تفسير قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۝ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۝ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:18- 20].

شَهِدَ تَعَالَى وَكَفَى بِهِ شَهِيدًا، وَهُوَ أَصْدَقُ الشَّاهِدِينَ وَأَعْدَلُهُمْ، وَأَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: المنفرد بِالْإِلَهِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَأَنَّ الْجَمِيعَ عَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ وفُقراء إِلَيْهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ [النِّسَاءِ:166]، ثُمَّ قَرَنَ شَهَادَةَ مَلَائِكَتِهِ وَأُولِي الْعِلْمِ بِشَهَادَتِهِ فَقَالَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ، وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

الشيخ: والمعنى في هذا أنَّه جلَّ وعلا يُخبر عباده أنه سبحانه هو الإله الحقّ، وأنه لا إله سواه، يعني: لا إله حقّ سواه، كما قال : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، الآلهة الكثيرة عبدها المشركون: من الحجارة، ومن الشَّجر، ومن صور بني آدم، ومن صور الحيوانات، ومن النّجوم، ومن غير ذلك، لكنَّها باطلة، كلها باطلة، والإله الحقّ هو الله وحده؛ ولهذا قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يعني: لا إله حقّ.

وقال : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وقال سبحانه: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98]، فهو سبحانه الإله الحقّ الذي يجب أن يُخصّ بالعبادة دون كلِّ ما سواه، وأمَّا ما عبده الناسُ من دون الله فهو مألوه بالباطل، يجب اطّراحه ومُحاربته والقضاء عليه؛ ولهذا بعث اللهُ الرسلَ للقضاء على هذه الآلهة، وبيان بطلانها، وأنزل الكتبَ بذلك: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ يعني: هو الإله الحقّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62].

ثم استشهد سبحانه بالملائكة؛ لأنَّ الملائكة كلّهم يشهدون بأنّه الإله الحقّ، كما قال في حقِّهم جلَّ وعلا: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ۝ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ۝ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:26- 28]، وقال جلَّ وعلا: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285].

المقصود أنه جلَّ وعلا هو الحقّ كما شهد لنفسه، وكما أنزل بذلك كتابه الكريم، وهكذا شهد الملائكةُ، وهم الذين لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، شهدوا بأنه الإله الحقّ الذي لا تصحّ العبادة إلا له.

وهكذا أولو العلم، يعني: أولو العلم الصحيح، أولو العلم النافع الشرعي، هم الذين شهدوا بهذا الحقّ، أما أولو العلم الفاسد المنحرفون عن الهدى فليسوا داخلين في هذا، لكن أولو العلم هم أولو العلم النافع الموروث عن الرسل عليهم الصلاة والسلام، هؤلاء هم أولو العلم، هم الذين يشهدون بالحقِّ، وهم المعتبرون بالإجماع والخلاف، يشهدون جميعًا من أولهم إلى آخرهم: من عهد نوحٍ وعهد آدم إلى يومنا هذا، يشهدون بأنّه الإله الحقّ ، ومَن حاد عن هذا السَّبيل فليس من أهل العلم، وليس داخلًا في الآية.

ثم كرر ذلك فقال: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تأكيدًا لما سبق من أول الآية، ومع هذا البيان والإيضاح في غالب القرآن الكريم وفي السُّنة وقع الأكثرون في خلاف ذلك، وقع الأكثرون في عبادة غير الله، فعبدوا أصحابَ القبور، وعبدوا الأصنام، وعبدوا الكواكب، وعبدوا الملائكة، وعبدوا الأنبياء، وأشركوا بالله غيره، مع هذا البيان العظيم، والإيضاح الكامل أنه سبحانه هو المستحقّ للعبادة جلَّ وعلا؛ ولهذا قال : وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، ولما ساق قصّة جماعةٍ من الأنبياء في سورة الشعراء قال بعد كل قصةٍ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:8].

فجديرٌ بطالب العلم، وجديرٌ بكل مؤمنٍ أن يُعنى بهذا الأمر الذي ضلَّ فيه الأكثرون، وهلك فيه الأكثرون، أن يعتني به، وأن يتبصَّر فيه، وأن يدعو إليه، وأن يَحذر أو يُحذّر من خلافه، وهو توحيد الله في العبادة، وإخلاصها له، وأنَّ جميع العبادة كلها لله ، يجب أن يُخصّ بها سبحانه: من دعاء، وخوف، ورجاء، وتوكل، ورغبة، ورهبة، وذبح، ونذر، وصلاة، وصوم، وغير هذا من العبادة، يجب أن تكون لله وحده.

