19 من قوله: ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ..)

وقوله تعالى: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي: حصينة منيعة، عالية رفيعة، وقيل: هي بروج في السماء قال السدي، وهو ضعيف، والصحيح أنها المنيعة، أي لا يغني حذر، وتحصن من الموت، كما قال زهير بن أبي سلمى:

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم

ثم قيل: المشيَّدة هي المَشِيدَة كما قال: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45]، وقيل: بل بينهما فرق، وهو أن المشيدة بالتشديد هي المطولة، وبالتخفيف هي المزينة بالشيد، وهو الجص، وقد ذكر ابن جرير، وابن أبي حاتم -هاهنا- حكاية مطولة عن مجاهد، أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطلق، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار، فخرج فإذا هو برجل، واقف على الباب، فقال: ما ولدت المرأة؟ فقال: جارية، فقال: أما إنها ستزني بمائة رجل ثم يتزوجها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت. قال: فكر راجعا، فبعج بطن الجارية بسكين فشقه ثم ذهب هاربًا، وظن أنها قد ماتت، فخاطت أمها بطنها فبرئت، وشبت، وترعرعت، ونشأت أحسن امرأة ببلدتها، فذهب ذاك الأجير ما ذهب، ودخل البحور فاقتنى أموالًا جزيلة، ثم رجع إلى بلده، وأراد التزوج، فقال لعجوز: أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة، فقالت ليس هاهنا أحسن من فلانة، فقال: اخطبيها علي، فذهبت إليها فأجابت، فدخل بها فأعجبته إعجابًا شديدًا، فسألته عن أمره، ومن أين مقدمه، فأخبرها خبره، وما كان من أمره في الجارية، فقالت: أنا هي، وأرته مكان السكين، فتحقق ذلك، فقال: لئن كنت إياها فلقد أخبرني باثنتين لا بد منهما، إحداهما: أنك قد زنيت بمائة رجل، فقالت: لقد كان شيء من ذلك، ولكن لا أدري ما عددهم، فقال: هم مائة. والثاني: أنك تموتين بالعنكبوت، فاتخذ لها قصرًا منيعًا شاهقًا ليحرزها من ذلك، فبينما هم يومًا فإذا بالعنكبوت في السقف، فأراها إياها، فقالت: أهذه هي التي تحذرها علي؟ والله لا يقتلها إلا أنا، فأنزلوها من السقف، فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها، فطار من سمها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها، واسودت رجلها، فكان في ذلك أجلها، فماتت.

الشيخ: الموت لا بدّ منه، وما كتب الله هو هذا، وهذه القصة من الحكايات التي قد يكون لها أصل، وقد لا يكون لها أصل، ولكن من باب العبر، وأن الآجال لا بدّ من وقوعها، والأسباب التي قدرها الله لا بدّ منها.
س: قوله تعالى: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء:77]، والخوف والخشية، ما المعنى بالنسبة لله؟
الشيخ: على ظاهره، يعني يخشون ما يقع من القتال والفتن بينه وبين الناس، والخوف من ذلك، هذا قد يكون من ضعف الإيمان، وقد يكون قبل أن يعلموا ما في الجهاد من الأجر العظيم، والخير العظيم، والفائدة العظيمة.
س: لا تخش إلا الله، كيف لا تخش إلا الله؟
الشيخ: هذا في القتال، يعني الموت.
