تفسير قوله تعالى: {..وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

حَدِيثٌ آخَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ جَعْوَنَةَ السُّلَمِيُّ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا. وَأَوْمَأَ أبو عَبْدِالرَّحْمَنِ بِيَدِهِ إِلَى الأرض: مَن أنظر مُعْسِرًا أو وضع عنه وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ -ثَلَاثًا- أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ.

الشيخ: وهذا معنى حديث: حُفَّت النار بالشَّهوات، وحُفَّت الجنَّة بالمكاره، عمل الجنّة حزنٌ بربوةٍ فيه شدّة، يحتاج إلى صبرٍ وجهادٍ للنفس والهوى؛ حتى يأتي ما أوجب الله، ويحذر ما حرَّم الله، والحزن: الشَّديد، والرّبوة: الشيء المرتفع.

و النار سهلٌ بسهوةٍ يعني: ميسر للناس إذا تابع هواها بأرضٍ مُطمئنّةٍ مُنخفضةٍ، إشارة إلى اتِّباع الهوى، وأنَّ مَن أراد المعاصي وجدها، نسأل الله العافية، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

وَالسَّعِيدُ مَنْ وُقِيَ الْفِتَنَ، وَمَا مِنْ جَرْعَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، مَا كَظَمَهَا عبدٌ لله إِلَّا مَلَأَ اللَّهُ جَوْفَهُ إِيمَانًا تَفَرَّدَ بِهِ أحمد.

الشيخ: هذا خبرٌ غريبٌ، أيش قال عندك يا شيخ محمد على نوح هذا؟

الطالب: نوح بن جعونة السّلمي، ضبط قلمٍ فقط، جعونة حجازي، قال في "التَّعجيل": رواه عن .....، روى عنه عبدالله بن يزيد المقرئ، ذكره ابنُ أبي حاتم، عن أبيه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال: وقد قيل: إنَّه أبو نوح ابن جعونة بأداء الكُنية، قال: وكان يُخطئ، ومات سنة ثلاثٍ وخمسين ومئتين.

قال الحُسيني: وجزم شيخُنا الذَّهبي أنَّه نوح ابن أبي مريم، فوهم.

قلتُ: قال الحافظ: الذي في "الميزان" تجويز أنَّه هو، لا الجزم، فلعله جزم بذلك في موضعٍ آخر.

وقد روى نوح ابن أبي مريم عن ..... ابن حيّان أيضًا، فهذه شُبهة مَن ظنَّهما واحدًا، مع قرب الطَّبقات، وقد وقع في "التهذيب" في أول ترجمة نوح ابن أبي مريم ما لفظه: نوح ابن أبي مريم، واسم أبي مريم فيه بياض، راجعته، فوجدهما .....، وقيل: يزيد بن جعونة. وقال المهلب: إنَّ جعونة جدّه. وقد تقدّم في العبادلة ذكر نوح بن جعونة من كلام شيخنا الهيتمي، وذكره في .....، ولم يزد على ذلك.

ثم وجدتُ الخبر في "ميزان الاعتدال" في ترجمته، فقال الذَّهبي رحمه الله: نوح بن جعونة، أُجوّز أن يكون نوح ابن أبي مريم، أتى بخبرٍ مُنكرٍ. وذكر هذا الحديث ..... "مسند الشهاب" القُضاعي، قال: أخبرنا ابنُ النَّحاس: حدَّثنا ابن الأعرابي: حدَّثنا أبو يحيى ابن أبي ميسرة: حدَّثنا المقرئ: حدَّثنا نوح بن جعونة، عن مقاتل بن حيان، عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: ألا إنَّ عملَ الجنة حزن بربوةٍ، وعمل أهل النار سهل بسهوةٍ، وذكر الحديثَ بطوله، فالآفة نوح.

الشيخ: الحديث عظيمٌ، الحديث عظيمٌ وله شواهد، ولو أنَّ نوحًا غريب هذا ..... أعد متنَه عن ابن عباسٍ.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا. وَأَوْمَأَ أبو عَبْدالرَّحْمَنِ بِيَدِهِ إِلَى الأرض.

