بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، والصَّلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله الطَّاهرين، وأصحابه الطيبين.
بعد شكر الله نشكر لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ما تفضل به من وقته الثَّمين من الإجابة على هذه الأسئلة التي هي أو أكثرها محلّ اهتمام رجال العلم والدَّعوة وشباب الصَّحوة في كل مكانٍ.
وندعو الله العلي القدير أن يجزي شيخنا خير الجزاء، وأن ينفع بعلمه الجميع.
والآن أيّها المستمع الكريم والقارئ الكريم إلى الأسئلة وإجابة سماحة الشيخ عليها.
السؤال الأول: لا شكَّ أنَّ سماحتكم تعلمون ما تتعرض له الأمة من هجوم شرسٍ من أعدائها في كل مكانٍ، وعلى كل صعيدٍ. فما المخرج من ذلك أثابكم الله؟
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فلا ريب أنَّ الأمة تُبتلى بأعدائها، كما قال الله : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31]، فالأمّة تُبتلى بأعدائها، لكن لا بدَّ من الصبر؛ ولهذا قال الله : لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186]، وقال سبحانه: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 120].
فالواجب على الأمة الإسلامية الصبر والاحتساب، والاستقامة على دين الله، وألا تلتفت إلى ما يقوله أعداؤها، وعليها أن تلتزم بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن تستقيم على ذلك قولًا وعملًا وعقيدةً، وأن تُحكم شرع الله في عباد الله، هذا هو الواجب على جميع البلدان الإسلامية: حكومات وشعوبًا، ومتى استقامت على دين الله صدقًا في القول والعمل والعقيدة فإنه لا يضرّها نباح أعدائها ولا كيدهم، كما سبق في قوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ، ويقول في كتابه العظيم: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46]، ويقول جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]، ويقول : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 40-41]، ويقول سبحانه: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47].
فالمؤمنون هم المستقيمون على أمر الله، التَّاركون لمحارم الله، الواقفون عند حدود الله، المحكمون لشرع الله، هؤلاء المسلمون، وهم أولياء الله، كما قال : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55].
فمتى تمسَّك المسلمون بدين الله، والتزموا بما أوجب الله عليهم، وابتعدوا عمَّا حرم عليهم، وحكَّموا شريعته؛ فإنَّ الله سبحانه ينصرهم ويُؤيدهم على أعدائهم، ويكتب لهم النَّجاح والسَّعادة في الدنيا والآخرة، ويمنحهم الأمن في الدنيا وفي الآخرة، كما قال : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82].
والإيمان إذا أُطلق دخل فيه كلّ ما أمر به الله ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، فالمعنى أنهم استقاموا على توحيد الله، وأدّوا حقّ الله، وابتعدوا عن محارم الله، فلهم الأمن، ولهم الهداية في الدنيا والآخرة، ولا يضرّهم أعداؤهم إذا التزموا بالحقِّ، أما إذا فعلوا بعض ما حرَّم الله، أو تساهلوا ببعض ما أوجب الله، فقد يُبتلون ويُصابون بما يكرهون.
فأفضل الخلق محمد ﷺ لـمَّا أخلَّ الرُّماة يوم أحد بما يجب عليهم من الموقف الذي أمرهم النبي ﷺ بلزومه، لـمَّا أخلوا به دخل عليهم الأعداء من ذلك الموقف، وحصلت الهزيمةُ على المسلمين والقتل والجرح بأسباب المعصية التي ذكرها الله في قوله جلَّ وعلا: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران: 152]، والمعنى: سلّطوا عليكم.
والمقصود أنَّ الواجب على المؤمنين -دولًا وأفرادًا- الواجب عليهم الاستقامة على دين الله، والتَّمسك بشرع الله، والوقوف عند حدوده قولًا وعملًا وعقيدةً، والولاء والبراء في ذلك، والمحبَّة والبغضاء في ذلك، هذا هو الطريق للنَّصر والسَّعادة، فإذا استقاموا على ذلك فإنه لا يضرّهم أعداؤهم، كما قال سبحانه في الآيات السَّابقة: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].
وإنما يُؤتى المسلمون من جهة تقصيرهم وتفريطهم، فإذا قصَّروا في أمر الله، أو فرَّطوا فيه، أو تركوا ما يجب عليهم من الإعداد الواجب الذي أمر الله به في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، أو تركوا الحذر الذي أمرهم الله بأخذه في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، متى فرَّط المسلمون في شيءٍ مما أوجبه الله عليهم، أو فرَّطوا باكتساب ما حرَّم الله عليهم؛ فإنَّهم قد يُصابون بسبب ذلك، أو يُسلط عليهم العدو بسبب ذلك، كما جرى يوم أحد.
نسأل الله أن يُوفق المسلمين -حكومات وشعوبًا- لما يُرضيه، وأن يُصلح قلوبهم وأعمالهم، وأن يُوفِّقهم لتحكيم شرع الله والاستقامة عليه.
السؤال الثاني: دأبت كثيرٌ من وسائل الإعلام العالمية على اتِّهام الدُّعاة بالتَّطرف والإرهاب والأصولية، فما توجيه سماحتكم حيال ذلك؟
الشيخ: هذا لا ينبغي أن يُمنع الدُّعاة من قول الحقِّ، ولا ريب أنَّ بعض الدعاة قد يكون عندهم نقصٌ في العلم، وقد يكون عندهم نقصٌ في الأسلوب، وقد يكون عندهم تطرفٌ فيما يُقدمون عليه، لكن لا يكون عيبًا للجميع، وكل إنسانٍ يُؤخذ بذنبه، وإذا قصَّر في شيءٍ، أو فرَّط في شيءٍ يُوجه للأصلح، ويعلم كيف يأمر، وكيف ينهى، وكيف يدعو إلى الله ، حتى لا يكون سببًا لمنع الدعاة، وحتى لا يكون سببًا لتعطيل الدَّعوة، فكلٌّ يُؤخَذ بذنبه.
