مقدمة وكلمة اللقاء المفتوح للشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله

المقدم: أيُّها الإخوة، كلما دارت الأيام أخذتني الدَّهشة بنشاط شيخنا الفذّ المتنوع، وبمُتابعاته الدَّقيقة، وجلده الأخَّاذ، فلا إله إلا الله، اختلفنا فكان الأنبل، وابتعدنا فكان الأمثل، وغضبنا فكان الأحلم، وفترنا فكان الأثبت، والتقينا به فكان على عمره أطال الله به على طاعته، والتقينا به فكان المتقدم الأول.

سماحة الشيخ، لقد قضينا الأيام الستة الماضية في شرح كتابكم القيم: "الدُّروس المهمة لعامَّة الأمة"، أيامًا هي من أجمل الأيام، قد نهلنا من علمها، ورتعنا برياضها حقًّا، إنها الدُّروس المهمة.

وقد شرحه مشايخ فضلاء، وعلماء نُبلاء، هم: الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله آل فريان، ثم الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك، ثم الشيخ عبدالله بن محمد المطلق، ثم الشيخ عبدالكريم بن عبدالله الخضير، ثم الشيخ عبدالله بن صالح القصير، ثم الشيخ عبدالعزيز الراجحي، فجزاهم الله عنا خير الجزاء.

وها نحن نختم هذه اللِّقاءات بسماحتكم للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالكتاب وغيرها.

هذا وأسأل الله كما جمعنا في هذا المكان المبارك أن يجمعنا في دار كرامته، ومُستقرّ رحمته، مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبيين والصِّديقين والشُّهداء والصَّالحين وحَسُنَ أولئك رفيقًا.

وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

وأترككم مع سماحة الشيخ فليتفضل مشكورًا، جزاه الله خيرًا.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فإني أشكر الله على ما مَنَّ به من هذا اللِّقاء لإخوةٍ في الله؛ للتواصي بالحقِّ، والتناصح، والتعاون على البر والتقوى، وأسأل الله جلَّ وعلا أن يجعلنا وإيَّاكم من المتحابين بجلاله، وأن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه، والثَّبات عليه، وأن يُعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من مُضلات الفتن، ومن شرور النفس، وسيئات العمل.

أيها الإخوة في الله، إنَّ الله إنما خلق الخلقَ ليعبدوه، وأرسل الرسلَ وأنزل الكتب لهذا الأمر العظيم، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّاريات:56]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، وقال : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

فالله خلق الجنَّ والإنسَ ليعبدوه، وهذه العبادة هي توحيده وطاعته، هي الإسلام والإيمان، هي الهدى، هي أداء الأوامر، وترك النَّواهي، هذه العبادة التي أنت مخلوقٌ لها، ولا سبيلَ إلى معرفتها إلا بتدبر القرآن الكريم والسُّنة المطهرة التي جاء بها المصطفى عليه الصلاة والسلام، فالله جلَّ وعلا أنزل كتابه هدى للناس، قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، وقال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].

فالوصية التَّدبر للقرآن، والإكثار من تلاوته، والحرص على ذلك، فإنه كتاب الله، فيه الهدى والنور، وأصدق كتابٍ، وأعظم كتابٍ، وأنفع كتابٍ، فالوصية للجميع: للرجال والنِّساء، العناية بالقرآن، والإكثار من تلاوته، وتدبر معانيه، والعمل بما فيه، والسؤال عمَّا أشكل، سؤال أهل العلم عمَّا أشكل.

العلماء هم ورثة الأنبياء، الله بعث الرسلَ لبيان الحقِّ، والإرشاد إليه، والدّلالة عليه، وجعل العلماء خلفًا لهم، ينقلون ما جاءوا به، ويُبلِّغون به الناس.

وهذه الأمة نبيها محمد ﷺ، وهو خاتم الأنبياء، وهو رسول الله إلى جميع الثَّقلين.

فعلى جميع الأمة: جنّها وإنسها، رجالها ونساءها، عربها وعجمها، عليهم جميعًا أن يتَّقوا الله، وأن يُتابعوا نبيَّهم محمدًا ﷺ، وأن يسلكوا سبيلَه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]، وقال الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153].

وقال تعالى في حقِّ نبيه: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الشورى:52- 53]، وقال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6- 7].

فصراط الله العلم والعمل، صراط الله العلم بما جاء به نبيه، والعمل بذلك، هذا هو صراط الله: أن تعرف الحقَّ على بصيرةٍ من كتاب الله وسُنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن تعمل بذلك، هذا هو الصراط المستقيم الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبعث اللهُ به نبيَّه محمدًا ﷺ: العلم بما شرعه الله، والعمل بذلك.