أما المخلوق وإن كان رسولًا، وأفضل الخلق الرسل، فإنما يُطاعون فيما أمرهم الله؛ لأنَّ الله عصمهم فيما يُبلغونه عن الله، وهم لا يأمرون إلا بما أمر الله به، ولا ينهون إلا عمَّا نهى الله عنه، فالواجب طاعتهم، واتِّباعهم، والإيمان بهم، واعتقاد صدقهم، وأنهم أفضل الخلق، أمَّا العبادة فحقّ الله وحده .

قَائِمًا بِالْقِسْطِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَذَلِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا سَبَقَ، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُرَامُ جَنَابُهُ عَظَمَةً وَكِبْرِيَاءً، الْحَكِيمُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ.

الشيخ: ومعنى بالقسط يعني: بالعدل، لا يزال أبدًا على العدل سبحانه، قائمًا بالقسط ، فحكمه بين الناس بالقسط، وجميع أوامره ونواهيه كلها بالقسط والعدل، كلها في محلِّ العدل، كل عقلٍ سليم وفطرة سليمة تشهد بذلك؛ لأنَّ الله فطر العبادَ على ما بعث اللهُ الرسلَ من الحقِّ والهدى، فأوامره كلها قسط، كلها عدل، ونواهيه كلها عدل، وشرائعه كلها عدل، وكلها مُستقيمة، فهو سبحانه لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40]، ويقول جلَّ وعلا: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، كل ما بعث اللهُ به الرسلَ، وأنزل به الكتب، كله قسط، وهو عدل، والمقسط هو العادل، ومنه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42]، وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].

وفي الحديث الصَّحيح: المقسِطون على منابر من نورٍ يوم القيامة، يغبطهم .. إلى آخره.

أما القاسط فهذا هو الجائر، يُقال: قسط إذا جار: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:15] يعني: الجائرون، الظَّالمون.

فالقسط من الأضداد: للعدل، وللجور؛ فالقاسط: الجائر، والمقسط: العادل، والقسط: العدل، والقسط: الجور، فالقاسط: الجائر، وهو ثلاثي، من قسط، والقسط من العدل من الرباعي، من أقسط، فهو مُقسِط، اسم مصدرٍ من أقسط، وهو مصدر من قسط: جار وظلم، وهو سبحانه مُنَزَّه عن الجور والظُّلم، وهو سبحانه القائم بالقسط والعدل الذي قامت به السَّماوات والأرض، وجاءت به الشَّرائع، وحكم الله به بين العباد في الدنيا، ويحكم به بينهم في الآخرة .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِرَبِّهِ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ: حَدَّثَنِي جُبَيْرُ بْنُ عَمْرٍو الْقُرَشِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِي يَحْيَى مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، عَنِ الزُّبير بن العوَّام قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ بِعَرَفَةَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ:  شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ يَا رَبِّ.

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الْعَسْقَلَانِيُّ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ ثَابِتٍ -أَبُو سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ- حَدَّثَنَا عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حين قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَيْ رَبِّ.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي "الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ": حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ أَحْمَدَ، وَعَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْمُخْتَارِ: حَدَّثَنِي أَبِي: حَدَّثَنِي غَالِبٌ الْقَطَّانُ قَالَ: أَتَيْتُ الْكُوفَةَ فِي تِجَارَةٍ، فَنَزَلْتُ قَرِيبًا مِنَ الْأَعْمَشِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةٌ أَرَدْتُ أَنْ أَنْحَدِرَ قَامَ فَتَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ، فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۝ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:18- 19]، ثُمَّ قَالَ الْأَعْمَشُ: وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ، وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ، وَهِيَ لِي عِنْدَ اللَّهِ وَدِيعَةٌ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ قَالَهَا مِرَارًا، قُلْتُ: لَقَدْ سَمِعَ فِيهَا شَيْئًا. فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ فَوَدَّعْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنِّي سَمِعْتُكَ تُرَدِّدُ هَذِهِ الآية! قال: أوما بَلَغَكَ مَا فِيهَا؟ قُلْتُ: أَنَا عِنْدَكَ مُنْذُ شَهْرٍ لَمْ تُحَدِّثْنِي. قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُحَدِّثُكَ بِهَا إِلَى سَنَةٍ. فَأَقَمْتُ سَنَةً، فَكُنْتُ عَلَى بَابِهِ، فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ قُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، قَدْ مَضَتِ السَّنَة.ُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ : عَبْدِي عَهِدَ إِلَيَّ، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِالْعَهْدِ، أدخلوا عبدي الجنّة.

