتين، وفي الاستسقاء.

وهكذا يوم الجمعة في خطبة الجمعة، وفي خطبة العيد ما رفع، فلا نرفع، فالذي يرفع في خطبة الجمعة يكون مُخالفًا للسنة؛ لأنَّ النبي خطب الناس في الجمعة ولم يرفع يديه، فدلَّ ذلك على أنا نتحرى فعله ﷺ وسنته: حيث رفع رفعنا، وحيث ترك تركنا، والمواضع التي لم يرد فيها لا هذا ولا هذا نحن مُخيَّرون: إن رفعنا فهو من أسباب الإجابة، وإن لم نرفع فلا بأس.

س: الاستسقاء في خطبة الجمعة؟

ج: في الاستسقاء يرفع، إذا استسقى يرفع، لكن خطبة الجمعة العادية التي ما فيها استسقاء لا يرفع.

س: في الاستخارة يرفع يديه؟

ج: ما أعلم فيها شيئًا، وإذا رفع حسن، ما نعلم شيئًا، جاء الحثُّ على الاستخارة، وإذا رفع كان أبلغ في الدُّعاء.

س: في الوتر إذا قنت؟

ج: جاء في قنوت النَّوازل أنه رفع؛ فلهذا ذكر العلماءُ شرعية الرفع في قنوت الوتر؛ لأنه من جنس قنوت النَّوازل.

س: الدعاء بعد الإقامة؟

ج: لم يرد فيه شيء، فمَن دعا فلا بأس، ومَن ترك فلا بأس.

س: رفع اليدين بعد النَّوافل؟

ج: ما ينبغي اعتياده، وإن فعله بعض الأحيان؛ لأنَّ النبي ما كان يعتاده ﷺ.

س: الاستخارة: هل يجمع إذا استخار الله في أمرين في صلاةٍ واحدةٍ؟

ج: ما نعلم فيها بأسًا، أمران أو أكثر، وإن خصَّ كل واحدٍ باستخارةٍ فلا بأس، وإن جمع في الاستخارة فلا بأس، ما في مانع فيما نعلم.

س: ...............؟

ج: جاء فيه أحاديث ضعيفة، الأفضل ترك المسح، بعض أهل العلم استحبَّه قال: إنَّ أحاديث المسح بتعدد طرقها تكون من باب الحسن لغيره، كما قال الحافظ في آخر "البلوغ"، ويأتيكم فيه كلام الحافظ في "البلوغ"، وآخرون قالوا: لا يُستحب؛ لأنَّ الأحاديث الصَّحيحة ليس فيها شيء، لما دعا في الاستسقاء لم يمسح، وهكذا عند الجمرتين، وعلى الصفا والمروة لم يمسح، وهي أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي ﷺ، فتركه أولى.

س: ...............؟

ج: نعم، هذا وصفه بالحياء يليق بالله، لا يُشابه فيه خلقه : إنَّ الله لا يستحي من الحقِّ.

س: هل ورد الدُّعاء بعد النَّوافل؟

ج: ما أخبر شيئًا صحيحًا، جاء في بعض الأحاديث الضَّعيفة الدُّعاء بعد النافلة ..... ورفع اليدين، لكنه ضعيف.

س: ................؟

ج: هذه يُخير فيها الإنسان، لكن لا يُداوم على الرفع؛ لأنه لم يرد المداومة، إذا دعا بعض الأحيان ورفع فحسن، وإذا ترك فحسن؛ حتى لا يكون أحدث شيئًا خلاف السنة.

س: الدُّعاء بعد المواعظ؟

ج: ما أخبر فيه شيئًا.