الشيخ: يعني: أبا عبدالرحمن المقرئ، عبدالله بن يزيد، أبو عبدالرحمن.

مَن أنظر مُعْسِرًا أو وضع عنه وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.

الشيخ: هذا له شواهد في الصَّحيح من حديث أبي قتادة: مَن سرَّه أن يُنفّس اللهُ عنه كُربةً من كُرَب يوم القيامة فلينفّس عن مُعْسِرٍ أو ليضع عنه.

أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ -ثَلَاثًا- أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ.

الشيخ: وهذا له شاهدٌ أيضًا: حُفَّت النار بالشَّهوات، وحُفَّت الجنة بالمكاره.

وَالسَّعِيدُ مَنْ وُقِيَ الْفِتَنَ.

الشيخ: وهذا واضحٌ.

وَمَا مِنْ جَرْعَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ.

الشيخ: وهذا له شاهدٌ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134].

مَا كَظَمَهَا عبدٌ لله إِلَّا مَلَأَ اللَّهُ جَوْفَهُ إِيمَانًا.

الشيخ: شواهده كثيرة، والمتن وإن كان غريبًا من جهة نوح.

س: ألا إنَّ عملَ النار سهلٌ بسهوةٍ أو بشهوةٍ؟

ج: لعلها: بسهوةٍ، يعني: سهوة من الأرض؛ المطمئنّ منها، المنخفض، الانحدار أسهل من الصُّعود.

مُداخلة: في كلام عليه.

الشيخ: نعم.

الطالب: قال: السّهوة بالسّين المهملة الأرض اللّينة التّربة، شبَّه المعصيةَ في سهولتها على مُرتكبيها بالأرض السَّهلة التي لا حُزونةَ فيها. من "النّهاية".

الشيخ: ظاهر، ضدّ الحزن، "حزن بربوةٍ" يظهر بربوةٍ، أنها سهل بسهوةٍ، أنها مُيسّرة ومُنخفضة، فيها انحدارٌ ضدّ الربوة.

س: درجة الحديث أحسن الله عملك؟

ج: فيه الكلام هذا؛ لأنَّ نوحًا هذا محلّ نظرٍ، لكنَّه من حيث المتن جيد، حسن، شواهده كثيرة، فهو حسنٌ لغيره، من باب الحسن لغيره.

طريقٌ آخر: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبُورَانِيُّ، قاضي الحُديبية من ديار ربيعة.

الشيخ: من ديار ربيعة؟

الطالب: قال: في الحديثة من ديار ربيعة.

الشيخ: حطّوها نسخة: حديثة.

حدّثنا الحسن بْنُ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ.

مداخلة: قال في نسخة الشّعب: حدَّثنا الحسين بن عليٍّ.

الشيخ: عندك شيء يا شيخ محمد عليه؟

الطالب: نعم، مُصحّف، قوله: "الحسن بن علي الصُّدائي" مُصحّف، والصَّواب أنه الحسين، وهو الحسين بن عليّ بن يزيد بن سليم الصّدائي، رمز له الحافظ في "التقريب" فقال: صدوقٌ، من الحادية عشرة، مات سنة ستٍّ وثمانين وأربعمئة، أخرج له الترمذي والنَّسائي. وهكذا ذكره في ترجمة الحكم بن الجارود -وهو شيخه- هاهنا من "الميزان" و"الجرح".

الشيخ: نعم، صلّحه: الحسين.

حدَّثنا الحسينُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ الْجَارُودِ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الْمُتَّئِدِ -خَالُ ابْنِ عُيَيْنَةَ- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "مَن أنظر مُعسرًا إلى ميسرته أنظره اللهُ بذنبه إلى توبته".

الشيخ: عليه شيء الحكم؟

الطالب: الحكم بن الجارود، روى عنه الحسينُ بن علي الصّدائي، قال الأزدي: فيه ضعف. هكذا قال في "الميزان"، وقال في "الجرح": الحكم بن الجارود روى عنه الحسين بن علي الصّدائي، سألتُ أبي عنه فقال: هو مجهولٌ ابن أبي المتّئد. قال في "الكنى والأسماء" للدُّولابي: وأبو المتّئد نعيم. وقال في "الجرح": نعيم بن يعقوب أبو المتّئد، ابن خال سفيان بن عُيينة. هنا ذكر خال، وفي "الجرح" قال: ابن خال سفيان بن عُيينة.