فالواجب على الدَّاعية إلى الله أن يكون على بصيرةٍ، كما قال الله سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]، عنده علم وبصيرة وفقه في الدِّين، عنده فقه كتاب الله، وسنة رسوله ﷺ، حتى يتكلم عن علمٍ، وحتى يدعو على بصيرةٍ، مع العناية بالأسلوب الحسن، وعدم العنف والشدة، قال الله : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وقال سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
فإذا استقام الدَّاعية وصبر لا يضرّه كلام مَن تكلم في عِرضه، أو سعى في منعه، أو ما أشبه ذلك، إنما الواجب عليه أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله، وأن يقف عند حدوده، حتى لا يكون حجر عثرةٍ في طريق الدَّعوة، وحتى لا يضيق على الدَّعوة بأسبابه، وأن يسلك مسلكًا شرعيًّا بالحكمة والكلام الطيب والأسلوب الحسن، وعدم التَّعرض للأشخاص، وأن يُنكر المنكر، ويدعو إلى المعروف، ولا ينظر إلى الناس بأعيانهم ويتكلم فيهم، كما قال الرسولُ ﷺ: ما بال أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟.
فالدَّاعية إلى الله يعتني ببيان الحقِّ والدَّعوة إليه، ويعتني ببيان المنكر والتَّحذير منه، مع كفِّ لسانه عن الكلام في أشخاص الناس: لا رؤساء الحكومات، ولا غيرهم، إنما المقصود إنكار المنكر، والدَّعوة إلى المعروف، هذا هو المقصود.
السؤال الثالث حفظكم الله: كثير من الصُّحف والمجلات تسخر من الإسلام، وتقع في الدُّعاة، وتشيد بالكفار والفُجَّار وأهل الفن، وتنشر صور النِّساء السَّافرات، فما حكم شراء هذه المطبوعات أو بيعها أو التَّرويج لها؟
الشيخ: الصُّحف التي بهذه المثابة من نشر الصور الخليعة، أو سبّ الدُّعاة، أو التَّثبيط عن الدَّعوة، أو نشر المقالات الإلحادية، أو ما شابه ذلك، الصحف التي هذا شأنها يجب أن تُقاطع، وأن لا تُشترى، ويجب على الدَّولة إذا كانت إسلاميةً أن تمنعها؛ لأنَّ هذه تضرّ المجتمع، وتضرّ المسلمين.
فالواجب على المسلم أن لا يشتريها، وأن لا يُروجها، وأن يدعو إلى تركها، ويرغب في عدم اقتنائها وعدم شرائها، وعلى المسؤولين الذين يستطيعون منعها أن يمنعوها، أو يُوجهوها إلى الخير، حتى تدع الشَّر، وتستقيم على الخير.
سؤال حفظكم الله: بعض طلبة العلم لا يهتمون بالدَّعوة والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وتعليم الناس؛ بحجة أنهم مشغولون بتحصيل العلم والتَّفرغ لذلك، فما توجيه سماحتكم لهؤلاء؟
الشيخ: الواجب على مَن عنده علم أن يدعو إلى الله حسب طاقته، فكل مَن عنده علم وبصيرة من طريق الكتاب والسُّنة عليه أن يدعو إلى الله على حسب علمه، وأن لا يُقدم إلا على بصيرةٍ، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف: 108].
والقول على الله بغير علمٍ جعله الله في المرتبة العُليا من المحرَّمات، كما قال سبحانه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33].
وأخبر سبحانه أنَّ القول على الله بغير علمٍ مما يأمر به الشَّيطان، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:168- 169].
فالواجب على مَن عنده علم وبصيرة أن يدعو إلى الله بالطريقة التي رسمها الله لعباده في قوله سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، فمن الحكمة العلم: قال الله سبحانه، وقال رسوله ﷺ، والموعظة الحسنة، يعني التَّرغيب في الجنة والأجر والسَّعادة والعاقبة الحميدة، والترهيب من عذاب الله وغضبه لمن ترك الواجب أو قصَّر فيه، أو ارتكب المحرم.
ثم قال سبحانه: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني: الأسلوب الحسن في إزالة الشُّبهة وإيضاح الحقِّ، وقال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت: 46]، هذا وهم أهل الكتاب: اليهود والنصارى؛ لأنَّ الجدال بالتي هي أحسن من أسباب قبول الحقِّ والخضوع له، والجدال بالعنف من أسباب النّفرة عن الحقِّ وعدم قبوله.
فالواجب على الدُّعاة إلى الله أن يعتنوا بهذا الأسلوب الذي رسمه الله لعباده وأمرهم به، وقال سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159]، هكذا ينبغي للدُّعاة أن يتكلَّموا بالحقِّ ويصدعوا به، ويصبروا على ذلك، لكن بالأسلوب الحسن، بالعلم والجدال بالتي هي أحسن، لا بالعنف والشّدة، ولا بالتَّعرض لفلان وفلان، وذمّ فلان وفلان، ولكن يُبين الحقّ ويدعو إليه بأدلته، ويُبين الباطل ويدعو إلى تركه بأدلته، يريد ثوابَ الله والسَّعادة، لا رياء، ولا سمعة، بل يريد وجهَ الله والدار الآخرة.