الشيخ: في صحّته نظر، لا يليق بالأعمش أن يحبسه سنةً ولا يُخبره بالحديث، لا يُكلّمه شيئًا، أعد سندَه.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي "الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ": حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ أَحْمَدَ وَعَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْمُخْتَارِ.

الشيخ: انظر عمَّار بن عمر المختار في "التقريب".

حَدَّثَنِي أَبِي: حَدَّثَنِي غَالِبٌ الْقَطَّانُ.

الشيخ: عمَّار بن عمر، وأبوه عمر المختار، وغالب القطّان الذي بعده.

وقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ إخبارٌ منه تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا دِينَ عِنْدَهُ يَقْبَلُهُ مِنْ أحدٍ سِوَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الرُّسُلِ فِيمَا بَعَثَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ، حَتَّى خُتِمُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِي سَدَّ جَمِيعَ الطُّرُقِ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ بعد بعثة محمدٍ ﷺ بِدِينٍ عَلَى غَيْرِ شَرِيعَتِهِ فَلَيْسَ بِمُتَقَبَّلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

الشيخ: والمعنى أنَّ الدِّين عند الله هو الإسلام، من عهد آدم إلى آخر الزمان الدِّين واحدٌ هو الإسلام، ليس لله دينٌ سواه، والإسلام هو الاستسلام لله بالتَّوحيد والانقياد للطَّاعة، والذّل لعظمته، وترك ما نهى عنه ، فهو دين الله من عهد آدم إلى آخر الزمان: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، أسلم يُسلم، يعني: انقاد وذلَّ لله بطاعة أوامره، وترك نواهيه، والإخلاص له في العمل، هذا دين الله: توحيدٌ له سبحانه، وانقيادٌ لأوامره، وتركٌ لنواهيه على ..... آدم ومَن بعده، وآخرهم وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، فليس هناك دينٌ يُقبل غير الإسلام، فهو جاء به آدم، وجاء به نوح، وجاء به هود، وجاء به صالح، وجاء به إبراهيم، ولوط، من أبي الأنبياء ومَن بعده إلى أن ختمهم بهذا النبي العظيم محمد عليه الصلاة والسلام.

فاليهودية والنَّصرانية والشّيوعية وسائر ما في الأرض من أنواع النِّحَل كلها باطلة، إلا هذا الدِّين، وهو إخلاص العبادة لله وحده، واتِّباع شريعته التي جاء بها نبيّه محمد ﷺ، وما سوى ذلك فكله باطل، سواء سُمّي: يهودية، أو نصرانية، أو مجوسية، أو شيوعية، أو قاديانية، أو غير ذلك، كل ما يُخالف هذا الإسلام الذي هو الانقياد لله بطاعة أوامره، وترك نواهيه، عن إخلاصٍ له سبحانه، وتوجيه القلوب إليه، وإفراده بالعبادة؛ ما خالف هذا الأساس فهو باطل، دين باطل، ولا يُسمّى: إسلامًا.

فالإسلام هو الانقياد لله، والإخلاص لله، والذل لله في جميع الأمور على الوجه الذي بعث به الأنبياء، ورأسه وأساسه توحيده بالعبادة، تخصيصه بالعبادة من صومٍ، وصلاةٍ، وذبحٍ، ونذرٍ، ودعاءٍ، وخوفٍ، وغير ذلك، ثم فعل الأوامر التي جاء بها رسوله، وترك نواهيه، على وجه التَّقرب إليه، والمحبّة له، والتَّعظيم له، والرغبة فيما عنده، وترك ما يُخالف أمره ، هذا هو الإسلام، ومَن يبتغِ غيره فهو الخاسر.