الشيخ: لكن عندك: المتّئد أو ابن أبي المتّئد؟ الموجود في "المسند": ابن أبي المتّئد.

الطالب: إيه نعم ..... روى عن ابن السَّماك، روى عنه يزيد بن عبدالرحمن بن مصعب المعني، وأشار في الحاشية إلى أنَّه في نسخة: ويعقوب خاله، بدل: ابن خاله، ووقع في "اللّسان" و"الميزان": ابن أخت. وربما يكون هو الصواب .....، ففي "الثقات" أنَّ نعيمًا هذا روى عن سفيان هذا، روى عن ابن عيينة، وربما يكون وقع في سند نعيم بن يعقوب: "عن خاله"، فتصحّفت "عن خاله" فصارت "ابن خاله" .....، والله أعلم.

وقال في "الميزان": نُعيم بن يعقوب الكندي ابن أخت سفيان بن عُيينة، قال العُقيلي: لا يُتابع على حديثه. وذكر حديثًا عنه، عن أبيه، عن أبي إسحاق: "خير خصال الدّنيا والآخرة أن تعفو عمَّن ظلمك، وتصل ..... رحمك". وذكره في الكنى .....

الشيخ: ...........

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى يَعِظُ عِبَادَهُ، وَيُذَكِّرُهُمْ زَوَالَ الدُّنْيَا.

الشيخ: الحاصل أنَّ هذه الأحاديث العظيمة الكثيرة فيها الدّلالة على أنَّ إنظار المعسِر فيه خيرٌ عظيمٌ، مع أنه واجبٌ، الله قال جلَّ وعلا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، هذا خبرٌ معناه الأمر، يعني: فأنظروه إلى ميسرةٍ، فالإنظار واجبٌ عند أهل العلم، كما دلَّت عليه الآيةُ الكريمة، ومع كونه واجبًا فيه هذا الخير العظيم، والثواب العظيم: أظلّه اللهُ في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه، نفَّس اللهُ عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة، إلى غير هذا مما ورد في فضل الإنظار، مع كونه واجبًا، لكن إن زاد على الإنظار فعفا عنه وتصدّق عليه وأبرأه صار أفضل؛ ولهذا قال: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280].

أما رواية: أنظره الله بذنبه حتى يتوب، جاء من هذه الرِّواية الضَّعيفة.

فيجب على المؤمن الحذر، لا يبقى على ذنبٍ، يجب على المؤمن البدار بالتّوبة، وألا يُؤجّلها، فمتى عرف الذَّنب بادر بالتّوبة منه، ولم يُؤجّل مطلقًا، فقد يهجم الأجلُ وهو على غرَّةٍ، فالواجب البدار بالتوبة الصَّادقة؛ عملًا بقوله سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا [النور:31]، والأمر للفوريّة، للوجوب، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]، فهذا واجب البدار.

ثم المعنى واضح؛ فإنَّ الإنسان ما يدري ماذا ينزل به؟ ما يدري متى يهجم عليه الأجل؟ فالحزم كلّ الحزم، والواجب على المكلَّف ألا يتساهل، بل يُبادر بالتوبة ويلزمها دائمًا دائمًا لعله ينجو.

س: الذي يُلحّ على مُعْسِرٍ يأثم؟

ج: نعم، ما يجوز له، إذا عرف أنه مُعسر ما يجوز له، أمَّا إن كان ما يدري يقول له: اتَّقِ الله، راقب الله، أنا ما أدري أنَّك مُعسر، إمَّا أن تُبين، وإلا فاتَّقِ الله وأعطني حقِّي. ما في بأس، لكن متى علم أنَّه مُعسرٌ بالبينة الشَّرعية، أو بكونه جارًا له، أو قريبًا له يعرفه؛ لم تجز له المطالبة ولا السّجن حتى يُسهّل الله، لكن إذا شجَّعه على الكسب والعمل: يا أخي، جزاك الله خيرًا، لعلك تعمل، اجتهد، اتَّقِ الله، عليك بالعمل لعلك تفي ما عليك. لا بأس، هذا من باب إعانته على الخير.