1567- وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا مَدَّ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَرُدَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَلَهُ شَوَاهِدُ، مِنْهَا:

1568- حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ. وَمَجْمُوعُهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

1569- وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

1570- وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1571- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي دِينِي، وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي، وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

1572- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1573- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عمرٍو رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

الشيخ: هذه الأحاديث الستة كلها تتعلق بالدعاء والذكر، تقدم أن الباب باب الذكر والدعاء، وأنه ينبغي للمؤمن أن يعمر حياته وأوقاته ليلًا ونهارًا بالذكر والدعاء، وألا يفتر من ذلك، فإنَّ ذلك فيه الخير العظيم، والعاقبة الحميدة، وهو من أسباب تفريج الكروب، وتيسير الأمور، وقضاء الحاجات، والسلامة من الشيطان وجنوده، فينبغي للمؤمن أن يكون كثير الذكر لله، كثير الدعاء، كثير الاستغفار، كثير الضَّراعة إلى الله ؛ لأنه يُحب سبحانه الذَّاكرين، ويُحب الملحين في الدُّعاء.

الحديث الأول حديث عمر: كان النبيُّ إذا مدَّ يديه في الدُّعاء لم يردّهما حتى يمسح بهما وجهَه. أخرجه أبو داود. وله شواهد من حديث ابن عباسٍ وغيره.

قال الحافظ رحمه الله: ومجموعها يقضي بأنه حديث حسن.

وهذه التي في هذا الباب مثلما أشار المؤلفُ؛ كلها ضعيفة: حديث ابن عباس، وحديث عمر، وما جاء في معناهما، كل أسانيدها ضعيفة، فاختلف أهلُ العلم: هل يكون مجموعها من باب الحسن لغيره؛ فيُستحب مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، أم لا تكون من هذا القبيل؛ فلا يُشرع مسح الوجه؟

وقد ثبتت الأحاديث الصَّحيحة الكثيرة عن النبي ﷺ ليس فيها مسح الوجه باليدين، وإنما فيها رفع اليدين، ومنها ما ثبت في الصحيح، بل في "الصحيحين" من حديث أنسٍ في الاستسقاء، وأنَّ رسول الله رفع يديه في الدعاء وبالغ، ولم يذكر أحدٌ أنه مسح بهما وجهه عليه الصلاة والسلام.

وهكذا ما ثبت في الصحيح عند دعائه على الصفا والمروة، وعند الجمرتين، وفي عرفات، وفي مُزدلفة؛ فلهذا ذهب جمعٌ من أهل العلم إلى عدم شرعية المسح؛ لأنَّ الأحاديث الصَّحيحة لم يُذكر فيها شيء من ذلك.

وقال قومٌ: بل يُستحب؛ لأنَّ هذه الأحاديث التي ذُكر فيها بجمع بعضها إلى بعضٍ وضمِّ بعضها إلى بعضٍ واختلاف مخارجها تدل على أنه كان يفعله بعض الأحيان عليه الصلاة والسلام، ولعلَّ هذا أقرب؛ فإنه إذا فعله بعض الأحيان فالأمر واسع، والأفضل الترك، أما القول بأنه بدعة فهو محل نظرٍ، ليس بظاهرٍ، ولكن إذا قيل أنَّ الأولى الترك فهو الأقرب؛ لأنَّ الأحاديث الصَّحيحة ليس فيها شيء من ذلك، وإذا فعله بعض الأحيان فأرجو ألا يكون به بأس؛ عملًا بقول مَن قال: إنها من قبيل الحسن لغيره، بسبب تعددها واختلاف مخارجها.

وأما الأقوى عندي والأقرب عندي: أنَّ هذا لم يفعله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لو فعله لنقله رواةُ الأخبار الصَّحيحة ولم يخفَ عليهم.

الحديث الثاني حديث ابن مسعودٍ: يقول ﷺ: إنَّ أولى الناس بي أكثرهم عليَّ صلاةً، هؤلاء أولى الناس بالرسول ﷺ: أكثرهم عليه صلاةً.

فينبغي للمؤمن الإكثار من الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام عند ذكره، وبعد الأذان والإقامة، وفي يوم الجمعة، وفي التشهد الأول والأخير، وغير ذلك، ينبغي عمارة الأوقات بذكر الله، والصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا في الحديث يقول ﷺ: ما جلس قومٌ مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يُصلوا على النبيِّ ﷺ إلا كانت عليهم ترة، وفي اللفظ الآخر: كانت عليهم حسرة يوم القيامة، وفي اللفظ الآخر: إلا قاموا عن مثل جيفة حمارٍ.