وجد شيئًا: عمار بن عمر المختار، أو أبوه، أو غالب القطّان؟ نعم.

س: ما حكم الإيمان بالأديان المتقدّمة؟

ج: يجب الإيمانُ بجميع الرسل، يجب الإيمانُ بجميع ما جاءت به الرسل، من أوَّلهم إلى آخرهم، هذا من أصول الإيمان: أن تُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، هو الإيمان، الله قال جلَّ وعلا: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177].

فالإيمان بجميع الرسل أصلٌ من الأصول، فمَن كفر بواحدٍ فقد كفر بالجميع، لا بدَّ من الإيمان بجميع الرسل، وما بعثهم اللهُ به من توحيده، والإخلاص له، وما شرع لهم على الإجمال، وما ثبت عن رسولنا ﷺ أنَّهم جاءوا به يُؤمن به على التَّفصيل، ومعلومٌ أنَّ التوحيد مما جاءوا به يقينًا، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، فالتوحيد أجمعوا عليه، أمَّا الشَّرائع فمُختلفة: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].

فالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر، وتوحيد الله، والإخلاص له، كل هذا أمرٌ مجمعٌ عليه بين الجميع، والإيمان بالجنة والنار، والحساب والجزاء، كل هذا جاءت به الرسل جميعًا، أما الشَّرائع من الأوامر والنَّواهي التي جاءوا بها فهذه مختلفة: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا.

مداخلة: غالب بن خطاف بضم المعجمة، وقيل: بفتحها، وهو ابن أبي غيلان، القطّان، أبو سليمان، البصري، صدوق، من السَّادسة. (ع).

الشيخ: معناه من أتباع التَّابعين، لكن قبله عمَّار وأبوه محلّ .....

وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخْبِرًا بِانْحِصَارِ الدِّينِ الْمُتَقَبَّلِ عِنْدَهُ فِي الْإِسْلَامِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19].

وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۝ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:18- 19] بِكَسْرِ: (إِنَّهُ)، وَفَتْحِ: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام) أي: شهد هو والملائكة وأولو الْعِلْمِ مِنَ الْبَشَرِ بِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَالْجُمْهُورُ قَرَؤُوهَا بِالْكَسْرِ عَلَى الْخَبَرِ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ.

الشيخ: والمعنى: شهدوا أنَّه لا إله إلا هو، بأنَّ الأولى أن مفتوحة: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يعني: أنَّه لا إله إلا هو، هذه القراءة التي عليها الجمهور، والمعنى واضح: شهد الجميعُ بأنَّه لا إله إلا الله، ثم ابتدأ الخبر فقال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، فالكلام مُبتدأ.

وأمَّا القراءة الأخرى: بكسر الأولى وفتح الأخرى، يعني: شهد الجميعُ بأنَّ الدِّين عند الله الإسلام، والمعنى صحيح، كله صحيح، كلهم يشهدون بهذا وهذا: شهدوا بأنَّه لا إله إلا الله، وكلهم يشهدون بأنَّ الدِّين عند الله الإسلام، المعنى صحيح، لكن ابتداء: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ خبر من الله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، كما أخبر بقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].

وَلَكِنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا اخْتَلَفُوا بَعْدَمَا قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وإنزال الكتاب عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19] أَيْ: بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَاخْتَلَفُوا فِي الْحَقِّ لِتَحَاسُدِهِمْ وَتَبَاغُضِهِمْ وَتَدَابُرِهِمْ، فَحَمَلَ بَعْضَهُمْ بُغْضُ الْبَعْضِ الْآخَرِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا.

الشيخ: وهذا واقعٌ من أشباه اليهود والنَّصارى، اليهود والنصارى اختلفوا، وبغى بعضُهم على بعضٍ، وجحد بعضُهم الحقّ، يجحد اليهودي ما مع النَّصراني، والنَّصراني ما مع اليهودي، واليهود فيما بينهم يتجاحدون بغيًا من بعضهم على بعضٍ، وهذا يقع من أشباههم؛ تجده تحمله العداوةُ والبغضاءُ على أن يجحد الحقَّ الذي مع الآخر بغضًا له، وإلا فهو يعلم أنه حقّ، ولكن يُنكر أنه على حقٍّ؛ لشدّة الحسد والعداوة والبغضاء، كما جرى لأبي جهلٍ وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبي لهب وأشباههم؛ جحدوا الحقَّ وهم يعلمون أنَّ محمدًا جاء بالحقِّ، لكن الهوى والبغضاء والحسد حملهم على هذا.