سؤال حفظكم الله: ما حكم التَّعاون والتَّآزر والتَّعاضد في أمر الدَّعوة إلى الله خاصَّةً، وأن البعض يقول أنه من البدع المحدثة؟
الشيخ: التَّعاون مطلوب في الدَّعوة إلى الله، والدَّعوة إلى الخير، كما قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، وقال النبي ﷺ: مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، والله سبحانه يقول: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1- 3].
فإذا ذهب جماعةٌ للدَّعوة إلى الله تعالى فعليهم أن يتعاونوا -في أي بلدٍ، أو في أي مكانٍ- على البرِّ والتَّقوى، هذا من أحسن الأشياء.
والنبي ﷺ بعث سبعين من القُراء إلى بعض القبائل للدَّعوة إلى الله والتَّعليم عليه الصلاة والسلام.
المقصود أنَّ التعاون على الدَّعوة، وإرشاد الناس من اثنين أو ثلاثة أو أكثر ليتعاونوا، ويُشجع بعضُهم بعضًا، وليتذاكروا فيما يجب من العلم والعمل ويتبصَّروا، هذا فيه خيرٌ كثيرٌ، لكن عليهم أن يتحرّوا الحقَّ بأدلته، ويحذروا الرِّياء والسُّمعة، ويحذروا الأساليب المنفرة عن الحقِّ، وعليهم أن يتحرّوا الأساليب المفيدة النافعة التي تُوضح الحقَّ وتُبينه، وتُرغب فيه، وتُحذر من الباطل.
فهذا التَّعاون أمرٌ مطلوبٌ بشرط الإخلاص لله، وعدم قصد الرِّياء والسُّمعة، وبقصد تعاطي الأساليب النَّافعة، وأن يكونوا على علمٍ وأهليَّةٍ، عندهم علم وبصيرة.
س: في السَّاحة مَن يقول بأنَّ الفِرَق التي ورد الأمرُ باعتزالها في حديث حذيفة هي الجماعات الإسلامية: كالسَّلفيين، والإخوان، والتَّبليغيين، فما قول سماحتكم في ذلك؟
الشيخ: النبي ﷺ قال لحذيفة لما قال: يا رسول الله، كنا في جاهليةٍ وشرٍّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟ قال النبي ﷺ: نعم، قال حذيفة: فهل بعد ذلك الشَّر من خيرٍ؟ قال: نعم، وفيه دخنٌ، قلتُ: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سُنَّتي، تعرف منهم وتُنْكِر، فقال حذيفة: يا رسول الله، فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟ قال: نعم، دُعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها، قلتُ: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا يعني: من العرب، قلتُ: يا رسول الله، فما تأمرنا إن أدركنا ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلتُ: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفِرَق كلها، ولو أن تعضَّ على أصل شجرةٍ حتى يُدركك الموت وأنت على ذلك رواه البخاري ومسلم في "الصحيحين".
هذا الحديث العظيم يُبين لنا أنَّ الواجب على المسلم: لزوم جماعة المسلمين، والتَّعاون معهم في أي مكانٍ، سواء كانت جماعة وُجدت في الجزيرة العربية، أو في مصر، أو في الشام، أو في العراق، أو في أمريكا، أو في أوروبا، أو في أي مكانٍ. فمتى وجد المسلمُ جماعةً تدعو إلى الحقِّ ساعدهم وصار معهم، وأعانهم وشجَّعهم، ويُثبتهم على الحقِّ والبصيرة، فإذا لم يجد جماعةً بالكلية فإنه يلزم الحقَّ، وهو الجماعة ولو كان وحده، كما قال ابنُ مسعودٍ لعمرو بن ميمون: "الجماعة ما وافق الحقَّ، وإن كنت وحدك".
فعلى المسلم أن يطلب الحقَّ، فإذا وجد مركزًا إسلاميًّا يدعو إلى الحقِّ، أو جماعةً في أي مكانٍ يدعون إلى الحقِّ -أي إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى العقيدة الطيبة- في أوروبا، في أفريقيا، في الجزيرة العربية، أو في أي مكانٍ، يطلب الحقَّ، يلتمس الحقَّ، يصبر عليه، ويكون مع أهله.
هذا هو الواجب على المسلم، فإذا لم يجد مَن يدعو إلى الحقِّ: لا دولة، ولا جماعة، كما يكون في آخر الزمان، قد يكون في جهات كثيرة ما يجد أحدًا، أما اليوم الحمد لله، يجد اليوم بحمد الله الجزيرة العربية فيها جماعة الحقِّ، والدولة الإسلامية، والدعاة إلى الحق في هذه الجزيرة العربية، يوجد الجماعة الكثيرة من أهل العلم في أماكن كثيرةٍ والحمد لله، ودعاة السنة في مصر والشام، وفي العراق، وفي كل مكانٍ أنصار السنة، وغيرهم من العلماء المعروفين بالعلم والفضل، يسأل عنهم، فإذا وجد صاحب سنةٍ ممن يدعو إلى الحقِّ، يدعو إلى العقيدة السَّلفية، إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، إلى توحيد الله والإخلاص له، والإيمان بأسمائه وصفاته، والاستقامة على دينه، يلزم هؤلاء ولو كانوا قليلين: كمراكز في أمريكا، في أوروبا، في غير ذلك، يلزمهم ويُساعدهم ويكون معهم في الحقِّ.
وهكذا في أي مكانٍ وجد فيه جماعة الحقِّ، ولو اثنين في طرفٍ من أطراف الدنيا، ولو ثلاثة يكون معهم، يتعاون معهم على الحقِّ، وإذا لم يجد أحدًا يقوم بالحقِّ الذي يعرفه، ما وجد أحدًا يعرف الحقَّ ..... ولا يقول به، فيلزم الحقَّ هو، وهو الجماعة، يلزمه، سواء كان في المشرق، أو في المغرب، أو في الشمال، أو في الجنوب، وما لم يجد جماعةً ولو اثنين أو واحدًا على الحقِّ الذي عنده يكون .....
س: الذي يقول بأنَّ هذه الجماعات الإسلامية هي الفِرَق التي تدعو إلى جهنم، والتي أمر النبيُّ باعتزالها، فهمه على كلامكم هذا غير صحيحٍ؟
ج: الذي يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ليس من الفِرَق الضَّالة، الفرقة الناجية هم أهل الحقِّ، هم دُعاة الهدى، ولو تفرَّقوا في البلاد، يكون منهم في الشام، يكون منهم في أمريكا، يكون منهم في مصر، يكون منهم في دول أفريقيا، ويكون منهم في آسيا، هم جماعة، المقصود هدفه ما هو؟ وعقيدته ما هي؟ فإذا كانوا على طريقة التوحيد والإيمان بالله ورسوله، والاستقامة على دين الله الذي جاء به كتابه وسنة رسوله، هم أهل السنة والجماعة، وإن كانوا في جهات كثيرة، لكن في آخر الزمان قد يقلّون، كما في زماننا هذا قد يقلون، وبعد زماننا قد يقلون أكثر.
فالحاصل أنَّ الضابط ما داموا على الحقِّ، إذا وُجد إنسانٌ أو جماعةٌ تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وتدعو إلى توحيد الله، واتِّباع شريعته، هؤلاء هم الجماعة، هم الفرقة الناجية.
وأما مَن دعا إلى غير كتاب الله، أو إلى غير سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا ليس من الجماعة، بل هو من الفِرَق الضَّالة الهالكة، وإنما الفرقة النَّاجية دُعاة الكتاب والسُّنة، وإن كان منهم جماعة هنا، وجماعة هنا، ما دام الهدفُ والعقيدةُ واحدةً فلا يضرّ، كون هذه تُسمَّى: أنصار السنة، وهذا يُسمَّى: إخوان مسلمين، وهذا يُسمَّى كذا، المهم عقيدتهم وعملهم، إذا استقاموا على الحقِّ: على توحيد الله، والإخلاص له، واتِّباع رسوله ﷺ قولًا وعملًا وعقيدةً، فالأسماء لا تضرّ، لكن عليهم أن يتَّقوا الله، وأن يصدقوا في ذلك، وإذا تسمَّى بعضُهم بأنصار السنة، أو تسمَّى بعضُهم بالإخوان المسلمين، أو تسمَّى بعضُهم بجماعة كذا، أو جماعة كذا، لا يضرّهم إذا جاء الصدقُ، إذا حصل الصدقُ في اتِّباع الكتاب والسُّنة، وتحكيمهما، والاستقامة عليهما قولًا وعملًا.
وإذا أخطأت الجماعةُ في شيءٍ تُنبه، إذا أخطأت أي جماعةٍ في أمرٍ من أمور الدين يُنبهها الآخرون ..... لا، لا بدَّ من التَّعاون على البرِّ والتقوى، إذا أخطأتم نُنبهكم، يستحقون التَّنبيه إذا أخطأوا في شيءٍ مما يتعلق بالعقيدة، أو بما أوجب الله، أو ما حرَّم الله، يُنبهون بالأدلة الشَّرعية بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن؛ حتى ينصاعوا للحقِّ، وحتى يقبلوه، وحتى لا ينفروا منه، هذا هو الواجب على أهل الإسلام: أن يتعاونوا على البر والتقوى، ويتناصحوا فيما بينهم، وألا يتخاذلوا فيطمع فيهم العدو.
س: البعض يقول أنَّ العدل والإنصاف مع المخالفين ليس من الواجبات الشَّرعية، فما رأي سماحتكم في هذا القول؟
ج: العدل والإنصاف واجبٌ مع العدو، ومع الصَّديق، قال الله جلَّ وعلا: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9] يعني: العادلين، وقال الله جلَّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل:90]، فهو يأمر بالعدل والإحسان مع كل واحدٍ، مع العدو، ومع الصديق، مع المؤمن، ومع الكافر، لا بدَّ من العدل، ولا يجوز له أن يظلم ويتعدَّى، بل يجب أن يعدل، فإذا دعا الكفَّار وأصرُّوا على الكفر قاتلهم، وأمَّا أن يُقاتلهم قبل الدَّعوة فلا، هذا ظلم، لا بدَّ أن يُعلمهم، وأن يدعوهم إلى الله أولًا، فإذا أصرُّوا قاتلهم وجاهدهم في سبيل الله.
وهكذا إذا ترافع إليه الخصمان يحكم بينهما بالعدل، وإن كان أحدهما مسلمًا، والآخر كافرًا، لا بدَّ أن يحكم بالعدل والبينة الشَّرعية، ولو كان المحكومُ له كافرًا، فإذا كان مثلًا مسلم مع كافرٍ، يدَّعي الكافرُ عليه أنه أخذ سيارته، أو أنه أخذ كذا وكذا، وعنده البينة الشَّرعية، فإنَّ القاضي يحكم له على المسلم، الواجب العدل، والله يقول: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9]، ويقول النبي ﷺ: المقسطون على منابر من نورٍ عن يمين الرحمن يوم القيامة، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا.
سؤال حفظكم الله: يتساءل الكثيرُ من طلبة العلم عن حكم دخول الدُّعاة والعلماء المجالس النِّيابية والبرلمانات والمشاركة في الانتخابات في البلاد التي لا تحكم بشرع الله، وما الضَّابط لذلك؟
الشيخ: هذا الدُّخول خطير، يعني: برلمانات ومجالس نيابية ونحوها، الدخول فيها خطير، لكن مَن دخل فيها عن علمٍ وبصيرةٍ يريد الحقَّ، ويريد أن يُوجه الناس إلى الخير، ويريد أن يُعرقل الباطل، ليس الأصل هو الطَّمع في الدنيا، ولا الطمع في المعاش، وإنما قد دخل لينصر دين الله، وليُجاهد في الحقِّ، وفي ترك الباطل.
بهذه النية الطيبة أنا أرى أنه لا حرجَ في ذلك، وأنه ينبغي حتى لا تخلوا المجالس من الخير وأهله، إذا كان دخل بهذه النية وهو عنده بصيرة حتى يماحل عن الحقِّ، حتى يُجادل عن الحقِّ، وحتى يدعو إلى ترك الباطل، ولعلَّ الله ينفع به حتى تحكم الشَّريعة.
إذا دخل بهذه النية، بهذا القصد، مع العلم والبصيرة، فالله جلَّ وعلا يأجره على ذلك، أما إذا دخل بقصد الدنيا، أو بقصد الطَّمع في الوظيفة، لا يجوز هذا، لكن دخوله يريد وجهَ الله والدار الآخرة، يريد نصر الحقِّ، يريد بيان الحقِّ بأدلته، لعلَّ هذه المجالس ترجع إليه وتُنيب إليه.
س: متى حفظكم الله تكون النَّصيحة سرًّا؟ ومتى تكون علنًا؟
ج: يعمل النَّاصح بما هو الأصلح؛ إذا رأى أنها سرّ أنفع نصح سرًّا، وإذا رأى أنها في العلن أنفع فعل، لكن إذا كان الذنبُ سرًّا لا تكون النَّصيحة إلا سرًّا، إذا كان يعلم من أخيه ذنبًا سرًّا ينصحه سرًّا، لا يفضحه، ينصحه بينه وبينه، أمَّا إذا كان الذنبُ معلنًا، يراه الناسُ مثلًا في المجلس: قام واحدٌ بشرب الخمر، يُنكر عليه، أو قام واحدٌ يدعو إلى شرب الخمر وهو حاضر، أو إلى الربا، يقول: يا أخي لا يجوز هذا. أمَّا ذنب تعلمه من أخيك: تعلم أنَّ أخاك يشرب الخمر، أو تعلم أنه يتعاطى الرِّبا، تنصحه بينك وبينه سرًّا، تقول: يا أخي، بلغني كذا. تنصحه، أمَّا إذا فعل المنكر علانيةً في المجلس وأنت تشاهد المنكر، أو شاهده الناس، تُنكر عليه، إذا سكتَّ معناه أنك أقررتَ الباطل.
فإذا كنا في مجلسٍ ظهر فيه شربُ الخمر تُنكره إن استطعتَ، وكذلك ظهر فيه منكرٌ آخر من الغيبة تقول: يا إخواني، ترى ما تجوز الغيبة. أو ما أشبهه من المعاصي الظاهرة، إذا كان عندك علمٌ تُنكرها؛ لأنَّ هذا منكر ظاهر، لا تسكت عليه، من باب إظهار الحقِّ والدَّعوة إليه.
س: هل يجب على العلماء والدُّعاة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في المجال السِّياسي؟ وما الضَّابط لذلك؟
ج: الدَّعوة إلى الله مُطلقة في كل مكانٍ، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر كذلك، لكن مثلما تقدم بالحكمة والأسلوب الحسن والكلام الطيب، لا بالعنف والشّدة، يدعو إلى الله في المجالس النِّيابية، يدعو إلى الله في المساجد، يدعو إلى الله في المجتمعات العارضة بينه وبين إخوانه، يدعو إلى الله، ويُعلم الناس الخير إذا كان عنده علمٌ، إذا كان عنده بصيرة، لكن بالأسلوب الحسن، لا بالعنف والشدة والسَّب، ولا التَّعيير، بل يكون بالكلام الطيب: يا عبدالله هذا لا يجوز، هداك الله، وفَّقك الله، يا إخواني هذا لا يجوز، قال الله فيه كذا، وقال الرسول فيه كذا. مثلما قال الله جلَّ وعلا: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ يعني: بالعلم وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]، هذا سبيل الله، هذا توجيه ربنا ، ويقول سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
ولا يُغير بيده إلا ما يستطيع، مثلًا يغير على زوجته، على أولاده إذا استطاع ذلك، مثل: موظف له صلاحية في الهيئة، أو في غير الهيئة، أما ما ليس له فيه صلاحية يرفعه إلى ولاة الأمور، يطلب منهم إنكار المنكر بالأسلوب الحسن.