ونذكر هاهنا قصة صاحب الحضر، وهو الساطرون لما احتال عليه سابور حتى حصره فيه، وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين، وقالت العرب في ذلك أشعارًا منها:
وأخو الحضر إذ بناه، وإذ دجلة تجبى إليه، والخابور
شاده مرمرا، وجلله كلسا فللطير في ذراه وكور
لم تهبه أيدي المنون فباد الملك عنه فبابه مهجور
ولما دخل على عثمان جعل يقول: اللهم اجمع أمة محمد، ثم تمثل بقول الشاعر:
أرى الموت لا يبقي عزيزا، ولم يدع لعاد ملاذا في البلاد، ومربعا
يبيت أهل الحصن، والحصن مغلق ويأتي الجبال في شماريخها معا
قال ابن هشام: وكان كسرى سابور ذو الأكتاف قتل الساطرون ملك الحضر، وقال ابن هشام: إن الذي قتل صاحب الحضر سابور بن أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان، وأذل ملوك الطوائف، ورد الملك إلى الأكاسرة، فأما سابور ذو الأكتاف فهو من بعد ذلك بزمن طويل، والله أعلم، ذكره السهيلي. قال ابن هشام: فحصره سنتين، وذلك لأنه كان أغار على بلاد سابور في غيبته، وهو في العراق، وأشرفت بنت الساطرون، وكان اسمها النضيرة، فنظرت إلى سابور، وعليه ثياب ديباج، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد، والياقوت، واللؤلؤ، فدست إليه إن تتزوجني فتحت لك باب الحصن، فقال: نعم، فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر، وكان لا يبيت إلا سكران، فأخذت مفاتيح باب الحصن من تحت رأسه فبعثت بها مع مولى لها ففتح الباب، ويقال: دلتهم على طلسم كان في الحصن لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء فتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء، ثم ترسل، فإذا وقعت على سور الحصن سقط ذلك ففتح الباب، ففعل ذلك، فدخل سابور، فقتل ساطرون، واستباح الحصن، وخربه، وسار بها معه، وتزوجها، فبينما هي نائمة على فراشها ليلا إذ جعلت تتململ لا تنام، فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد فيه ورقة آس، فقال لها سابور: هذا الذي أسهرك فما كان أبوك يصنع بك؟ قالت: كان يفرش لي الديباج، ويلبسني الحرير، ويطعمني المخ، ويسقيني الخمر، قال الطبري: كان يطعمني المخ، والزبد، وشهد أبكار النحل، وصفو الخمر! وذكر أنه كان يرى مخ ساقها، قال: فكان جزاء أبيك ما صنعت به؟! أنت إلي بذاك أسرع، ثم أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس، فركض الفرس حتى قتلها، وفيه يقول عدي بن زيد العبادي أبياته المشهورة:
أيها الشامت المعير بالدهر أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلد أم من ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى الملوك أنوشروان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحضر إذ بناه، وإذ دجلة تجبى إليه، والخابور
شاده مرمرا، وجلله كلسا فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد الملك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ شرف يوما، وللهدى تفكير
سره ماله، وكثرة ما يملك والبحر معرضا، والسدير
فارعوى قلبه، وقال فما غبطة حي إلى الممات يصير
ثم أضحوا كأنهم، ورق جف فألوت به الصبا، والدبور
ثم بعد الفلاح، والملك، والأمة وارتهم هناك القبور
الشيخ: هذه الدنيا ليس فيها بقاء لأحد، ولا ملك دائم، إنما هو ملك الله هو الدائم، أما الدنيا فأهلها صائرون إلى الفناء، مهما كانت الدنيا، ومهما عظمت، ومهما بلغوا من الملك، والقوة، والقدرة، والمال، المآل إلى الزوال، والله المستعان، والعاقل يعتبر بهؤلاء الماضين، وما جرى لهم، وما جرى عليهم، ويعد العدة للقاء ربه، فالسعادة كل السعادة في إعداد العدة للقاء الله ، والاستقامة على أمره، والبعد عن أسباب غضبه، وإلا فالدنيا مهما تزخرفت، ومهما بلغت فإن مآلها إلى الزوال.
وقوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ أي: خصب، ورزق من ثمار، وزروع، وأولاد، ونحو ذلك، هذا معنى قول ابن عباس، وأبي العالية، والسدي يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي: قحط، وجدب، ونقص في الثمار، والزروع، أو موت أولاد، أو نتاج أو غير ذلك كما يقوله أبو العالية، والسدي يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي: من قبلك، وبسبب اتباعنا لك، واقتدائنا بدينك، كما قال تعالى عن قوم فرعون: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف:131]، وكما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11]، الآية، وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا، وهم كارهون له في نفس الأمر، ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم النبي ﷺ.الشيخ: وهذا من جهلهم، وضلالهم، وفساد قلوبهم، وإلا فالحسنة من الله جل وعلا، هو الذي يسرها، ومَنّ بها، والسيئات بقدره وقضائه، وأسبابها معاصي العباد وانحطاطهم، وعدم قيامهم بما أوجب الله عليهم، الله وعظهم بهذا وذكرهم ليستعدوا للقائه، ولهذا يقول سبحانه: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فهي من عنده سبحانه خلقًا، وإيجادًا، وقدرًا سابقًا، لكن الحسنات يثابون عليها لأنها بفعلهم وإخلاصهم، والسيئات يجازون عليها لأنها بفعلهم أيضاً، وانحرافهم، وكل شيء بقضائه وقدره ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا فما أصاب العبد من نعمة وخصب ورخاء وصحة وعافية وأولاد فبفضل الله سبحانه، وإحسانه، وجوده، وكرمه، وقد سبق بهذا قدره السابق، وما أصاب الناس من نقص، ومصائب، وجدب، وقحط، وتسليط الأعداء، وغير ذلك فأسباب ذلك معاصيهم وسيئاتهم ومخالفاتهم، وكل من عند الله قضاء وقدرًا ، ولهذا قال: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ يعني بسبب أعمالك، وإن كان مضى بهذا علم الله وقدره ، فلا منافاة، فكل من عند الله قدرًا وقضاء ، وما كان من السيئات التي يفعلها العبد فهي منسوبة إليه، ويستحق جزاءها إذا كانت معاص، أما ما يكون من الجدب والقحط والنعم والخيرات فهذا كله من عند الله قضاء وقدرًا، فالجدب من جملة المصائب كالفقر والمرض ونحو ذلك، لله فيه الحكمة العظيمة ، وما كان من النعم والخيرات التي هي الحسنات كالمطر والصحة والملك ونحو ذلك فكله بحكمة بالغة، وكله بقضاء الله وقدره؛ فإن الحسنات تطلق على النعم، وتطلق على الأعمال الصالحات، والسيئات تطلق على الشرور والمصائب، وتطلق على الأعمال السيئة.
وقال السدي: وإن تصبهم حسنة، قال: والحسنة الخصب، تنتج مواشيهم وخيولهم، ويحسن حالهم، وتلد نساؤهم الغلمان، قالوا هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة، والسيئة الجدب، والضرر في أموالهم، تشاءموا بمحمد ﷺ، وقالوا: هذه من عندك، يقولون: بتركنا ديننا واتباعنا محمدًا أصابنا هذا البلاء، فأنزل الله : قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البار، والفاجر، والمؤمن، والكافر.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: الحسنة، والسيئة. وكذا قال الحسن البصري.
ثم قال تعالى منكرا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب، وقلة فهم وعلم، وكثرة جهل وظلم: فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا.
ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ:
قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا السكن بن سعيد، حدثنا عمر بن يونس، حدثنا إسماعيل بن حماد، عن مقاتل بن حيان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كنا جلوسًا عند رسول الله ﷺ فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فجلس أبو بكر قريبًا من النبي ﷺ، وجلس عمر قريبًا من أبي بكر، فقال رسول الله ﷺ: لم ارتفعت أصواتكما؟ فقال رجل: يا رسول الله، قال أبو بكر: يا رسول الله الحسنات من الله، والسيئات من أنفسنا، فقال رسول الله ﷺ: فما قلت يا عمر؟ فقال: قلت الحسنات، والسيئات من الله، فقال رسول الله ﷺ: إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل، فقال: ميكائيل مقالتك يا أبا بكر، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال: نختلف فيختلف أهل السماء، وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض، فتحاكما إلى إسرافيل فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله. ثم أقبل على أبي بكر، وعمر فقال: احفظا قضائي بينكما، لو أراد الله أن لا يعصى لما خلق إبليس.
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية: هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة.
ثم قال تعالى مخاطبًا لرسوله ﷺ، والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب، ما أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي: من فضل الله، ومنّه، ولطفه، ورحمته، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ أي: فمن قبلك، ومن عملك أنت، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] قال السدي، والحسن البصري، وابن جريج، وابن زيد: فَمِنْ نَفْسِكَ أي: بذنبك. وقال قتادة في الآية: فَمِنْ نَفْسِكَ عقوبة لك يا ابن آدم بذنبك.
قال: وذكر لنا أن النبي ﷺ قال: لا يصيب رجلًا خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو الله أكثر، وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح: والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم، ولا حزن، ولا نصب، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه.
وقال أبو صالح: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ أي: بذنبك، وأنا الذي قدرتها عليك، رواه ابن جرير، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمار، حدثنا سهل يعني ابن بكار، حدثنا الأسود بن شيبان، حدثني عقبة بن واصل ابن أخي مطرف عن مطرف بن عبدالله، قال: ما تريدون من القدر؟ أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء؟ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي: من نفسك، والله ما وكلوا إلى القدر، وقد أمروا، وإليه يصيرون.
وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضا. ولبسطه موضع آخر.
وقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا أي: تبلغهم شرائع الله، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا أي: على أنه أرسلك، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم، وعالم بما تبلغهم إياه، وبما يردون عليك من الحق كفرًا وعنادا.

الشيخ: وهذا كله لا منافاة بين الآيتين فالله جل وعلا قال: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني ما يقضى من الحسنات والسيئات كله من عند الله بقضائه وقدره، وحكمته البالغة ، وقوله في الآية الأخرى: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ يعني من جهة نفسك، من جهة ما تعمل من ذنوب، وتقصير، وترك واجب، ونحو ذلك، فيبتلى الإنسان في بدنه، وفي ماله، وفي غير ذلك بأسباب تقصيره، وهذا معنى الآية الكريمة الأخرى وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، فالإنسان مأمور بطاعة الله، والكف عن محارم الله، والقيام على حدود الله، ومرده إلى القدر، فالقدر نافذ في الجميع، ولكن على العبد أن يجتهد في طاعة ربه، ويبتعد عن مساخطه، وعليه أن يقف عند حدود الله، فما أصابه من خير، ونعمة، وفضل، وحسنات، وأعمال صالحات، وما وفق له من سائر وجوه الخير فبفضل الله وإحسانه إليه، وقد مضى به قدره السابق أيضًا، وما حصل عليه من نكبة وفقر وغير ذلك فهذا أسبابه أعماله، وأسبابه ما يقدمه من معاصٍ وسيئات، وما يقصر فيه من طاعة واجبة إلى غير ذلك، والقدر ماض في الجميع، وسابق في الجميع من الله ، وما يعفو الله عن العباد، وما يتجاوز عنه سبحانه أكثر وأعظم، ولهذا قال جل وعلا: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] فيجب على المؤمن أن يكون عليمًا بهذا الأمر مؤمنًا به، وأن يلوم نفسه، ويجتهد في إصلاحها عند التقصير، ويبادر بالتوبة، ويحسن ظنه بربه ، كما عليه أن يجتهد في أداء الواجب، والبعد عما حرم الله، والاستكثار من الحسنات حتى يفوز بما وعد الله به المحسنين، وحتى يفوز أيضًا بتكفير السيئات التي قد يبتلى بها، فإذا رجع إلى الله وأناب إليه واستكثر من طاعته عفا عنه سبحانه، وكفر سيئاته.
.......
 مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۝ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:80، 81].
يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد ﷺ بأن من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين عن الأعمش به، وقوله: وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا أي: ما عليك منه إن عليك إلا البلاغ، فمن اتبعك سعد ونجا، وكان لك من الأجر نظير ما حصل له، ومن تولى عنك خاب وخسر، وليس عليك من أمره شيء، كما جاء في الحديث: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه.

الشيخ: وهذا فيه حث وتحريض على طاعة الله ورسوله، والاستقامة على شريعة الله، وأن من أطاع الرسول فقد أطاع الله؛ لأنه مبلغ عن الله أمره، ونهيه، وهو الدال عليه، والمرشد إلى ما شرع ، فمن أطاع الرسول فقد أطاع المرسل؛ لأنه ليس معبر عن نفسه، ولا يخبر عن نفسه، وإنما يخبر عن الله ، ولهذا يقول سبحانه: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ۝ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ۝ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4]، فهو عليه الصلاة والسلام يبلغ عن الله ما أمره به، فالواجب على المكلفين أن يطيعوه عليه الصلاة والسلام، وأن ينقادوا لما جاء به؛ لأن طاعته طاعة لله : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، ولهذا في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني فطاعة الأمراء من طاعة الله ، ومن طاعة الرسول ﷺ في المعروف كما قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، فطاعة ولاة الأمور طاعة للرسول ﷺ، وعصيانهم عصيان الرسول ﷺ؛ لأن في طاعة ولاة الأمور استتاب الأمن، واستقامة الأمر، وفي عصيانهم شق العصا، واختلاف الأمور، وفساد المجتمع، فالواجب على الرعية طاعة ولاة الأمور فيما أمروا به، وفيما نهوا عنه؛ ما دام ذلك في المعروف، ليس في معاصي الله ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني، وفي اللفظ الآخر: من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني، وما هذا إلا لأن طاعة ولاة الأمور بها تستقيم أمور الناس، وينفذ الحق، ويلزم الظالم بترك الظلم، وينصر المظلوم، ويقضى على أسباب الفساد، فإذا اختلف الناس وعصوا ولاة أمرهم واختلفوا عليهم سادت الفوضى، واختل الأمن، وهدم الحق، ولم ينصر المظلوم، ولم يردع الظالم، فترتب على ذلك مفاسد كثيرة، وأخطار عظيمة، وشر كبير، ولهذا أمر الله بطاعة ولاة الأمور، ونهى عن عصيان ولاة الأمور يعني في المعروف كما في الحديث الصحيح: إنما الطاعة في المعروف.
وقوله: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أي: خرجوا وتواروا عنك بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي: استسروا ليلًا فيما بينهم بغير ما أظهروه لك، فقال تعالى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ أي: يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد، والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه، ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول ﷺ، وعصيانه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [النور:47].الشيخ: والمقصود من هذا التهديد لمن أظهر الطاعة، وأضمر المعصية، وأخفاها، فإن هذا في الحقيقة مخادع، ومظهر للناس خلاف ما يبطن، ولو أتى الأمر على وجهه لكان أسهل، لكنه لما أظهر خلاف ما يبطن صار شره أكثر، وصار فساده أعظم، وهذه سجية المنافقين وأحوالهم، لهم ظاهر غير الباطن؛ فلهذا غضب الله عليهم، وأعد لهم جهنم، وساءت مصيرًا، وتوعدهم بالدرك الأسفل من النار، وفي هذا وعيد لغيرهم أيضاً ممن يتساهل ويكثر من المعاصي، ويظهر للناس النسك والعبادة، فإنه قد شابه أهل النفاق في هذه الحال فليحذر؛ ولهذا قال: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ يعني يقولون: طاعة منا لك يا رسول الله، أو هي طاعة منا لك يا رسول الله، فإذا برزوا من عندك يعني: خرجوا، وصاروا إلى أهاليهم، وإلى قراهم، وإلى قبائلهم، وإلى شياطينهم بيتوا خلاف ذلك، وأضمروا من الباطل، والعصيان، والمخالفة، والفساد في الأرض ما لا يعلمه إلا الله ، والله يتوعدهم أنه يعلم ما أضمروا، ويعلم ما أسروا، وما كتموا، وذلك ليس بخاف عليه ، فليترقبوا جزاء ذلك، وليعلموا أن الله لهم بالمرصاد، وأنهم لن يفوتوا الله ، ولا شك أن هذا ليس خاصًا بالمنافقين، بل هو يعم أيضاً من فعل فعلهم، وشابههم في أعمالهم السيئة التي يضمرونها ضد المؤمنون، فهكذا من شابههم في إضمار الشر للمؤمنين، والعدوان عليهم، فالله له بالمرصاد إذا تعدى الحدود، وخالف الأوامر لأغراضه وأهوائه، نسأل الله السلامة!.
وقوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي: اصفح عنهم، واحلم عليهم، ولا تؤاخذهم، ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تخف منهم أيضًا، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي: كفى به وليًا، وناصرًا، ومعينًا لمن توكل عليه، وأناب إليه.الشيخ: وهذه الآية فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ محمول على أحد حالين:
إحداهن: حالة قبل أن يأمر بالجهاد، فإنه كان مأمور بالإعراض عن الكفرة وما أظهروا، والتأليف، والحلم، والصفح لئلا تثور ثائرة القتال بينهم والفتنة، والمسلمون ليس عندهم الاستعداد للقتال، والقوة على ذلك، ولهذا أمر الرسول ﷺ بالإعراض عن الكفرة في مكة، وفي أول الإسلام، وفي أول الهجرة أيضًا، ثم أمر بالجهاد، والقتال بعد ذلك.
والحالة الثانية: أن يكون ذلك فيمن لم يظهر منهم النفاق، بل يظهر منهم أماراته، ويعلم منهم ﷺ أماراته، ولكنهم لم يعلنوا نفاقهم، ولم يظهروه، فأمر ﷺ أن يعفو ويصفح عما ظهر له منهم، وعما علمه من أحوالهم؛ لعدم ظهوره بين الناس، ولئلا يقال: أن محمدًا يقتل أصحابه، ويتحدث في الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، ولهذا أعرض عن كثير من المنافقين، وما يظهر منهم من أمارات النفاق، وعلامات النفاق حذرًا من الفتنة، ومن تفريق الصف، ومن تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، فلهذا أعرض عليه الصلاة والسلام، وصبر حتى شرع الله الجهاد، وحتى ظهر من أمر المنافقين ما ظهر، فمن أظهر النفاق استحق ما يجب لمثله، ومن كتمه وأخفاه بينه وبين الله؛ فالله ولي حسابه .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ۝ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:82، 83].