س: والذي أقرضه قد يكون محتاجًا؟

ج: ولو كان مُحتاجًا، ولو أعسر منه، حتى ولو أعسر منه، لا يُطالبه وهو مُعسر حتى ولو كان أعسر منه، الحمد لله، يسأل ربَّه التوفيق، يسأل ربَّه الإعانة، ويعمل، وذا يعمل، كلٌّ منهم يعمل ويطلب الرزق.

س: إذا مات الشخصُ وعليه .....؟

ج: ما يُعتبر حلًّا، لا الصندوق، وغير الصندوق، إذا كان مُؤجَّلًا يبقى على أجله، إلا إذا رأى الورثةُ التَّأجيلَ، فهذا طيب، أو كان على صاحب الدَّين خطرٌ؛ عجَّل له حقَّه، إذا كان ما في أحدٍ يضمن الآجال هذه يُؤدي المال في وقته، يُبادر بالتأجيل من التركة؛ حتى لا يضيع حقّه، أمَّا إن كان فيمَن يلتزم بالآجال يُؤدّي الحقَّ في وقته، تبقى الآجال على حالها، سواء كان للصّندوق، أو لغير الصّندوق؛ لأنَّ الأجل من حقِّ الميت، وحقوقه باقية، تبقى حقوقه يرثها الورثة.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى يَعِظُ عِبَادَهُ، وَيُذَكِّرُهُمْ زَوَالَ الدُّنْيَا، وَفَنَاءَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، وَإِتْيَانَ الْآخِرَةِ، وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَمُحَاسَبَتهُ تَعَالَى خَلْقَهُ عَلَى مَا عَمِلُوا، وَمُجَازَاتهُ إِيَّاهُمْ بِمَا كَسَبُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَيُحَذِّرُهُمْ عُقُوبَتَهُ، فَقَالَ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].

الشيخ: هذه آية عظيمة، هذه آية عظيمة، جديرٌ بكل عاقلٍ أن يُعطيها حقَّها: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، كل واحدٍ مُخاطَبٌ بهذه الآية من المكلَّفين: أن يتَّقي هذا اليوم، بماذا يتَّقيه؟ يتَّقيه بطاعة الله، وبترك معصيته، يتَّقي هذا اليوم وشرّه: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ۝ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ۝ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:10- 12]، بماذا؟ بتقوى الله، والصَّبر على طاعته، هذا يومٌ خطيرٌ، أعظم يومٍ، وأهمّ يومٍ؛ يوم القيامة: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، كلٌّ يرجع فيه إلى الله بعمله من خيرٍ وشرٍّ.

فالجدير بالعُقلاء من الرِّجال والنِّساء أن يحذروا هذا اليوم، وأن يخافوه، وأن يتَّقوه؛ لتقديم الخير، والحذر من الشَّر، والعمل الصَّالح، وترك معصيته بالتوبة الصَّادقة، والحذر من الرجوع إلى المعاصي.

ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ما أحد يُظلم، ولا مثقال ذرَّةٍ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7- 8]، وأعظم من هذا قوله : وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].

فالأمر عظيمٌ، جديرٌ بالمكلَّف وجديرٌ بالعاقل أن تكون مثل هذه الآيات على باله.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وَعَاشَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تِسْعَ لَيَالٍ، ثُمَّ مَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ حبيب ابن أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ.

وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ. وَكَذَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، فَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا وموتِ النَّبِيِّ ﷺ وَاحِدٌ وَثَلَاثُونَ يومًا.

وقال ابْنُ جُرَيْجٍ: يَقُولُونَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عاش بعدها تسع ليالٍ، وبُدِئَ يَوْمُ السَّبْت، وَمَاتَ يَوْم الِاثْنَيْنِ. رَوَاهُ ابْنُ جريرٍ.

ورواه ابنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282].

الشيخ: قال بعضُهم: آخر آيةٍ نزلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3]، الله المستعان، هذه الآيات من آخر ما نزل.

س: آخر ما نزل الرَّاجح؟

ج: الله أعلم.

.........