س: هناك إشكال في أذهان البعض، وهو كيف نوفق بين طاعة ولي الأمر المسلم، وفي الوقت نفسه ندعو إلى الله، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر باعتبار هذه الواجبات الشَّرعية إذا كان الوالي لا يسمح بذلك؟
ج: الإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حسب طاقته، ويدعو لولي الأمر بالتوفيق والهداية وإصلاح النية والعمل؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا أمر بذلك، قال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71]، إذا كان عنده علمٌ، وعنده بصيرة، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر في الأماكن التي يستطيعها، والأوقات التي يستطيعها، لكن يكون عنده علمٌ، عنده بصيرة، مع الدُّعاء لولاة الأمور بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل، وأنَّ الله يُعينهم على تنفيذ أمره، وترك ما نهى عنه، ويسأل الله لهم البطانةَ الصَّالحة التي تُعينهم على الخير، وهو في نفسه يفعل ما يستطيع من دعوةٍ إلى الله، وأمرٍ بالمعروف، ونهيٍ عن المنكر حسب طاقته: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
س: هل الدَّعوة السِّرية مشروعة عند الحاجة إليها؟ وما الضَّوابط لها حينئذٍ؟
ج: إذا كان يخشى على نفسه في بلدٍ لا يسمح له بذلك، يدعو إلى الله سرًّا، حتى لا يضرَّ نفسه، وحتى لا يضرَّ الدعوة أيضًا، إذا كان ممنوعًا يدعو إلى الله سرًّا في المجالس التي يرى أنها مناسبة للدَّعوة فيها، إذا كان عنده علم وبصيرة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف: 108]، لا بدَّ أن يتَّهم نفسه، يتأكَّد أنه عنده علم، قال الله، قال رسوله، فيدعو إلى الله سرًّا مع إخوانه من الجهات التي يجتمع بهم: في بيوتهم، في اجتماعاتهم الخاصَّة؛ أداءً لما أوجب الله من التَّبليغ، الله جلَّ وعلا أمر بالدَّعوة إليه ، وأكَّد ذلك في كتابه العظيم، وهكذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، حتى ينشر الحقّ، حتى يعلم الناس الحقّ، حتى يهتدوا إليه، فإذا سكت العالِـمُ، وسكت العالِـمُ الآخر، فمَن يدل الناس؟ ومَن يُرشدهم إلى الحقِّ والهدى؟
س: بعض التيارات الإسلامية تسخر من كتب الفقه، وتنال من الفقهاء، وتنفر منهم، فما الموقف من هؤلاء؟
ج: الواجب على الدَّاعي أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله، فلا يسخر بكتب الفقهاء، ولا يستهزئ بها، ولا ينفر منها، ولكن ينفر من التَّعصب والتقليد الأعمى، ويحثّ الناس على العلم بالأدلة الشَّرعية، وأن يحذروا التَّقليد الأعمى والتَّعصب.
وكتب الفقه مختلفة، متنوعة، فيها الكتب التي تذكر الدليل وكلام العلماء، ومنها الكتب التي لا تعتني بذلك، فطالب العلم يبحث عن الكتب التي تعتني بالدليل، تذكر الأدلة، تذكر الإجماع والخلاف؛ حتى ينتفع بها المؤمن، ويحذر من التَّعصب والتقليد الأعمى، هكذا ينبغي.
أما السُّخرية فلا محلَّ لها، لكن يُرشد الناس إلى أن الواجب العناية بالأدلة الشرعية، والحذر من التعصب والتقليد الأعمى الذي حذَّر الله منه ورسوله.
س: البعض -حفظكم الله- يزعم أنَّ اتباع المذاهب الأربعة من أهل البدع، فما رأي سماحتكم في ذلك؟
ج: هذا باطل، هذا الكلام على إجماله باطل، ما يجوز هذا الكلام، الأصل في المذاهب الأربعة الخير والهدى والصلاح؛ لأنهم دُعاة، علماء أربعة: أبو حنيفة، والشافعي، ومالك، وأحمد، دُعاة خيرٍ، علماء معروفون، لكن الذنب يكون لمن تعصَّب لهم وقلَّدهم التَّقليد الأعمى، فهم يُخطئون ويُصيبون، كل واحدٍ يُخطئ ويُصيب، كل واحدٍ له مسائل أخطأ فيها.
فالواجب على أتباعهم أن يتَّقوا الله، وأن لا يتعصَّبوا، وأن يأخذوا الحقَّ بدليله، فإذا أخطأ العالـمُ الفلاني أو العالـمُ الفلاني فلا يُؤخذ بخطئه؛ لأنه إمامهم الذي ينتسبون إليه، لا، الحقّ فوق ذلك، فوق الجميع.
فالواجب على أتباع أبي حنيفة، وأتباع مالك، وأتباع الشَّافعي، وأتباع أحمد، وعلى غيرهم من أهل العلم أن يأخذوا الحقَّ بدليله، وأن لا يتعصَّبوا لزيدٍ ولا عمرو، ويجب عدم التَّعصب، ويحرم التَّعصب، فليس للحنفي أن يتعصب للحنفية، وليس للشَّافعي أن يتعصب للشَّافعية، وهكذا المالكي، وهكذا الحنبلي، الحقّ فوق الجميع.
الواجب على أتباع هذه المذاهب أن يتَّقوا الله، وأن يأخذوا الحقَّ بدليله، وأن يجتهدوا في ذلك؛ حتى تكون الحُجَّةُ هي المقدم، والدليل هو المقدم، فإذا وافق الدليلُ ما قاله الأحناف أُخذ بقول الأحناف، وإذا كان الدليلُ مع الحنبلية أُخذ بقولهم في أي مسألةٍ، وهكذا مع المالكية والشَّافعية.
مثال لذلك: الجدّ مع الإخوة، المعروف عند الشَّافعية والمالكية والحنبلية توريث الإخوة مع الجدّ، والمعروف عند الحنفية إسقاط الإخوة بالجدّ، فنحن نقول: قول الحنفية هذا أصلح، وأنَّ الجدَّ أبٌ يُسقط الإخوة من أجل الدليل، لا من أجل أنه قول الحنفية، بل من أجل الدليل.
وهكذا القول بأنَّ مسَّ المرأة ينقض الوضوء، المعروف عند الشَّافعي أنه ينقض الوضوء مطلقًا. وقال آخرون -كالحنابلة- أنه ينقض المسّ بالشَّهوة. والصواب أنه لا ينقض، مسّ المرأة لا ينقض، مسّ المرأة بشهوةٍ ولا بغير شهوةٍ، وإنما ينقض الوضوء الحدث المعروف: فساء، أو ضراط، أو بول، أو غائط، أو مسّ الفرج باليد، أو النوم .....، النَّواقض المعروفة.