يقول تعالى آمرًا لهم بتدبر القرآن، وناهيًا لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة، وألفاظه البليغة، ومخبرًا لهم أنه لا اختلاف فيه، ولا اضطراب، ولا تعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق، ولهذا قال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، ثم قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ أي: لو كان مفتعلًا مختلقًا، كما يقوله من يقول من جهلة المشركين، والمنافقين في بواطنهم لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا أي: اضطرابًا، وتضادًا كثيرًا، أي: وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله، كما قال تعالى مخبرًا عن الراسخين في العلم حيث قالوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] أي: محكمه، ومتشابهه حق، فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا، ولهذا مدح تعالى الراسخين، وذم الزائغين.
قال الإمام أحمد: حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم، حدثنا عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: لقد جلست أنا وأخي مجلسًا ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله ﷺ على باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حجرة، إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله ﷺ مغضبًا حتى احمر وجهه يرميهم بالتراب، ويقول: مهلًا يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضًا، إنما نزل يصدق بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه، وهكذا رواه أيضًا عن أبي معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: خرج رسول الله ﷺ ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال لهم: مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله ﷺ، ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده. ورواه ابن ماجه من حديث داود بن أبي هند به نحوه.
الشيخ: والمعنى أنه مسرور بهذا المجلس حيث سمع هذا الكلام من النبي ﷺ، وهو الحث على العناية بالقرآن، والإقبال عليه، وأن يصدق بعضه بعضًا، وألا يتنازعوا فيه، وأن الواجب على أهل العلم أن يفسروا كتاب الله بعضه ببعض، وأن يصدقوا بعضه ببعض، فما أشكل في موضع فسره الموضع الآخر من القصص، والأحكام، وغير ذلك، وما اشتبه في موضع دل عليه موضع آخر محكم واضح، فالمشتبهات ترد إلى المحكمات فيزول الإشكال، أما الاضطراب، والاختلاف، والتنازع، والجدال فهذا يضرهم، ويضر غيرهم، فلهذا نهاهم عن هذا عليه الصلاة والسلام، وأمرهم أن يعملوا بما عرفوا، وأن يكلوا علم ما جهلوا إلى عالمه حتى يفتح الله عليهم، وأن يدعوا النزاع، والجدال، والمراء، الذي قد يسبب الوحشة، والبغضاء، والاختلاف، والنزاع، وهذا أمر واقع، فإن الناس تساهلوا حتى يشتد بينهم النزاع، وأفضى ذلك بهم إلى الغضب، ثم الشحناء، والعداوة، والبغضاء، والتفرق، فالواجب أن يبحثوا لقصد الحق، وبالجدال بالتي هي أحسن، وبالرفق، والحكمة، والنية الصالحة، فمتى ظهر الحق فالحمد لله، وإلا أجلوا إلى وقت آخر، وإلى بحث آخر، حتى لا تكون هناك فتنة بينهم في هذا الباب أو غيره، وهكذا أهل العلم يبحثون، ويناظرون من غير أن يكون هناك جدال شديد يفضي إلى الوحشة، والشحناء، والبغضاء، والعداوة.
وقال أحمد: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن زيد، عن أبي عمران الجوني، قال: كتب إلي عبدالله بن رباح يحدث عن عبدالله بن عمرو، قال: هجرت إلى رسول الله ﷺ يومًا، فإنا لجلوس إذا اختلف اثنان في آية، فارتفعت أصواتهما، فقال: إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب. ورواه مسلم، والنسائي من حديث حماد بن زيد به.
وقوله: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها، ويفشيها، وينشرها، وقد لا يكون لها صحة. وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن حفص، حدثنا شعبة عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ، قال: كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع، وكذا رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن محمد بن الحسين بن إشكاب، عن علي بن حفص عن شعبة مسندًا، ورواه مسلم أيضًا من حديث معاذ بن هشام العنبري، وعبدالرحمن بن مهدي، وأخرجه أبو داود أيضًا من حديث حفص بن عمرو النمري، ثلاثتهم عن شعبة، عن خبيب، عن حفص بن عاصم به مرسلًا.