فالحاصل أنه ينبغي للمؤمن الإكثار من ذكر الله دائمًا، والإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتتأكد هذه الصلاة في مواضع، بل تجب في مواضع، فينبغي للمؤمن أن يتحرى ذلك ويُؤديها في المواضع التي تجب فيها: كآخر الصلاة، وعند ذكره ﷺ، وينبغي الإكثار منها في يوم الجمعة، كذلك الإتيان منها بتأكيدٍ بعد الأذان وبعد الإقامة.

فينبغي للمؤمن أن يكون هكذا؛ يتحرى الأوقات التي في آخرها التأكيد، ويعتني، وفي أول الأوقات يُكثر منها، مع ذكر الله ، وقد قال ﷺ: رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف امرئٍ ذُكِرْتُ عنده فلم يُصلِّ عليَّ، وفي اللفظ الآخر: البخيل مَن ذُكرتُ عنده فلم يُصلِّ عليَّ، فهذا "رغم أنف" يُشعر بالوجوب؛ لأنه دعاء عليه بأنه يُلصق أنفه بالرغام، وهو التراب، فيُشعر بالوجوب.

كذلك أمره ﷺ به عند الأذان، يقول: صلوا عليَّ، فهذا يدل على التأكد، فإذا فرغ من الأذان وأجاب المؤذن يُصلي على الرسول ﷺ ويقول: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التامة ..، والإقامة مثله؛ لأنها الأذان الثاني.

وهكذا يوم الجمعة: جاء في الحديث الحثُّ على الإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة، فإنه تُعرض الصلاةُ عليه عليه الصلاة والسلام، فينبغي الإكثار من ذلك، قال: فإنَّ صلاتكم تُعْرَض عليَّ، قيل: يا رسول الله، كيف تُعرض عليك وقد أرمت؟! يعني: بليت، قال: إنَّ الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.

وهكذا يُصلي عليه ﷺ في آخر الصلاة بعدما يأتي بالتَّشهد، قالوا: يا رسول الله، كيف نُصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ .. إلى آخره.

وذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أنها واجبة، وقال قومٌ: إنها ركن في التشهد الأخير.

فينبغي العناية بذلك، وعدم ترك ذلك، فإنَّ القول بوجوبها أو فرضيتها قول قوي، قول له حظُّه من القوة، فلا ينبغي للمؤمن أن يدعها.

أما التَّشهد الأول فالأولى فعلها؛ لعموم الأحاديث: أن الرسول ﷺ لما سألوه: كيف نُصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ ..، ولم يقل: في الأخير، بل أطلق، قال: والسلام كما قد علمتم، والسلام يُقال في الأول والأخير: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فهذا يقتضي أنَّ الصلاة عليه في الموضعين جميعًا: في الأخير والأول جميعًا، لكنه في الأخير أشدّ وآكد؛ ولهذا ذهب أحمد رحمه الله والشَّافعي إلى وجوبها في التَّشهد الأخير. وقال قومٌ بركنيَّتها، وهو المذهب عند الحنابلة: ركنيتها في التشهد الأخير، فهذا يُوجب العناية بها، وعدم التَّفريط فيها.

والحديث الثالث حديث شداد بن أوس في سيد الاستغفار: يقول النبيُّ ﷺ: سيد الاستغفار أن يقول العبدُ: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت رواه البخاري في الصحيح.