وعلى الأمة التَّواصي بذلك، والتَّناصح في ذلك: الرجال والنساء، العرب والعجم، الجن والإنس، على الجميع التَّواصي بهذا، والتَّناصح بهذا، والقيام بهذا الأمر عن بصيرةٍ، وعن علمٍ، وعن رغبةٍ بما عند الله، يقول الله جلَّ وعلا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71]، ويقول جلَّ وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، ويقول سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، ويقول : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، وقال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وقال تعالى: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [إبراهيم:52]، وقال تعالى: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر].

فالواجب على جميع الثَّقلين التَّفقه في الدين، والتبصر من طريق القرآن العظيم والسنة المطهرة، فالله أوجب ذلك حتى تعبد ربَّك على بصيرةٍ، حتى تُؤدي هذه العبادة التي أنت مخلوقٌ لها على بصيرةٍ، على علمٍ، على هدى، وهي توحيد الله وطاعته، واتِّباع شريعته، والحذر مما نهى عنه، وأساسها وأصلها شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، هاتان الشَّهادتان هما أصل الدين، هما أساس الملة، هما أعظم واجبٍ.

وأوجب أن تعبد الله وحده، وأن تخصّه بالعبادة، وأن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، أي: لا معبودَ إلا الله، كما قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، وقال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، وقال : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، المعنى: أمر ربك، أوصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه. هذا هو معنى "لا إله إلا الله": أن يخصّ الله بالعبادة: الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والصلاة، والصوم، والصدقة، والحجّ، وغير هذا كله لله وحده، تخصّه بالعبادة جلَّ وعلا، لا تعبد سواه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5].

مع الشَّهادة الثانية، وهي شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، تعبده سبحانه على ما جاء به رسوله محمد ﷺ، تنقاد لشرع الله الذي جاء به نبيه ﷺ، عن إخلاصٍ لله، ومحبَّةٍ لله، وتعظيمٍ لله، هاتان الشَّهادتان هما أصل الدِّين: ألا تعبد إلا الله، وألا تعبد إلا بشريعة رسوله محمد ﷺ.

ثم بعد هاتين الشَّهادتين الصَّلوات الخمس، فهما عمود الإسلام، أعظم فريضةٍ وأهم فريضةٍ بعد الشَّهادتين هذه الصلاة، فالواجب علينا جميعًا المحافظة عليها، والتَّكاتف في ذلك، والتواصي بذلك، والتعاون في ذلك، الرجل مع أهل بيته، مع جيرانه، مع إخوانه، مع جُلسائه، المدرس مع طلبته، الأمير مع رعيته، كل واحدٍ عليه واجبه: التَّواصي بهذا الأمر؛ لأنَّ الله يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، ويقول: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، ويقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71].

وأعظم المعروف توحيد الله، والإخلاص له، ثم الصَّلوات الخمس، ثم بقية ما أمر الله به من زكاةٍ، وصومٍ، وحجٍّ، وغير ذلك.

وقد بيَّن الله جلَّ وعلا سبيل النَّجاح والربح والسَّعادة بهذه السورة القصيرة: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر]، هذه السورة جمعت الخيرَ كله، أقسم الله فيها بالعصر، وهو الليل والنَّهار –الزمان- أنَّ الإنسان لفي خُسران، جميع بني آدم في خُسران، وهكذا الجن كلهم في خسران إلا الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات، وتواصوا بالحقِّ، وتواصوا بالصبر، هؤلاء هم الرابحون، هم السُّعداء الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانًا صادقًا، آمنوا بأنَّ الله معبودهم الحقّ، وإلههم، وخالقهم، ورازقهم، وآمنوا بأسمائه وصفاته، وأنه سبحانه لا سميَّ له، ولا شبيهَ له، ولا كفوًا له، ولا ندَّ له، وأنه الخلَّاق العليم، ذو الأسماء الحُسنى، والصِّفات العُلا، وأخلصوا له العبادة، وتابعوا رسوله محمدًا ﷺ، وانقادوا لشرعه عن إيمانٍ، وعن صدقٍ، وعن بصيرةٍ، ثم تواصوا بالحقِّ، وتواصوا بالصبر.

هؤلاء هم السُّعداء، هم الرابحون، هم المؤمنون حقًّا، الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات، وتواصوا بالحقِّ، وتواصوا بالصبر.

فالتواصي بالحقِّ: التناصح والتَّعاون على البرِّ والتقوى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع الصبر على ذلك، هذا هو طريق المؤمنين، وهذا هو الصراط المستقيم: علم نافع، وعمل صالح، وتناصح، وتواصٍ بالحقِّ، وتواصٍ بالصبر، يقول الله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].