وفي الصحيحين، عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله ﷺ نهى عن قيل وقال، أي: الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت، ولا تدبر، ولا تبين.
الشيخ: وهذا مما ينشر الشر، والفساد؛ لأن من تكلم في الأمور بغير تثبت، وبغير تأكد من صحتها غلب عليه الشر، والفساد، وغلب عليه الكذب، وهو لا يدري، فالواجب التثبت في الأمور، وأن لا ينقل إلا ما قد عرف صحته، وعرف وجوده وحقيقته، وإلا فليمسك؛ لأنه قد يحدث بشيء يضر الناس، وهو لا يدري، ولا يشعر، وقد يحذر بشيء كذب لا أساس له، فالواجب التثبت في الأمور، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع يعني كفى به افترائه الكذب كونه ينقل كل ما سمع، ولا يبالي، ولا يتثبت في الأمور، وفي الحديث الآخر: بئس مطية الرجل زعموا قال: زعموا كذا زعموا كذا، في الصحيحين عن المغيرة أن الرسول نهى عن قيل وقال، لأن قيل وقال يقع فيه الفساد الكثير، والشر الكثير، فينبغي للمؤمن أن ينقل الطيب، وينقل النافع بعد التثبت، أما كونه ينقل كل ما سمع من باطل، ومن كذب، ومن فحش، فهذا غلط كبير. .......
وفي الصحيح من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين.
ويذكر هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته حين بلغه أن رسول الله ﷺ طلق نساءه، فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبي ﷺ، فاستفهمه أطلقت نساءك فقال: لا، فقلت: الله أكبر، وذكر الحديث بطوله.
وعند مسلم فقلت: أطلقتهن؟ فقال: لا، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي، لم يطلق رسول الله ﷺ نساءه، ونزلت هذه الآية: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.
ومعنى يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي: يستخرجونه من معادنه، يقال: استنبط الرجل العين إذا حفرها، واستخرجها من قعورها. وقوله: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلً}، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المؤمنين.
الشيخ: والمقصود من هذا أن الواجب على المؤمن أن لا يتساهل في نقل الأخبار؛ لأن التساهل في هذا الأمر يفضي إلى نقل الكذب، وترويج الكذب، وهذا يضر الناس، ويتناقلون الأخبار الكاذبة، وليس كل أحد يستثبت، والرجل لو سمع الخبر وذهب به إلى بلدان بعيدة ينقله من بلد إلى بلد، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع، وفي الحديث الآخر: بئس مطية الرجل زعموا، والحديث الآخر يقول ﷺ في الحديث الصحيح حديث المغيرة: إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعًا وهات، وسخط لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، المقصود قوله: قيل وقال، فينبغي للمؤمن التثبت في الأمور، وأن لا ينقل إلا الشيء الثابت المعلوم الذي ينفع الناس نقله، أما أن يأخذ ما هب ودب، ولا يبالي، وينقل عن كل أحد، فهذا يفضي به إلى أن يكذب، وإلى أن ينقل الكذب، وإلى أن يقال فلان كذاب، فلا يليق به ذلك، ولهذا مدح الله من تثبت في الأمور، ولم يعجل، وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ۝ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ۝ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء:81-83]، فذم لهم وعيب ولَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي لو ردوا الأخبار، وما ينقله الناس إلى ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام لعلمه أهل الحق، وأهل الاستنباط أرباب العلم والفضيلة، أرباب العناية والتثبت، فيستنبطون الأمور من أصولها، ويأخذونها من حقائقها، ولا ينقلون الشيء الذي لا صحة له، ولا أساس له، بل يتثبتون في الأمور، ويستنبطون الأمور حتى يوضحوا الحق، وحتى ينقلوا الحق، ويوصلوا الناس إلى الحق صافيًا نقيًا سليمًا.
س: لفظ الحديث: كفى بالمرء إثمًا، أو كذبًا، أو فيه اللفظان؟
الشيخ: الذي أحفظ كذبًا.
وقال عبدالرزاق، عن معمر، عن قتادة: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا يعني كلكم، واستشهد من نصر هذا القول بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب:
أشم ندي كثير النوادي قليل المثالب والقادحة
يعني لا مثالب له، ولا قادحة فيه.