أما قوله تعالى: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، فالمراد به الجماع، لامستم أي: جامعتم، هذا هو الحقّ من معنى الآية، هذه أمثلة لبيان الصواب، فلا يجوز التَّعصب بغير دليلٍ لأي مذهبٍ من المذاهب الأربعة ولا غيرها: كالظَّاهرية، ولا غيرها.
الواجب الأخذ بالدليل، وتحكيم الدليل، فإذا كان الحقُّ مع الحنفية أو مع الظَّاهرية أُخذ به، وإذا كان مع الشَّافعية أُخذ به، وإذا كان مع المالكية أُخذ به. المحكم هو الدليل.
فعلى المنتسبين لهذه المذاهب أن يتَّقوا الله، وأن يعتنوا بالدليل، وأن يحكموه؛ حتى تكون الحُجَّة هي المقدمة، والدليل هو المقدم، وحتى يبتعد عن التَّعصب والتقليد الأعمى.
س: هل هناك -حفظكم الله- فرق بين مصطلح السَّلفية ومصطلح أهل السُّنة والجماعة؟
ج: لا أعرف في هذا شيئًا، السَّلف هم أهل السُّنة والجماعة، سلف الأُمة هم أهل السُّنة والجماعة، وهم أصحاب النبي ﷺ وأتباعهم بإحسانٍ، يُقال لهم: السَّلف؛ لأنهم تقدَّموا على غيرهم، ويُقال لهم: أهل السُّنة والجماعة؛ لأنهم اجتمعوا على سُنة رسول الله ﷺ، مثلما بيَّن ذلك أهلُ العلم: كأبي العباس ابن تيمية في "الواسطية"، وغيره من أهل العلم.
فالمقصود أنَّ السَّلف إذا أطلق: السَّلف الصَّالح هم الصحابة، هم أصحاب النبي ﷺ، وأتباعهم بإحسانٍ، إذا أطلق أهل السُّنة والجماعة فهم الصحابة، هم أصحاب النبي ﷺ، وأتباعهم بإحسانٍ، وهؤلاء هم أهل السُّنة، وهم الفرقة الناجية، وهم الطائفة المنصورة المتمسكة بالقرآن والسنة إلى آخر الزمان، والمخالفون لهم أقسام مثلما ذكر أبو العباس ابن تيمية في "الحموية".
س: يُلاحظ أنَّ كثيرًا من الناس يُسقطون الثّقة بداعيةٍ أو عالـمٍ لخطأ وقع منه، أو شائعة قِيلت عنه، دون التَّثبت، أو مُراعاة الجوانب الخيرة الكثيرة في حياته، فما تعليق سماحتكم على ذلك؟
ج: الواجب التَّثبت، فإذا أخطأ العالـمُ أو الدَّاعية أو الدَّاعي إلى الله في مسألةٍ يُنبه عليها، ولا يسقط حقّه فيما أصاب فيه، بل يجب الإنصافُ والعدل، ويُنبه على خطئه، ويُوضح له خطأه، ويُقبل منه الحقّ فيما أصاب فيه، ولا ينبغي للعاقل أن يترك الحقَّ إذا قاله الدَّاعية أو العالـم من أجل أنه أخطأ في مسألةٍ، الحق مُقدم على الجميع، فإذا كان عنده حقٌّ وباطلٌ يُؤخذ الحقّ، ويُترك الباطل، وإذا أخطأ في مسألةٍ من المسائل يُنبه، ويُقال له: أخطأتَ في كذا. والدليل يقتضي كذا وكذا. ولا يغمط حقّه بالكلية، ولكن يُشكر على ما أصاب فيه من الحقِّ، ويُنبه على خطئه في أي مسألةٍ من المسائل، مثل: الأئمة الأربعة، وغيرهم. كل واحدٍ له أخطاء في مسائل.
س: بعض تيارات الصَّحوة الإسلامية تتبنى تكفير الناس: حكومات، وشعوبًا، فما قول سماحتكم في الأمر الخطير؟
ج: هذا لا يجوز، الإجمال لا يجوز، لا بدَّ أن يكون التَّكفير على حُجَّةٍ وبيانٍ، لا بدَّ من معرفة عقيدة المكفّر وأعماله وأقواله؛ حتى يُبين أسباب كفره، وقد كتب العلماءُ في كتبهم بابًا سموه: "باب حكم المرتد"، يجب على طالب العلم وأهل العلم مُراجعته، والعناية به، والتَّثبت في ذلك؛ حتى تعرف نواقض الإسلام، وحتى تعرف الأشياء التي ليست ناقضة، ولا يجوز الإجمال والتَّعميم؛ لأنَّ هذا خطرًا عظيمًا، فلا يُكفر أحدٌ إلا بذنبٍ واضحٍ اعتقده يقتضي كفره، أو قاله يقتضي كفره، أو عمله يقتضي كفره، أما الإجمال في الحكومات والأفراد، أو أهل البلد الفلانية، أو الناحية الفلانية، هذا ما يقوله عاقل، هذا ما يقوله إلا الجاهل، الإنسان لا يكفر إلا بذنبه، والحكومات ما تكفر إلا بذنوبها المكفرة النَّواقض للإسلام، أما الإجمال والإطلاق فهذا لا يجوز.