هذا الحديث يدل على فضل هذا الدعاء وهذا الذكر، وهو ذكر ودعاء واستغفار، فينبغي الإكثار منه، والمؤلف اختصره، وتمامه في الصحيح: فمَن قالها حين يُصبح وهو مُوقِن بها فمات من يومه دخل الجنة، ومَن قالها حين يُمسي مُوقنًا بها ومات من ليلته دخل الجنة، فهو حديث عظيم؛ ولهذا قيل: سيد الاستغفار، يعني: هو رأس الاستغفار، وأمير الاستغفار، ومقدم الاستغفار هذا الذكر العظيم: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، أبوء يعني: أعترف، يعني: أُقرُّ وأعترف بذنبي، وأني خطَّاء مُذنب مُقصر، وأبوء لك بنعمتك عليَّ يعني: أعترف وأُقرُّ بإحسانك ونعمتك عليَّ.

فهو توسل إلى الله بالاعتراف بالذنب، والاعتراف بالنعم والإحسان، فهو مُعترف بتقصيره وعدم قيامه بشكر الله ، وهذا هو الدعاء والضراعة إلى الله، مع مشاهدة عيب النفس، ومشاهدة عيب العمل، وتقصير العمل، فإنَّ في "أبوء لك بذنبي" عيب النفس، وفي "أبوء بنعمتك" الاعتراف بنعم الله وإحسانه وتقصيرك في ذلك، فأنت تتوسل إليه بمشاهدتك تقصيرك في شكره، واعترافك بإساءتك وتقصيرك فيما يجب عليك من .....، وهذا ينشأ عن أمران آخران:

  • وهو الحب لله ، ومشاهدة مِنَنِه وإحسانه على العبد.
  • وأمر ثانٍ: وهو الشكر لله.

فالعبد يُشاهد نِعم الله وإحسانه إليه فيُبادر بالشكر، ويُشاهد تقصيره وعيبه فيُبادر بالاستغفار والرجوع إلى الله، والجدّ في طاعته .

فالعبد يسير إلى الله بين مشاهدة المنَّة والإحسان، ومشاهدة عيبه وتقصيره وعدم قيامه بحقِّ ربه؛ فيُكسبه ذلك الحب العظيم لربه، والضَّراعة إليه، واللجوء إليه، والمسارعة إلى شكر نِعَمِه .

الحديث الرابع: حديث ابن عمر في الدعاء في الصباح والمساء: كان النبيُّ يدعو في الصباح والمساء: اللهم إني أسألك العافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي، وكان يقول في أوله: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا الآخرة، اللهم إني أسألك العافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يديَّ، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي، هذا دعاء عظيم ينبغي الاعتناء به صباحًا ومساءً، فهذا من الدَّعوات الطيبة الجامعة.

وهكذا الحديث الثاني: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحول عافيتك، ومن فُجاءة نقمتك، ومن جميع سخطك، يُروى: "فُجاءة"، ويُروى: "فجأة"، فيُستحب له أن يُكثر من هذا الدُّعاء أيضًا.

وهكذا الحديث السَّابق: اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدَّين، وغلبة العدو، وشماتة الأعداء.

هذه كلها دعوات عظيمة ينبغي للمؤمن أن يُكثر منها، ولا سيما في الصباح والمساء، بل في سائر الأوقات، الله جلَّ وعلا يُحب من عباده أن يسألوه ويضرعوا إليه، فينبغي له أن يُكثر من الدُّعاء الوارد أكثر من غيره؛ لأنَّ الدَّعوات الواردة تكون أجمع وأنفع وأفضل، فإن دعا بدعواتٍ أخرى لم ترد لا محذور فيها فلا بأس، الله أمر بالدعاء؛ ولهذا قال ﷺ: ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعُ، وفي روايةٍ أخرى: فليتخير من المسألة ما شاء ..... إذا دعا بدعواتٍ تُناسبه؛ كأن يقول: اللهم يسر لي كذا وكذا، اللهم يسر لي ذريةً صالحةً، اللهم هب لي ذريةً طيبةً، اللهم هب لي زوجةً صالحةً، اللهم يسر لي كذا وكذا من الأمور التي يحتاج إليها ..... لا بأس، يدعو الإنسانُ بكل حاجاته، فربك سبحانه أنَّ العبد يسأله كل حاجاته، والحمد لله.

..........