فمن التَّواصي بالحقِّ والتناصح، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر: العناية بأهل البيت من رجالٍ ونساءٍ، من ذكورٍ وإناثٍ، الواجب العناية بهم -بصلاتهم وغيرها- أنت مسؤول أيّها الأب، والأم كذلك مسؤولة، وهكذا الإخوان -الأكبر فالأكبر- كلهم مسؤولون، الواجب على الجميع التَّعاون على البر والتَّقوى في إصلاح حال البيت من جهة الصلاة وغيرها، وهكذا مع الجيران، وهكذا مع الجُلساء والزُّملاء.

المؤمن يدعو إلى الله، وينصح لله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يريد وجه الله والدار الآخرة، لا رياء، ولا سمعة، بل يريد الله والدار الآخرة، يحرص على صلاح إخوانه، ونجاة إخوانه من عذاب الله؛ لأنَّ ربنا يقول: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر]، هؤلاء هم الرابحون: الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانًا صادقًا، ثم عملوا، فأدّوا فرائضَ الله، وتركوا محارم الله عن نيَّةٍ صالحةٍ، عن إخلاصٍ ومحبَّةٍ، ثم تواصوا بالحقِّ، تناصحوا، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتواصوا بالصبر، لم يضجروا، ولم يضعفوا، بل صبروا على ذلك، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، المؤمن ولي أخيه، والمرأة المؤمنة ولية أختها في الله: يتناصحون، يُحب كل واحدٍ الخير لأخيه، لا يحسده، لا يغشه، لا يخونه، لا يظلمه.

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ كل واحدٍ ولي أخيه، وولي أخته في الله، لا حقد، ولا شحناء، ولا ظلم، ولا خيانة، كل واحدٍ يُحب لأخيه الخير، ويكره له الشّر، ثم يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر.

هكذا المؤمن، وهكذا المؤمنة: يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

وبهذا يعلم المؤمن أنَّ ما قد يقع بين الجيران وبين الأقارب من الشَّحناء والعداوة والبغضاء أنَّ هذا خلاف شرع الله، وأنَّ هذا مما يدعو إليه الشيطان، ويُفرق به الجماعة، ويُضعف به أمر الدين.

فالواجب التَّناصح، والحذر من طاعة الشيطان، الحذر من الشَّحناء، والواجب التَّواصي بالحقِّ، والتناصح في دين الله -في الصلاة وغيرها- كل واحدٍ ينصح لأخيه، ويُحب له الخير، ويكره له الشر، يقول النبيُّ ﷺ: لا يؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه، ويقول النبي ﷺ: مَن رأى منكم منكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.

وقد بيَّن الله هذا في قوله جلَّ وعلا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، ويقول سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، ويقول الرب جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105].

لما توفي النبيُّ ﷺ وتولى الصديقُ خطب الناس وقال: "أيها الناس، إنَّكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: إنَّ الناس إذا رأوا المنكر فلم يُغيروه أوشك أن يعمَّهم الله بعقابه".

فلا يكون مُهتديًا الهداية التَّامة إلا بأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر: لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ يعني: إذا أديتم الواجب: لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ يعني: إذا أدَّيتم الواجب وتركتم المحرم، ومن ذلك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

فالواجب على الجيران، وعلى أهل البيت، وعلى الأقارب، وعلى جميع المسلمين، الواجب التَّناصح والتَّعاون على البر والتَّقوى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتواصي بالحقِّ، والصبر عليه أينما كنت: في البر والبحر، في السفينة، في الطائرة، في السيارة، في البيت، في المسجد، في أي مكانٍ التواصي بالحقِّ والتناصح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

هذا هو واجب المسلمين، هذا الذي أوجبه الله عليهم، وجعل في ذلك الخير العظيم لهم، والسعادة، واستقامة الدين، أما إذا تفرَّقوا وتنازعوا فإنَّ هذا من أسباب ضياع الحقِّ، ومن أسباب تسليط الشيطان عليهم، وضياع الحقّ بينهم، أما مع التَّعاون والتَّواصي والتَّناصح فهذا هو طريق إقامة الحقِّ، هذا هو طريق الهدى، هذا هو طريق السَّعادة، يقول سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، ويقول النبي ﷺ: إنَّ الله يرضى لكم ثلاثة: أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تناصحوا مَن ولَّاه الله أمركم.

فالمؤمنون عليهم التَّناصح والتَّعاون على البرِّ والتقوى، وأداء ما أوجب الله، وترك ما حرَّم الله، ومُناصحة ولاة الأمور، والتناصح فيما بينهم، يرجون ثوابَ الله، لا رياء، ولا سمعة، بل يرجون ثواب الله، ويخشون عقاب الله، هذه الدار دار العمل، ليست دار نعيمٍ، ولكنها دار العمل، وهي متاع الغرور، فالواجب العمل، الواجب في هذه الدار التَّواصي بالحقِّ، والتعاون على البر والتقوى.

