تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ..}

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ۝ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ۝ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ۝ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:17- 21].

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا: أَنَّهُ مَالِكُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كقوله تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ الآية [فاطر:2].

وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ.

الشيخ: وفي هذا توجيه القلوب إلى الله جلَّ وعلا، وأن يتعلق العبادُ به سبحانه؛ لأنه جلَّ وعلا بيده الضّر والنَّفع، والعطاء والمنع، وهو الذي يأتي بالحسنات، ويدفع السّيئات، وهو الذي يكشف الضّر، ويجلب النَّفع؛ ولهذا قال : وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وفي الآية الأخرى: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107]، ويقول سبحانه: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:2].

فهو الذي بيده جلَّ وعلا تصريف الأمور؛ يجلب الخيرات، ويدفع السّيئات، يأتي بالنصر لعباده المؤمنين، ويقهر الأعداء، فهو جلَّ وعلا بيده تصريف الأمور كلّها، وما النّصر إلا من عند الله، وهو القاهر فوق عباده، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير.

فجديرٌ بالعباد أن يرفعوا أكفَّ الضَّراعة إليه، وأن يلجؤوا إليه في كل شيءٍ، وأن يسألوه من فضله في جميع أمورهم: في الشدة والرّخاء، في الضّر والنَّفع، في العطاء والمنع، في جميع الأحوال، عن إيمانٍ بأنَّه ربّهم وإلههم الحقّ، وأنه معبودهم الحقّ، وأنه سبحانه المالك لكل شيءٍ، والقادر على كل شيءٍ.

وهذا كلّه لا يمنع من الأسباب، هذا كلّه مع الأسباب، فالقلوب تفزع إليه، وتلجأ إليه، والألسنة تلهج بذكره ودُعائه، والجوارح تقوم بحقِّه، وتبتعد عمَّا نهى عنه ، ومع ذلك يتعاطى الأسباب: يتعاطى الدَّواء، يتَّجر، ويبيع، ويشتري، يطلب الرزق: يحرث الأرض ويزرع، يعمل في شؤون الصناعة ما يعمل مما أباح الله، يأخذ بالأسباب، فيجمع بين هذا وهذا، وهذا هو التَّوكل.

التوكل: هو الاعتماد على الله، والتَّفويض إليه، والثِّقة به، والإيمان بأنَّه مُصرّف الأمور ومُدبّرها سبحانه، مع الأخذ بالأسباب، مع فعل الطَّاعات، وترك المعاصي، مع أخذ الأسباب التي يُستجلب بها الرزق، ويُدفع بها الشّر، هكذا المؤمن يجمع بين هذا وهذا: بين الثقة بالله والاعتماد عليه والتوكل عليه، وبين تعاطي الأسباب التي شرعها سبحانه، كالتي أباحها ، أسباب السَّعادة، أسباب الجنة، وأسباب السَّعادة، وأسباب الرِّزق الحلال، وأسباب السّلامة من الأضرار والمهالك.

س: قوله ﷺ: ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ .....؟

ج: لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ لا مانع لما أعطى الله، ولا مُعطي لما منع الله، فأمر الله نافذ في العباد، مهما تعاطوا الأسباب فأمره نافذٌ ، لا يردّ أمرَه أيُّ سببٍ، بل هو مُسبّب الأسباب جلَّ وعلا، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ يعني: ذا الغنى والحظّ لا ينفعه من ربِّه غناه، "من" للبدلية، يعني .....: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة:38] المعنى: أنَّه لا ينفع ذا الجدّ، يعني: صاحب الجدّ، صاحب الحظّ، صاحب الغنى، صاحب المال، وصاحب الرياسة، لا ينفعه منك، يعني: بدلًا منك وعوضًا منك جدّه وحظّه وغناه.

وَلِهَذَا قَالَ تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18] أي: وهو الَّذِي خَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ، وَذَلَّتْ لَهُ الْجَبَابِرَةُ، وعنت له الوجوه، وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَدَانَتْ لَهُ الْخَلَائِقُ، وَتَوَاضَعَتْ لعظمة جلاله وكِبريائه وعظمته وعلوه، وقُدرته على الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه، وتحت قهره وحكمه، وَهُوَ الْحَكِيمُ أي: في جميع أفعاله، الْخَبِيرُ بِمَوَاضِعِ الْأَشْيَاءِ وَمَحَالِّهَا، فَلَا يُعْطِي إِلَّا مَن يستحقّ، ولا يمنح إِلَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ.

الشيخ: وهو الحكيم الخبير، الحكيم بأقواله وأفعاله، وفي شرعه وقدره، يضع الأمورَ مواضعها، وإن خفي على الناس شأنها، يضع الأمورَ مواضعها وإن خفي على الناس شأنها، فيُسلط هذا العدو، ويقتل هذا العدو، وينصر هذا الرجل، أو هذا الشعب، أو هذا الرئيس، ويخذل الآخر، وله الحكمة البالغة في كل شيءٍ، يبتلي هذا بالمرض، وهذا بالصحة، هذا بالغنى، وهذا بالفقر، هذا بالعزّ، وهذا بالذلّ، الخبير بما يفعل، حكمة معها علمٌ؛ ولهذا في الآية الأخرى: الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الزخرف:84]، فهي حكمةٌ عن علمٍ، وعن خبرةٍ بالأشياء، ويضع الأمورَ مواضعها عن علمٍ، لا عن جهلٍ وسفهٍ، عن علمٍ وخبرٍ وبصيرةٍ بما يفعل، وبما يأمر به، وبما ينهى عنه، فله الحكمة البالغة، والحجّة الدَّامغة ، وإن خفي الكثيرُ من ذلك على الناس، لكنَّ الله يُطلع مَن شاء من عباده على الكثير من حكمة وأسرار شرعه وقدره، ويُخفي ذلك على مَن يشاء، فله الحكمة البالغة في كل شيء، وكل ما يقع في هذا الوجود في العالم من حوادث كلها عن حكمةٍ، وعن علمٍ من الله وعلا، وعن تقديرٍ سابقٍ، وعن حكمةٍ عظيمةٍ، قدر هذه الأشياء عن ..... .

ثُمَّ قَالَ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً أَيْ: مَنْ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19].

الشيخ: ومن هذا ما وقع الآن من تسليط حاكم العراق على الكويت، واجتماع هذه الأمور الكثيرة من أجل هذا الحدث العظيم، لله فيه الحكمة البالغة ، والحجّة الدَّامغة، ونسأل الله أن يجعل العاقبةَ حميدةً للمؤمنين، وأن يجعلها موعظةً للمؤمنين وذكرى: فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19] ، فله الحكمة البالغة جلَّ وعلا، لكن نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن يفوز بها -بالعاقبة الحميدة- وأن يكفينا شرّها وشرّ ما ترتب عليها، وأن يُقدّر للمسلمين ما فيه سعادتهم ونجاتهم، وأن يجعل الدَّمار والعاقبة الوخيمة على أعدائه أجمع، وأن يُجازي الظَّالم بما يستحقّ، إنه جلَّ وعلا جواد كريم.

أَيْ: هُوَ الْعَالِمُ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، وَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ لِي، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] أَيْ: وَهُوَ نَذِيرٌ لِكُلِّ مَن بلغه، كقوله تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17].

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو خَالِدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ بَلَغَ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا رَأَى النَّبِيَّ ﷺ. زَادَ أَبُو خَالِدٍ: وَكَلَّمَهُ.

وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَقَدْ أَبْلَغَهُ مُحَمَّد ﷺ.

وَقَالَ عَبْدُالرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ.

الشيخ: ولهذا قال جلَّ وعلا: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إبراهيم:52]، فالقرآن نذيرٌ وبلاغٌ؛ ولهذا قال : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ يعني: أيّها المخاطبون من الصَّحابة وَمَنْ بَلَغَ يعني: مَن بلغه هذا القرآن في مشارق الأرض ومغاربها، وفي العصور القادمة الآتية بعد الصحابة إلى يومنا هذا، إلى ما بعد ذلك، إلى يوم القيامة، ونذير وبشير وبلاغ، فمَن آمن به واستقام عليه فله الجنة والسّعادة والعاقبة الحميدة، ومَن حاد عنه وتابع الهوى فله الخيبة والنّدامة وسُوء العاقبة: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [إبراهيم:52].

فجديرٌ بأهل العقول أن يتذكّروا هذا الكتاب العظيم الذي جعل الله فيه تبيانَ كل شيءٍ، وجعله نذيرًا وبلاغًا، جديرٌ بالعقلاء من الرجال والنِّساء، من العرب والعجم، جديرٌ بأن يتذكّروا ويتدبّروا ويتعقّلوا ويأخذوا العظةَ من هذا الكتاب العظيم، وما صحّت به السُّنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

ففي الحديث الصَّحيح: إني أوتيتُ القرآنَ ومثله معه، وقال جلَّ وعلا: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ يعني: القرآن لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44]، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]، فكيف يليق بأي عاقلٍ أن يصدف عن هذا الكتاب العظيم، وألا يتدبّر ويتعقّل، وفيه هداه، والبلاغ له، وفيه النَّذارة، وفيه البشارة، وفيه بيان كل ما يحتاجه؟! ..... لا حول ولا قوة إلا بالله، نعم.

س: ..... قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام:19] أنَّ الله تعالى شيء؟

ج: نعم صحيح، هو شيء، شيء موجود لا كالأشياء سبحانه، هو شيء موجود لا كالأشياء، فهو شيء، وهو موجودٌ ، وفي الحديث الآخر: "شخص" يعني: قائمٌ بنفسه جلَّ وعلا، لكن ليس من أسمائه الحسنى، لا يُعدّ من أسمائه الحسنى، أسماؤه الحسنى هي التي تسمّى بها جلَّ وعلا: العليم، الحكيم، العزيز، القدير، الرؤوف، إلى غير هذا، لكن هو شيءٌ، معناه: شيء موجود، ليس عدمًا.

عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: بَلِّغُوا عَنِ اللَّهِ، فَمَنْ بَلَغَتْهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ بَلَغَهُ أَمْرُ اللَّهِ.

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: حَقٌّ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَدْعُوَ كَالَّذِي دَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وأن يُنذر بالذي أنذر.

وقوله: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ [الأنعام:19]، كقوله: فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام:150]، قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19].

الشيخ: يعني أنَّ المشركين يشهدون بقولهم وفعلهم، فالمعاند منهم يشهد بذلك بقوله، والجاهل، وهكذا أفعالهم تشهد عليهم، كما قال جلَّ وعلا: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة:17] يعني: أعمالهم تشهد عليهم بالكفر، دعوتهم العزّى ومناة والأصنام وودّ وسُواع، إلى غير ذلك، دعوتهم إياها، ولجوؤهم إليها، وذبحهم لها، ونذرهم لها؛ شهادة بالألسنة وبالأفعال أنَّ مع الله آلهةً أخرى؛ ولهذا حكم عليهم بالكفر ، وأمر أنبياءه بقتالهم حتى يعبدوا الله وحده: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، الإنسان يشهد بقوله وبفعله، فالذي يعبد الأوثان من دون الله، ويعبد الأصنام؛ شاهدٌ بفعله، والذي يقول ذلك بلسانه، ويدعو إلى ذلك بلسانه؛ شاهدٌ بقوله، نسأل الله السَّلامة.

س: ..............؟

ج: نعم: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ، هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ [إبراهيم:52]، نعم.

س: والذين لم يبلغهم؟

ج: لا تقوم عليهم الحجّة حتى يبلغوا، لهم حكم أهل الفترة، الذين ما بلغهم القرآنُ لهم حكم الفترة، وما جاءهم خبرُ الرسول ﷺ يكون لهم حكم الفترة يوم القيامة؛ يُمتحنون يوم القيامة، فمَن أجاب دخل الجنة، ومَن عصا دخل النار، لكن في الدنيا لهم حكم الكفرة، ما داموا لم يُوحِّدوا الله ولم يتَّبعوا رسله لهم حكم الكفرة، لكن إذا كانوا صادقين: ما بلغتهم الدّعوة؛ يكونون في الآخرة حكمهم حكم أهل الفترة الذين ما جاءهم رسولٌ ولا كتابٌ؛ يُمتحنون يوم القيامة.

س: حديث: والذي نفسي بيده، لا يسمع بي ..؟

ج: أحدٌ من هذه الأمّة يهوديّ ولا نصراني، ثم يموت ولم يُؤمن بالذي جئتُ به؛ إلا كان من أهل النَّار رواه مسلم في "صحيحه"، يأتي.

س: لكن هذا –يعني- مجرد السَّماع؟

ج: يعني: البلاغ، يسمع: يبلغه، ثم لا يتحرّك ولا يسأل ولا يبحث، يُعْرِض.

ثم قال تعالى مُخْبِرًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ هَذَا الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ.

الشيخ: يعني جاء باللغة العربية، أو جاء بلغة الترجمة.

س: بعض الدّول .....؟

ج: ما دام بلغهم القرآن وبلغهم خبرُ الرسول فقد قامت عليهم الحجّة.

س: .............؟

ج: عليهم أن يبحثوا، عليهم أن يسألوا حتى يعرفوا ما جاء به الرسول ﷺ، ما دام بلغهم الخبرُ لا يُعرضون.

س: حتى لو شوّه الإسلام؟

ج: عليهم أن يسألوا ويبحثوا حتى يعرفوا الحقائق.

كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ [الأنعام:20] بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْبَاءِ عَنِ الْمُرْسَلِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ والأنبياء، فإنَّ الرسلَ كلّهم بَشَّرُوا بِوُجُودِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ وَبَلَدِهِ وَمُهَاجَرِهِ وَصِفَةِ أُمَّتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بعده: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْ: خَسِرُوا كُلَّ الْخَسَارَةِ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:20] بِهَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيِّ الظَّاهِرِ الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَنَوَّهَتْ بِهِ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ.

ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ [الأنعام:21] أَيْ: لَا أَظْلَم مِمَّنْ تَقَوَّلَ عَلَى اللَّهِ فَادَّعَى أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَرْسَلَهُ، ثُمَّ لَا أَظْلَم مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ وَدَلَالَاتِهِ.

إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21] أَيْ: لَا يُفْلِحُ هَذَا، وَلَا هَذَا، لا المفتري، ولا المكذّب.

مداخلة: أحاديث أحواض الأنبياء التي مرَّت معنا الأسبوع الماضي، الشيخ الألباني تكلّم عليها .....

الشيخ: نعم.

الطالب: بسم الله الرحمن الرَّحيم، قال: الحديث الأول: إنَّ لكلِّ نبيٍّ حوضًا، وإنَّهم يتباهون أيّهم أكثر واردةً، وإني أرجو الله أن أكون أكثرهم واردةً.

قال الألباني في "السلسلة الصحيحة": أخرجه البخاري في "التاريخ"، والترمذي، وابن أبي عاصم، كما في "نهاية ابن كثير"، والطّبراني في "الكبير" من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسولُ الله ﷺ .. فذكره.

وقال الترمذي: حديثٌ غريبٌ. وفي بعض النُّسَخ: حسنٌ غريبٌ.

وقد روى الأشعثُ بن عبدالملك هذا الحديث عن الحسن، عن النبي ﷺ مرسلًا، ولم يذكر فيه: عن سمرة. وهو أصحّ.

قلتُ -أي الألباني- وما في النّسخة الأولى -أعني الغرابة فقط- أقرب إلى الصحّة، وهو الذي نقله ابنُ كثير عن الترمذي؛ لأنَّ السَّند لا يقبل التَّحسين، فإنَّ فيه ثلاث عللٍ:

الأولى: الإرسال الذي ذكره الترمذي ورجّحه.

الثانية: عنعنة البصري، فإنَّه كان مُدلِّسًا، لا سيما عن سمرة.

الثالثة: سعيد بن بشير، وهو الأزدي مولاهم، وهو ضعيفٌ كما في "التقريب".

والحديث أورده الهيثمي في "المجمع" بلفظٍ أتمّ، وهو: إنَّ الأنبياء يتباهون أيّهم أكثر أصحابًا من أمّته، فأرجو أن أكون يومئذٍ أكثرهم كلّهم واردةً، وإنَّ كلَّ رجلٍ منهم يومئذٍ قائمٌ على حوضٍ ملآن، معه عصا، يدعو مَن عرف من أمّته، ولكل أمّةٍ سيما يعرفهم بها نبيّهم.

وقال: رواه الطَّبراني، وفيه مروان بن جعفر السّمري، وثَّقه ابنُ أبي حاتم. وقال الأزدي: يتكلّمون فيه. وبقية رجاله ثقات.

قلتُ -أي الألباني- إن كان كما قال رجاله ثقات، ولم يكن في الإسناد ما يقدح في ثبوته، فالإسناد حسنٌ عندي؛ لأنَّ السّمري هذا صدوقٌ، صالح الحديث، كما قال ابنُ أبي حاتم عن أبيه، وهو مُقدّم على جرح الأزدي؛ لأنَّ هذا نفسه يتكلّمون فيه.

الشيخ: يعني: الأزدي، نعم.

الطالب: ثم وقفتُ على إسناده عند الطَّبراني (7053)، فإذا هو من طريق السّمري المذكور: حدَّثنا محمد بن إبراهيم بن خبيب بن سليمان بن سمرة: حدَّثنا جعفر بن سعد بن سمرة، عن خبيب بن سليمان بن سمرة، عن أبيه، عن سمرة.

قلتُ: وهذا سندٌ ضعيفٌ؛ سليمان بن سمرة لم يُوثّقه أحدٌ غير ابن حبان.

وخبيب ابنه مجهول، وجعفر بن سعد ليس بالقوي كما في "التقريب".