وهكذا اليهود أنفسهم يعلمون أنَّ محمدًا جاء بالحقِّ، ولكن حملهم البغي والبغضاء والحسد على الجحد، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، وقال عن فرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102]، قاله موسى لفرعون، وقال اللهُ لكفَّار قريش، يعني قال في حقِّهم: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ يعني: محمدًا عليه الصلاة والسلام، فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ يعني: في الباطن وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، فهم يجحدونها ظاهرًا، وهم في الباطن يعلمون أنَّه جاء بالحقِّ.

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ لظلمهم وعنادهم وبغيهم جحدوا الحقَّ، قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:36]، هم يعلمون أنَّ آلهتهم باطلة، وأنَّ الإله الحقّ هو الله وحده، وأنه صادقٌ عليه الصلاة والسلام، ولكنه البغي والحسد والبغضاء وحُبّ الرياسة، نسأل الله العافية والسَّلامة.

ثُمَّ قَالَ تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ أي: مَن جحد ما أنزل الله في كتابه فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19] أي: فَإِنَّ اللَّهَ سَيُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ، وَيُحَاسِبُهُ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَيُعَاقِبُهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ كِتَابَهُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ حَاجُّوكَ أَيْ: جَادَلُوكَ فِي التَّوْحِيدِ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران:20] أَيْ فَقُلْ: أَخْلَصْتُ عِبَادَتِي لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، ولا ندَّ لَهُ، وَلَا وَلَدَ لَهُ، وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ، وَمَنِ اتَّبَعَنِ أي: عَلَى دِينِي يَقُولُ كَمَقَالَتِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى طَرِيقَتِهِ وَدِينِه،ِ وَالدُّخُولِ فِي شَرْعِهِ، وَمَا بعثه اللهُ به: الكتابيين من المليين، والأُميين من المشركين، فقال تَعَالَى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغ} [آل عمران:20] أَيْ: وَاللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابُهُمْ، وَإِلَيْهِ مَرْجِعُهُمْ وَمَآبُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تعالى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20] أَيْ: هُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَةَ، وَهُوَ الَّذِي لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23]، وما ذلك إِلَّا لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ أَصْرَحِ الدَّلَالَاتِ عَلَى عُمُومِ بِعْثَتِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِهِ ضَرُورَةً، وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ وَحَدِيثٍ.

الشيخ: وقد أجمع عليه المسلمون والحمد لله: أنَّه بُعث للناس عامَّة: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]؛ ولهذا قال هنا سبحانه: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ، فالمعنى: قل لأهل الكتاب ولغيرهم ممن ليس له كتابٌ من المجوس والملاحدة وغيرهم، قل لهم: أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، إنما على الرسل البلاغ والبيان والإيضاح، وأمَّا الهداية للقلوب وتوفيقها حتى تقبل الحقَّ فهذا إلى الله : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، كما قال في حقِّ عمِّه: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

وهكذا أتباع الرسل، هكذا العلماء، دُعاة الحقّ، ليس عليهم هداية الناس، إنما عليهم البلاغ والهداية التي بمعنى البيان، هذا الذي ..... الرسل و..... أتباعهم العُلماء والدُّعاة إلى الربِّ الذي عليهم البلاغ والبيان والتَّوجيه إلى الخير، والصّبر على ذلك، أمَّا كون العبد يقبل الحقَّ، ويتأثّر به، ويرضى به، هذا ليس إليه، ليس إلا .....، هذا بيد الله ، ومن هذا قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] يعني: تدل وتُرشد، وقال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17] أي: دللناهم وبلّغناهم.

فالهداية هدايتان: هداية البلاغ والبيان، وهذه بيد الرسل وأتباعهم، وهي المراد بقوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ يعني: دللناهم فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، وهي المراد بقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ صِرَاطِ اللَّهِ [الشورى:52- 53].

أمَّا الهداية التي هي بمعنى التّوفيق والرِّضا بالحقِّ وإيثاره، فهذه بيد الله جلَّ وعلا، ليست بيد الرسل، ولا بيد غيرهم، وهي المرادة في قوله سبحانه: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، فلا يحزن المؤمن، كما قال: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [الحجر:88]، فالمؤمن لا يحزن، يُبلِّغ ويصبر، ولا يحزن إذا أبوا وأصرّوا على العناد، لا يحزن، أمرهم بيد الله، أنت اصبر وبلِّغ وادعُ لهم بالهداية، ولا تقنط، ولا تيأس، ومتى أبوا وعاندوا فلا تحزن، ولا تكن في ضيقٍ، واحمدِ الله الذي أعانك على البلاغ والبيان، فهو سبحانه أعلم وأحكم جلَّ وعلا، وهو البصير بالعباد .

س: ............؟

ج: هذه عبارة معلومة في الكتاب والسّنة: "أسلمتُ وجهي لله"؛ لأنَّ المخلص يُقبل على الله بوجهه وقالبه، ويعبده وحده دون كلِّ ما سواه، ويُسلم للجهة التي وجّهه إليها: "أسلمتُ وجهي" يعني: كلّ بدني، وكل جوارحي، ومنها القلب، فأسلم وجهه لله، فقد أسلم قلبَه وجوارحه كلها لله، فإسلام الوجه عبارة؛ لأنَّ الوجه أشرف شيءٍ، أشرف عضوٍ في الإنسان ظاهرًا، أشرف الأعضاء الظَّاهرة هذا الوجه، التَّعبير به تعبيرٌ بالخضوع التَّام لله وحده .

فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وقال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1].

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَغَيْرِهِمَا مِمَّا ثَبَتَ تَوَاتُرُهُ بِالْوَقَائِعِ المتعددة: أنَّه ﷺ بعث كتبَه يَدْعُو إِلَى اللَّهِ مُلُوكَ الْآفَاقِ وَطَوَائِفَ بَنِي آدَمَ، مِنْ عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، كِتَابِيِّهِمْ وَأُمِّيِّهِمْ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ.

وَقَدْ رَوَى عَبْدُالرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ: يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، وَمَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ﷺ: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ غُلَامًا يَهُودِيًّا كَانَ يَضَعُ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَضُوءَهُ، وَيُنَاوِلُهُ نَعْلَيْهِ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَأَبُوهُ قَاعِدٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: يَا فُلَانُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، فَسَكَتَ أَبُوهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، فَقَالَ أَبُوهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ الْغُلَامُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِي مِنَ النَّار. رواه الْبُخَارِيُّ فِي "الصَّحِيحِ". إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآيات والأحاديث.

الشيخ: وهذا يدل على تواضعه ﷺ؛ كونه يذهب إلى هذا الغلام الذي خدمه، وهو يهودي، يعوده لما مرض، يرجو أنَّ الله يهديه على يديه، كما عاد عمَّه أبا طالب، ودعاه إلى الإسلام، فمات أبو طالب على الكفر، وهذا يهودي أراد الله له السَّعادة، زاره النبيُّ ﷺ وعاده، فقال له: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم. وفَّق اللهُ أباه أن يقول هذه الكلمة، فقال الغلامُ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله. فخرج النبيُّ ﷺ وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار، وفي الرِّواية الأخرى: أمر الصَّحابة أن يلوه، وأن يُغسّلوه ويُصلوا عليه.

هذا من التواضع العظيم ..... الرئيس والكبير يُشرع له أن يقوم بالمشروعات: من عيادة المريض، ولو كان المريضُ من فُقراء الناس، ولو كان من خدّامه، ولو كان صبيًّا، يتواضع ويعمل بالسُّنة، ويهدي الله على يديه مَن شاء من عباده .

وعيادة المرضى من القُربات، وإذا كان المريضُ كافرًا جاز أن يُعاد إذا رجا العائدُ إسلامه ..... إسلامه يعوده ويدعوه إلى الله، وإن كان كافرًا، لعلَّ الله يهديه على يديه، كما عاد النبيُّ ﷺ عمَّه أبا طالب في مكة، وعاد هذا الغلام في المدينة وهو يهودي، فنفع الله بعيادته، وقامت الحُجَّةُ على أبي طالب، وانتفع الناسُ بهذا الحديث، وعرفوا الحقَّ، وقد قدر الله لأبي طالب الضّلالة: أن يموت على دين قومه، وأمَّا هذا اليهودي فقدر الله له السّعادة؛ فمات على الإسلام.