أنت مخلوقٌ للعمل؛ لعبادة ربك، لا للأكل والشُّرب، وغرس الأشجار، وبناء القصور، وأكل كذا، وشرب كذا، لا، أنت مخلوقٌ لتعبد ربك، والله خلق لك ما يُعينك على طاعته، قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وقال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، تفضَّل سبحانه عليك بأنواع النِّعَم، فاستعن بها على طاعته، وعلى دعوة الناس إلى الخير، وعلى إرشادهم إلى ما خُلقوا له، ترجو ثواب الله، وتخشى عقاب الله، هذا هو طريق النَّجاة، هذا هو سبيل السَّعادة.

وعندك كتاب الله، عندكم القرآن، فيه الهدى والنور، فنُوصيكم بالإكثار من قراءة القرآن بالتَّدبر والتَّعقل والعمل؛ لأنه نزل للعمل: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، ويقول سبحانه: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، ويقول : كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ۝ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:1- 2]، ويقول جلَّ وعلا: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم:1].

فالواجب تدبر هذا الكتاب، والعمل بما فيه، والتواصي به، مع سنة الرسول ﷺ، ومع أحاديثه عليه الصلاة والسلام، فإنها الوحي الثاني: تُفسر القرآن، وتُبين ما قد يخفى منه، وجاءت بأحكامٍ لم تُذكر في القرآن.

فالواجب على المسلمين التَّواصي بكتاب الله، والتواصي بسنة رسول الله ﷺ، والعمل بذلك في جميع الأحوال: في الشدة والرخاء، في السفر والحضر، في جميع الأحوال التَّواصي بالحقِّ والتناصح، يقول النبي ﷺ: الدِّين النَّصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامَّتهم.

وقال جرير بن عبدالله البجلي الصحابي الجليل : بايعتُ النبيَّ ﷺ على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلمٍ.

المسلمون شيء واحد، جسد واحد، يقول النبي ﷺ: مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطُفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسَّهر والحُمَّى، وقال عليه الصلاة والسلام: المؤمن للمؤمن كالبُنيان، يشدّ بعضُه بعضًا.

فالوصية أيّها الإخوة: تقوى الله، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحقِّ، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والحذر من الكسل، والحذر من طاعة الشيطان الذي يدعو إلى الفُرقة والاختلاف وترك الأمر بالمعروف، هذه دعوة الشيطان، فالواجب الحذر منه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، نعوذ بالله من هذا وما يدعو إليه، ونسأل الله أن يُعيننا وإياكم على كل خيرٍ، وأن يُعيذنا وإياكم من مُضلات الفتن، ونزغات الشيطان.

هذه الدار دار التناصح، دار التواصي، دار التعاون على البر والتقوى، ليست دار الخلد، وليست دار النعيم، ولكنها دار العمل، وهي فتنة ومتاع الغرور: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15].

فالواجب الحذر، وأن تكون أموالك وأولادك وقراباتك عونًا لك على طاعة الله، وأن تكون عونًا لهم على طاعة الله، أنت وهم، كل منكم يُعين الآخر؛ لأنَّ الله يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].

فالواجب أن يكون أولادك وأهل بيتك عونًا لك على طاعة الله، وأن تكون عونًا لهم على طاعة الله في جميع الأحوال، وهكذا الجيران فيما بينهم يتعاونون على البر والتقوى، الجار له حقّ، وعليه حقّ، فالواجب التعاون.

يقول النبي ﷺ: مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جاره، ومن أعظم إكرامه: دعوته إلى الله، ونصيحته، وتوجيهه إلى الخير، وتحذيره من الشَّر، هذا من أعظم الإكرام، نسأل الله أن يُوفقنا وإياكم لما يُرضيه، وأن يُعيذنا وإياكم من مُضلات الفتن، وأن ينصر دينَه، ويُعلي كلمته.

كما نسأله سبحانه أن يُصلح أحوال المسلمين في كل مكانٍ، وأن يمنحهم الفقه في الدِّين، وأن يُولي عليهم خيارهم، ويُصلح قادتهم.

كما نسأله سبحانه أن يُوفق ولاة أمرنا لكل خيرٍ، وأن يُعينهم على كل خيرٍ، وأن ينصر بهم الحقّ، وأن يُصلح لهم البطانة، وأن يُكثر أعوانهم في الخير، وأن يجعلنا وإياكم وإياهم من الهُداة المهتدين.

إنه جلَّ وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ.