تفسير قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ..}

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأعراف:85].

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: هُمْ مِنْ سُلَالَةِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَشُعَيْبٌ وهو ابْنُ مِيكِيلَ بْنِ يَشْجُرَ. قَالَ: وَاسْمُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ: يثرون.

قلتُ: مدين تُطلق عَلَى الْقَبِيلَةِ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ الَّتِي بِقُرْبِ مَعَانٍ مِنْ طَرِيقِ الْحِجَازِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص:23]، وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.

قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هَذِهِ دَعْوَةُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: قَدْ أَقَامَ اللَّهُ الْحُجَجَ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ.

ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي مُعَامَلَتِهِمُ النَّاسَ بِأَنْ يُوفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، وَلَا يَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، أَيْ: لَا يَخُونُوا النَّاسَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَيَأْخُذُوهَا عَلَى وَجْهِ الْبَخْسِ، وَهُوَ نَقْصُ الْمِكْيَالِ والميزان خفيةً وتدليسًا، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ إلى قوله: لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1- 6]، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْهُ.

الشيخ: وهذا يُبين تحريم أموال الناس، وأنَّ الله جلَّ وعلا حرَّم على العباد ظلم إخوانهم، الواجب تحرّي العدل في كلِّ شيءٍ، والحذر من الظّلم خفيًّا أو ظاهرًا، يجب الحذر منه، ومن الظلم: بخس المكيال والميزان، ولو بطريقةٍ خفيَّةٍ، هذا من الظلم؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ۝ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الشعراء:181- 182]، وقال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1- 3]، وقال جلَّ وعلا: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19].

وقال النبيُّ ﷺ في الحديث الصَّحيح في خُطبته يوم عرفة ويوم النَّحر: إنَّ دماءكم وأموالَكم عليكم حرام، وفي اللَّفظ الآخر: دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.

فالواجب على كل مسلمٍ، على كل مُكلَّفٍ أن يتحرّى العدل، وأن يحذر الظلم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ يعني: بالعدل شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، وقال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

س: ............؟

ج: نعم، هم أصحاب الأيكة: إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ [الشعراء:177]؛ لأنَّه نسبهم إلى عبادة غير الله، لم يقل: أخوهم، وإلا مدين هنا هي البلد: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [الأعراف:85] إلى النَّسب.

س: ............؟

ج: ذكر ابنُ كثيرٍ أنَّ السّر أنه لما نسبهم إلى عبادة الشَّجرة لم يُناسب أن يقول: أخوهم، كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ [الشعراء:176] ..... شعيب لما كانوا –يعني- نُسبوا إلى عبادة الشَّجرة كان من المناسب ألا يكون أخًا لهم.

س: في الحالة الثانية أحسن الله إليك ما داموا على هذه الحال؟

ج: قال: وَإِلَى مَدْيَنَ، نسبهم إلى البلد: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، قال: وَإِلَى مَدْيَنَ إلى جدِّهم، مدين جدّهم، وأصحاب الأيكة نسبهم إلى الشَّجرة، وَإِلَى مَدْيَنَ نسبهم إلى جدِّهم.

س: تكون أخوةً في النَّسَب؟

ج: في النَّسب إيه، مثلما قال في الأنبياء الآخرين في النَّسب: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [الأعراف:65]، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا [الأعراف:73].

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: خطيب الأنبياء؛ لفصاحة عبارته، وجزالة موعظته: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ  ۝ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [الأعراف:86- 87].

يَنْهَاهُمْ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ أي: تتوعدون النَّاسَ بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يُعْطُوكُمْ أَمْوَالَهُمْ.

قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: كَانُوا عَشَّارِينَ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ أَيْ: تَتَوَعَّدُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْآتِينَ إِلَى شُعَيْبٍ لِيَتَّبِعُوهُ.

وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: بِكُلِّ صِرَاطٍ وهو الطريق، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ قَوْلُهُ: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا أَيْ: وَتَوَدُّونَ أَنْ تَكُونَ سَبِيلُ اللَّهِ عِوَجًا، مَائِلَةً.

وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ أَيْ: كُنْتُمْ مُسْتَضْعَفِينَ لِقِلَّتِكُمْ، فَصِرْتُمْ أَعِزَّةً لِكَثْرَةِ عَدَدِكُمْ، فَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ.

وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، والقرون الْمَاضِيَةِ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ بِاجْتِرَائِهِمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ.

الشيخ: لا سيما والعهد قريب؛ أمامهم قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، كلهم قريبون منهم، وقد عُوجلوا بالعقوبة، فالواجب على قوم شعيبٍ أن يأخذوا حذرهم لئلا يُصيبهم ما أصاب مَن قبلهم، وهم قريبون منهم، قريبون منهم مكانًا وزمانًا، كما قال في الآية الأخرى: وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ۝ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90]، كلما كانت العقوبةُ أقرب صارت الذّكرى بها أعظم، والله جلَّ وعلا قصَّ القصص على الأمم؛ لإقامة الحجّة وقطع المعذرة، فالواجب على مَن كان له قلبٌ أن يتَّعظ، وأن يأخذ حذره؛ لئلا يُصيبه ما أصاب مَن قبله.