أما استخدامه له ﷺ: فكان هذا قبل أن ينهى عن بقاء الكفّار في الجزيرة، النبي أوصى بعد هذا بإخراجهم من الجزيرة، كانوا في المدينة أوَّلًا، وأجلى بني النَّضير وبني قينُقاع، ثم جرى ما جرى من قتل بني قُريظة.

المقصود أنَّ استخدام الكافر لا بأس به إذا كان في غير الجزيرة، استخدامه إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك على وجهٍ لا يضرّ المستخدم، ولا يضرّ أهل البلد؛ ولهذا استخدمه النبيُّ ﷺ، وهداه الله على يديه، أمَّا الآن فلا يجوز استخدام الكفّار في الجزيرة، بل الواجب على ولاة الأمور وعلى المسلم ألا يستخدمهم في الجزيرة؛ لأنَّ الرسول أوصى بإخراجهم منها، ومن المصائب اليوم: كثرة وجودهم في الجزيرة، وهذا من البلاء، ولكن الله جلَّ وعلا مع كون هذا أمرًا منكرًا، لكن الله جعل فيه خيرًا للكثير منهم؛ هداهم الله للإسلام، ودُعوا إلى الإسلام، ودخلوا في الإسلام، وهذا من رحمة الله لمن شاء منهم ، ولكن مع هذا كلّه لا يجوز إدخالهم الجزيرة، بل الواجب أن يُستقدم المسلمون في هذه الجزيرة، وأما الكفّار فيُدعون في بلادهم إلى الله؛ يذهب إليهم الدّعاة والمرشدون إلى بلادهم، ويدعونهم إلى الله، ويُعلّمونهم، ويُرشدونهم، والله يهدي مَن يشاء ، ومتى وُجِدُوا عندنا وجب أن يُدعوا أيضًا، ما داموا عندنا الآن، قربوا؛ ولهذا فُتحت مكاتب الدَّعوة ومكاتب الجاليات، ونفع الله بذلك، وهدى الله أُممًا كثيرةً بسبب هذه المكاتب التي تعتني بالجاليات؛ لأنَّهم قربوا ووُجدوا.

وإنا كنا لا نُحبذ ذلك، ولا نرضى بوجودهم، ونحبّ أن يُستخدم المسلمون بدلًا منهم، ولكن يجب أن يُستغلّ هذا الوجود، يجب أن يُستغلّ في الدعوة إلى الله، وتوجيه العباد إليه، ولعلَّ الله يهدي مَن يشاء منهم .

ومن هذا استغلال النبي لهذه الزيارة، رجا أنَّ الله يهديه، فنفع الله بذلك، وحقق الله له رجاءه، وأسلم الغلامُ على يديه، هذه من نِعَم الله العظيمة ..... تشريع للأمة أنَّ الرئيس والكبير يعود الضَّعيف، ويعود الصغير، ويعود الخادم؛ ليُرشده إلى الخير، ويتواضع، ومَن تواضع لله رفعه الله.

س: استخدام النبي ﷺ لليهودي مع وجود غيره من المسلمين؟

ج: لعله لحكمة؛ لترغيبهم ودعوتهم وتأليفهم، إذا وجد خادمًا منهم لعلّ أباه وأقاربه يقربون من الإسلام؛ ليقبلوا الحقَّ، لعله من باب التَّأليف والدَّعوة إلى الله ، أو لأنَّ الرسول ﷺ ذاك الوقت لم ييسّر له الخادم المناسب .....، أو لأسبابٍ أخرى.

على كل حالٍ لم يستخدمهم إلا لمصلحةٍ شرعيةٍ، مثلما استخدم اليهود في خيبر لمصلحةٍ؛ ولَّاهم أمور خيبر بعدما فتحها، بعد الحرب، صالحهم على بعضها، واستولى على بعضها عنوةً، ثم استخدمهم في نخيلها وأراضيها بالنصف، وأقرّهم على ذلك لمصلحة المسلمين؛ ولأنَّ المسلمين مشغولون بالجهاد، فبقوا فيها إلى أن أجلاهم الله للمصلحة.