تفسير قوله تعالة: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ..}

قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۝ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:119- 120].

يَقُولُ تَعَالَى مُجِيبًا لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى ابْنِ مريم عليه السلام فِيمَا أَنْهَاهُ إِلَيْهِ مِنَ التَّبَرِّي مِنَ النَّصَارَى الْمُلْحِدِينَ الْكَاذِبِينَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَمِنْ رَدِّ الْمَشِيئَةِ فِيهِمْ إِلَى رَبِّهِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ تَعَالَى: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، قَالَ الضَّحَّاكُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: يَوْمَ يَنْفَعُ الْمُوَحِّدِينَ تَوْحِيدُهُمْ، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَيْ: مَاكِثِينَ فِيهَا.

الشيخ: هذا تفسيرٌ للصِّدق ببعض معناه، وهو عامٌّ، يقول الله : هَذَا يَوْمُ يعني: يوم القيامة ينفع الصَّادقين صدقهم: صدقهم في عبادة ربهم، وفي طاعته، وصدقهم في ترك معصيته، وصدقهم في جهاد أعدائه، وصدقهم في مُوالاة أوليائه .....، إلى غير هذا، الآية عامّة ..... صدقٌ في اللِّسان، وصدقٌ في الفعل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] يعني: في أقوالهم وأعمالهم، الصّدق في القول معلومٌ، ويكون ما يُطابق الواقع، والصّدق في العمل كونه ينصح في العمل؛ يُؤدّيه كما ينبغي، يقول ابنُ القيم رحمه الله في هذا:

والصّدق توحيد الإرادة وبذل الجهد لا كسل ولا متواني

فالمقصود أنَّ الصدق هو أن تُؤدي الأعمال في غاية الإتقان: في إخلاصها لله وحده، وعدم الشِّرك به، كله، دقيقه وجليله، وفي أدائها على الوجه الشَّرعي المطابق للشَّريعة، ليس فيها بدعة، ولا مخالفة، في غايةٍ من الخشوع والإقبال على الله والضَّراعة إليه، وإكمال ما شرع فيها من العمل، هكذا يكون الصَّادق، والصَّادق هو الذي وحَّد الله، والصَّادق هو الذي أدَّى العبادة كما شرع الله، والصَّادق هو الذي أدَّاها كاملةً تامَّةً وافرةً كما شرع الله جلَّ وعلا في خشوعه، وفي إخلاصه، وفي تطبيقه لها على الوجه الشَّرعي: في صلاته، في زكاته، في صومه، في جهاده، في حجِّه، في برِّه للوالدين، وفي إكرامه لجيرانه، وفي محبَّته لله، وبُغضه لله، في مُوالاته لله، وفي مُعاداته لله، في كل شيءٍ من أمور الدِّين؛ في صدقه في ترك المحارم والبُعد عن وسائلها، هكذا يكون الصِّدق: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، دلَّ على أنه صدقٌ كاملٌ بالإخلاص والمتابعة حتى ..... بهم الجنات والكرامات، نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم منهم.

لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَيْ: مَاكِثِينَ فِيهَا، لَا يَحُولُونَ، وَلَا يَزُولُونَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]، وَسَيَأْتِي ما يتعلَّق بتلك الآية من الحديث.

الشيخ: صدق يعني: جنّة ورضا من الله، والخلود الأبدي في دار الكرامة، لا يظعنون منها، ولا يموتون، بل في نعيمٍ دائمٍ، وحياةٍ دائمةٍ، هكذا فضله : ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ [الحجر:46]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ۝ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ۝ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ۝ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ۝ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ۝ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الدخان:51- 57]، هم آمنون من كل مكروهٍ: من مرضٍ، من ..... من أي مُكدّرٍ، من أي بلاءٍ، آمنون من الموت، لا يذوقون فيها الموت، آمنون من تغيير النَّعيم، النَّعيم حاصلٌ، مُستمرٌّ، آمنون من الخروج، لا يخرجون منها، ولا يموتون، ولا تخرب هي أيضًا، فهي دار آمنة، وأهلها آمنون، ونعيمها دائم: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فلا يعتريه الخراب، ولا الموت، ولا الظلم لأهله، ولا أمراض، ولا غير ذلك.

وروى ابنُ أبي حاتم هاهنا حديثًا عن أنسٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عُثْمَانَ –يَعْنِي: ابْنَ عُمَيْرٍ- أخبرنا اليقظان.

.......

الشيخ: هو هذا، صلحه على هذا، عثمان يعني: ابن عمير، أبو اليقظان.

وروى ابنُ أبي حاتم هاهنا حديثًا عن أنسٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عُثْمَانَ –يَعْنِي: ابْنَ عُمَيْرٍ- أبو اليقظان، عن أنسٍ -مرفوعًا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ثم يتجلَّى لهم الربُّ جلَّ جلاله، فَيَقُولُ: سَلُونِي، سَلُونِي أُعْطِكُمْ، قَالَ: فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا، فيقول: رضاي أُحلّكم داري، وأنَّ لكم كَرَامَتِي، فَسَلُونِي أُعْطِكُمْ، فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا، قَالَ: فَيُشْهِدُهُمْ أنَّه قد رضي عنهم .

وقوله: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي: هذا الْفَوْزُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا أَعْظَم مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات:61]، وَكَمَا قَالَ: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ: هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ، الْمَالِكُ لَهَا، الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، الْقَادِرُ عَلَيْهَا، فَالْجَمِيعُ مِلْكُهُ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَفِي مَشِيئَتِهِ، فَلَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا وَزِيرَ، وَلَا عَدِيلَ، وَلَا وَالِدَ، وَلَا وَلَدَ، وَلَا صَاحِبَةَ، ولا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ حُيَيَّ بْنَ عَبْدِاللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ سورة المائدة.

الشيخ: وهذه الآية من أعمّ الآيات، ومن أعظمها: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ملك الجميع ، ثم مع ذلك هو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيما مضى، وفيما يأتي، وفي الحال، في جميع الأحوال.

..........

سورة الأنعام

قَالَ الْعَوْفِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أُنزلت سورةُ الأنعام بمكّة.

وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سورةُ الأنعام بمكّة ليلًا جملةً واحدةً، حَوْلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجْأَرُونَ حَوْلَهَا بِالتَّسْبِيحِ.

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ جملةً، وَأَنَا آخِذَةٌ بِزِمَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ ﷺ، إِنْ كَادَتْ مِنْ ثِقَلِهَا لَتَكْسِرُ عِظَامَ النَّاقَةِ.

وَقَالَ شَرِيكٌ: عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرٍ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ على رسول الله ﷺ وَهُوَ فِي مَسِيرٍ فِي زَجَلٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وقد طبقوا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ.

وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي "مُسْتَدْرَكِهِ": حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، وَأَبُو الْفَضْلِ الْحَسَنُ بْنُ يَعْقُوبَ الْعَدْلُ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِالْوَهَّابِ الْعَبْدِيُّ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ.

الشيخ: علَّق بشيءٍ على محمد بن عبدالوهاب العبدي؟

الطالب: نعم، محمد بن عبدالوهاب بن حبيب بن مهران العبدي، أبو أحمد الفرَّاء النَّيسابوري، ثقة، عارف، من الحادية عشرة، مات سنة اثنتين وسبعين، وله خمس وتسعون سنة، أخرج له النَّسائي، وهو الذي يروي عنه الحسن بن يعقوب ..... شيخ الحاكم، وهو ثقة.

..........