س: أيش معنى: كانوا عشَّارين؟

ج: يعني: يأخذون عشورَ أموال الناس، مَن مرَّ بهم أخذوا عُشرَ ماله ظلمًا، والمقصود أنَّهم ظلمة، كانوا يأخذون من الناس ظلمًا، يقطعون الطَّريق، ويظلمون الناس؛ يأخذون من أموالهم: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [الأعراف:86] من الإيعاد، يُوعدونه يقولون له: إمَّا أعطيتنا، وإلا فعلنا بك وفعلنا بك، ويصدّون عن سبيل الله، دُعاة للشِّرك وظلمة أيضًا مع ذلك.

س: العشور ما تُطلق على المكوس؟

ج: هي المكوس، وتُطلق على العشور التي ما هي بمكوسٍ أيضًا، لكن الغالب عليها المكوس، إذا أُطلق العشَّارون فهم المكّاسون.

وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا أَيْ: قَدِ اخْتَلَفْتُمْ عَلَيَّ فَاصْبِرُوا أي: انتظروا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا أَيْ: يَفْصِلُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [الأعراف:87]، فَإِنَّهُ سَيَجْعَلُ العاقبةَ للمُتَّقين، والدَّمار على الكافرين.

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ۝ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:88- 89].

هَذَا خبرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا وَاجَهَتْ بِهِ الْكُفَّارُ نبيَّهم شُعَيْبًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَعُّدِهِمْ إيَّاه ومَن معه بالنَّفي عن الْقَرْيَةِ، أَوِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الرُّجُوعِ فِي مِلَّتِهِمْ وَالدُّخُولِ مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، وَهَذَا خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ، وَالْمُرَادُ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ عَلَى الْمِلَّةِ.

وَقَوْلُهُ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ يَقُولُ: أَوَأَنْتُمْ فَاعِلُونَ ذَلِكَ وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، فَإِنَّا إِنْ رَجَعْنَا إِلَى مِلَّتِكُمْ وَدَخَلْنَا مَعَكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ فَقَدْ أَعْظَمْنَا الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ فِي جَعْلِ الشُّرَكَاءِ معه أندادًا. وهذا تعبيرٌ منه عن اتِّباعهم، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا، وَهَذَا رَدٌّ إِلَى الله المسبِّب.

مُداخلة: في نسخة يا شيخ: وهذا ردٌّ إلى المشيئة، فإنَّه يعلم كلَّ شيءٍ.

طالب: هذا ردٌّ إلى الله المستقيم، فإنَّه يعلم.

الشيخ: وأيش عندك؟

طالب: وهذا ردٌّ إلى المشيئة، فإنَّه يعلم كلَّ شيءٍ.

الشيخ: هذا أولى، أولى: المشيئة، والمسبّب لها وجه، لكن المشيئة أوضح: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ بنصِّ الآية: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا، وإلا فهو مُسبّب الأسباب، والقاضي بكل شيءٍ ، وهذا ردٌّ.

إلى الله المسبّب.

الشيخ: حطّ عليها نسخة: إلى المشيئة، ما يُخالف.

فَإِنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا أَيْ: فِي أُمُورِنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ أَيِ: احكم بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ أَيْ: خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، فَإِنَّكَ الْعَادِلُ الَّذِي لا يجور أبدًا.

وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ۝ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ۝ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:90- 92].

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ شِدَّةِ كفرهم وَتَمَرُّدِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلْحَقِّ؛ وَلِهَذَا أَقْسَمُوا وَقَالُوا: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ؛ فلهذا عقّبه بِقَوْلِهِ: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ، أخبر تعالى هنا أنَّهم أخذتهم الرَّجفة، وذلك كما أرجفوا شعيبًا وأصحابه، وتوعدهم بِالْجَلَاءِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ فَقَالَ: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود:94]، وَالْمُنَاسَبَةُ هناك والله أعلم أنَّهم لما تهكَّموا به في قولهم: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ الآية [هود:87]، فَجَاءَتِ الصَّيْحَةُ فَأَسْكَتَتْهُمْ.

وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:189]، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ [الشعراء:187]، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ.

وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كُلُّهُ: أَصَابَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَهِيَ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ، فِيهَا شَرَرٌ مِنْ نَارٍ وَلَهَبٍ وَوَهَجٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَرَجْفَةٌ مِنَ الْأَرْضِ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ؛ فَزَهَقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَفَاضَتِ النُّفُوسُ، وَخَمَدَتِ الأجسامُ: فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَيْ: كَأَنَّهُمْ لَمَّا أَصَابَتْهُمُ النِّقْمَةُ لَمْ يُقِيمُوا بِدِيَارِهِمُ الَّتِي أَرَادُوا إجلاء الرسول وصحبه منها.

ثم قال تعالى مُقَابِلًا لِقِيلِهِمْ: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ.

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [الأعراف:93] أَيْ: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلام بعدمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ وَالنَّكَالِ، وَقَالَ مُقَرِّعًا لَهُمْ وَمُوَبِّخًا: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ أَيْ: قَدْ أَدَّيْتُ إليكم ما أُرسلتُ به، فلا آسف عليكم وقد كفرتم بما جئتُكم به؛ فلهذا قال: فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ.

الشيخ: والمعنى أنَّني لا أحزن عليكم، لستم أهلًا للحزن عليكم، بل هذا محلّ الفرحة والسّرور، وانتقام الله من أعدائه وخُصومه هذه نعمة من الله يُسَرّ بها المؤمن، ويفرح بها المؤمن، ولا يأسى عليهم، وهكذا مثلما تقدّم في قصّة نوح وهود وصالح ولوط، هم هكذا، نسأل الله العافية، قُرِعُوا ووبِّخوا ثم أُخِذُوا.