وللحديث شاهدان موصولان، وثالثٌ مُرسَلٌ:

الأول: من رواية عطية العوفي، عن أبي سعيدٍ الخدري مرفوعًا بلفظ: إنَّ لي حوضًا طوله ما بين الكعبة إلى بيت المقدس، أشدّ بياضًا من اللّبن، آنيته عدد النّجوم، وكل نبيٍّ يدعو أمّته، ولكلِّ نبيٍّ حوض، فمنهم مَن يأتيه الفئام، ومنهم مَن يأتيه العصبة، ومنهم مَن يأتيه النَّفر، ومنهم مَن يأتيه الرَّجلان، ومنهم مَن يأتيه الرّجل، ومنهم مَن لا يأتيه أحدٌ، فيُقال: قد بلغت.

الشيخ: يعني: ما يأتيه أحدٌ، لم يتبعه أحدٌ، بلَّغهم ولم يتبعه أحدٌ، أو قتلوه، كما في حديث: والنبي وليس معه أحدٌ.

الطالب: وإني لأكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة.

أخرجه أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 110)، وكذا ابن أبي الدنيا في "كتاب الأهوال"، كما في "ابن كثير" وابن ماجه مُختصرًا، وعطية ضعيفٌ.

الشيخ: يعني: عطية العوفي، الراوي عن أبي سعيدٍ.

الطالب: الثاني: عن محصن بن عقبة اليماني، عن الزبير بن شبيت –كذا- عن أبي عثمان، عن ابن عباسٍ قال: سُئِلَ رسولُ الله ﷺ عن الوقوف بين يدي ربِّ العالمين: هل فيه ماء؟ قال: إي والذي نفسي بيده، إنَّ فيه لماءً، إنَّ أولياء الله ليردون حياضَ الأنبياء، ويبعث اللهُ سبعين ألف ملكٍ، في أيديهم عصا من نارٍ، يذودون الكفَّار عن حياض الأنبياء. أخرجه ابن أبي الدنيا.

وقال ابنُ كثير: وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، وليس هو في شيءٍ من الكتب السّتة.

قلتُ: والزبير ومحصن لم أجد مَن ترجمهما.

الثالث: قال ابنُ أبي الدنيا: حدَّثنا خالد بن خداش -الأصل: خراش- حدَّثنا حزم ابن أبي حزم: سمعتُ الحسن البصري يقول: قال رسولُ الله ﷺ: إذا فقدتموني فأنا فرطكم على الحوض، إنَّ لكل نبيٍّ حوضًا، وهو قائمٌ على حوضه، بيده عصا، يدعو مَن عرف من أمّته، ألا وإنَّهم يتباهون: أيّهم أكثر تبعًا، والذي نفسي بيده، إني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا.

قال الحافظُ ابن كثير: وهذا مُرسلٌ عن الحسن، وهو حسنٌ، صحّحه يحيى بن سعيد القطان، وغيره، وقد أفتى شيخُنا المزي بصحّته من هذه الطرق.

قلتُ: وإنما لم يُحسّنه الحافظُ، مع أنَّ رجاله رجال "الصحيح" لأنَّ في خالد بن خداش وشيخه حزم كلامًا، قال الحافظ ابنُ حجر في الأول منهما: صدوقٌ يَهِم. وقال في الآخر: صدوقٌ يُخطئ. ومنه تعلم خطأ قوله في "الفتح": والمرسل أخرجه ابنُ أبي الدنيا بسندٍ صحيحٍ عن الحسن.

قلتُ: نعم، هو صحيحٌ عن الحسن بالطريق الأخرى عنه التي أشار إليها الترمذيُّ في كلامه السَّابق من رواية الأشعث بن عبدالملك عنه، ومن الغريب ألا يذكرها الحافظان: ابن حجر، وابن كثير.

وجملة القول: إنَّ الحديث بمجموع طرقه حسنٌ أو صحيحٌ، والله أعلم، ثم وجدتُ له شاهدًا آخر من حديث عوف بن مالك مرفوعًا به، وفيه زيادةٌ خرّجتُه من أجلها في "الضَّعيفة" (2450).

الشيخ: الحاصل من هذا أنَّ طرقه كلَّها ضعيفة، وقد يتحسَّن من باب الحسن لغيره، إنما الثابت حوض النبي عليه الصلاة والسلام، وهو طوله شهر، وعرضه شهر، وهذه الطرق التي ذكرها مثلما تقدّم كلها ضعيفة من جهة أسانيدها: ما بين مرسلٍ، وما بين ضعيفٍ، لكن مجموعها يدل على أنَّ للحديث أصلًا، وأنَّه من باب الحسن لغيره.