س: كثرت والحمد لله الهيئات الإغاثية الإسلامية في العالم: كهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية في المملكة، ولجنة مُسلمي أفريقيا في الكويت، وغيرها، إلا أنَّ البعض يُشكك في هذه الهيئات، وينال منها؛ لبعض الأخطاء، فما نصيحتكم لمن يُشكك فيها؟ وما توجيهكم للقائمين على هذه الهيئات؟
ج: أما نصيحتي للقائمين على الهيئات: نصيحتي لهم أن يعتنوا بذلك، وأن يُوصلوا الحقَّ إلى أهله، وأن يبتعدوا عن أسباب التُّهمة، يبتعدون عن الأشياء التي يُتَّهمون بأسبابها، وعليهم أن يجتهدوا في قبض الصَّدقات ممن تبرع بها، وإيصالها إلى مُستحقّيها بالطرق الأمينة، بواسطة الثِّقات، وأن يجتهدوا في إظهار ذلك وإعلانه؛ حتى يعلمه الناس، وحتى تبتعد عنهم التُّهمة.
ونصيحتي لمن وجد عليهم خطأً أن يُرشدهم إلى خطئهم ويُنبههم، يقول: أخطأتم في كذا، وبلغني كذا؛ حتى ينتبهوا لهذا الشيء، ولا يُطلق الذَّم عليهم؛ حتى لا يثبط الناس عن هذا الخير العظيم، ولكن يُرشدهم إلى ما أخطأوا فيه، وإن كان ما عنده تثبت يقول: بلغني كذا، فأرجو التَّثبت في هذا الأمر، أرجو العناية بهذا الأمر؛ حتى لا يكون عامل هدمٍ وفسادٍ.
الواجب على كل مَن بلغه خطأ للهيئة أن يُرشدها إلى الحقِّ، إذا تحقق له ذلك وعلمه يقينًا يُرشدها؛ حتى تستقيم، وإذا كان عنده شكٌّ يقول: بلغني كذا، فأرجو التَّحقق، أرجو العناية بهذا الأمر؛ حتى لا تتّهموا به؛ حتى تحصل الفائدة ويحصل الخير للجميع.
س: البعض يتّهم مكاتب الدَّعوة بالتَّقصير في دعوة المرأة، والمساهمة في إيقاف المدّ التَّغريبي بين النِّساء، ما قول سماحتكم في ذلك؟ وهل هنالك مشاريع دعوية مُستقبلية خاصَّة بالمرأة؟
ج: مكاتب الدَّعوة تعمل بما أوكل إليها من دعوة الناس، وتنظيم المحاضرات والنَّدوات في الجهات التي تتبعها، والمحاضرات تشمل النِّساء والرجال، يجتمعون في المساجد ليستمعوا الفوائد، وأما تخصيص محاضرات للنِّساء فهذا محلُّ نظرٍ، ومحل عنايةٍ، نرجو أن يتيسر البتّ فيه قريبًا بطرقٍ مناسبةٍ إن شاء الله، عن قريبٍ بشيءٍ مما يتعلق بوجود إدارات لدعوات النِّساء، ومحاضرات النِّساء تحتاج إلى تأملٍ ونظرٍ، سوف يتمّ النَّظر في ذلك إن شاء الله، لكن المحاضرات والنَّدوات في المساجد تشمل هؤلاء وهؤلاء؛ بأن يحضرها النِّساء في الغالب ويستفيدون.
س: كيف ينبغي أن تكون العلاقةُ بين الدُّعاة إلى الله وطلبة العلم، مع اختلافهم في بعض وسائل الدَّعوة وبعض الأمور الاجتهاديَّة؟
ج: يجب أن يتعاونوا على البرِّ والتقوى، وأن يستفيد بعضُهم من بعضٍ؛ حتى تكون المهمةُ واحدةً، فالعُلماء والدُّعاة شيء واحد، فالدعاة يستفيدون من العلماء، والعلماء يستفيدون من الدعاة، كل واحدٍ يستفيد من الآخر، هذا يستفيد من الدَّعوة والأسلوب، والدَّاعية يستفيد من العالم فيما جهل فيه.
والدُّعاة أصلهم من العلماء، ما هنا دعاة إلا من العلماء، وإن تفاوت الناس، لكن على العلماء الذين يعتنون بالتعليم وحلقات العلم، وعلى الدُّعاة الذين يتجولون للدَّعوة ويعتنون بالدعوة، عليهم أن يتعاونوا فيما بينهم، وكل واحدٍ يكمل الآخر ويتمم الآخر بالتَّوجيه والإرشاد والنَّصيحة فيما بينهم، فالداعية يستفيد من العالم، والعالم يستفيد من الدَّاعية فيما يجهله من أسلوب الدَّعوة، والدَّاعي يستفيد من العالم فيما قد يجهل من الأحكام.
المقصود أنَّ الواجب التَّعاون بينهم على البرِّ والتقوى، وعلى إيضاح الحقِّ والدَّعوة إليه.
س: إذا أدَّى اجتهاد طالب العلم إلى مُخالفته لبعض مَن هو أهلٌ للعلم منه وأفضل، فما الحكم في حقِّه حينئذٍ؟
ج: العلم ليس مقصورًا على زيدٍ أو عمرو، عليه أن يعمل بما اتَّضح له، وإن كان خالف مَن فوقه، فكثيرٌ من أتباع أحمد والشَّافعي ومالك خالفوا أئمّتهم في مسائل معروفة، فهو مكلف بما يظهر له من الدليل، وليس له أن يترك الحقَّ من أجل قول شيخه أو إمام مذهبه، هذا حرام عليه، وهذا تعصب أعمى، متى ظهر له الحقّ بالدليل وجب عليه الأخذ به، وإن خالف مَن هو أكبر منه من العلماء والمشايخ.