تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ..}

وقوله تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [المائدة:110] أَيْ: وَاذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ فِي كَفِّي إِيَّاهُمْ عَنْكَ حِينَ جِئْتَهُمْ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ عَلَى نُبُوَّتِكَ وَرِسَالَتِكَ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَكَذَّبُوكَ، وَاتَّهَمُوكَ بِأَنَّكَ سَاحِرٌ، وَسَعَوْا فِي قَتْلِكَ وَصَلْبِكَ فَنَجَّيْتُكَ مِنْهُمْ، وَرَفَعْتُكَ إِلَيَّ، وَطَهَّرْتُكَ مِنْ دَنَسِهِمْ، وَكَفَيْتُكَ شَرَّهُمْ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الِامْتِنَانَ كَانَ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، أَوْ يَكُونُ هَذَا الِامْتِنَانُ وَاقِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي دَلَالَةً عَلَى وُقُوعِهِ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا مِنْ أَسْرَارِ الْغُيُوبِ الَّتِي أَطْلَعَ اللَّهُ عليها نبيَّه مُحَمَّدًا ﷺ.

وَقَوْلُهُ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي [المائدة:111]، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ جَعَلَ لَهُ أَصْحَابًا وَأَنْصَارًا، ثُمَّ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْوَحْيِ وَحْيُ إِلْهَامٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ الآية [القصص:7]، وهو وحي إلهامٍ بلا خلافٍ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا الآية [النحل:68].

وَهَكَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ أَيْ: أُلْهِمُوا ذَلِكَ، فَامْتَثَلُوا مَا أُلْهِمُوا.

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ ذَلِكَ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَتِكَ، فَدَعَوْتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وبرسوله، واستجابوا لك، وانقادوا، وتابعوك، فقالوا: آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ.

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ۝ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۝ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:112- 115].

هَذِهِ قِصَّةُ الْمَائِدَةِ، وَإِلَيْهَا تُنْسَبُ السُّورَةُ، فَيُقَالُ: سُورَةُ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ مِمَّا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى لَمَّا أَجَابَ دُعَاءَهُ بِنُزُولِهَا، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ آيَةً بَاهِرَةً، وَحُجَّةً قَاطِعَةً.

وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ أنَّ قصَّتها لَيْسَتْ مَذْكُورَةً فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَا يَعْرِفُهَا النَّصَارَى إِلَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ وَهُمْ أَتْبَاعُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ، هَذِهِ قِرَاءَةُ كَثِيرِينَ، وَقَرَأَ آخَرُونَ: (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ) أَيْ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ ربَّك أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ.

الشيخ: وهذا يُؤيد أنَّ الحواريين ليسوا رسلًا، وإنما هم رجال صالحون أُلهموا الإيمان في عيسى عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا قالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ، فلو كانوا رسلًا لم يخفَ عليهم هذا، لو كانوا رسلًا أو أنبياء لم تخفَ عليهم قُدرة الله على إنزال المائدة، فهذا يدل على أنهم ليسوا برسلٍ، وإنما هم أنصاره وإخوانه وأحبابه في الله، آمنوا به، وصدَّقوه، وألهمهم اللهُ ذلك.

والمائدة هي الخوان عليه الطّعام.

وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا ذَلِكَ لِحَاجَتِهِمْ وفقرِهم، فسألوه أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مَائِدَةً كُلَّ يَوْمٍ يَقْتَاتُونَ مِنْهَا، وَيَتَقَوَّوْنَ بِهَا عَلَى الْعِبَادَةِ.

قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ: فَأَجَابَهُمُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِلًا لَهُمُ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَسْأَلُوا هَذَا؛ فَعَسَاهُ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً لَكُمْ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا أَيْ: نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا إِذَا شَاهَدْنَا نُزُولَهَا رِزْقًا لَنَا مِنَ السَّمَاءِ، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا أَيْ: وَنَزْدَادَ إِيمَانًا بِكَ وَعِلْمًا بِرِسَالَتِكَ، وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ أي: ونشهد أنها آية مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَدَلَالَةٌ وَحُجَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِكَ وَصِدْقِ مَا جِئْتَ بِهِ.

قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا.

قَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ: نَتَّخِذُ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عِيدًا نُعَظِّمُهُ نَحْنُ وَمَنْ بَعْدَنَا.

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَعْنِي يَوْمًا نُصَلِّي فِيهِ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ لِعَقِبِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ.

وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: عِظَةً لَنَا وَلِمَنْ بَعْدَنَا.

وَقِيلَ: كَافِيَةً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا.

وَآيَةً مِنْكَ أَيْ: دَلِيلًا تَنْصِبُهُ عَلَى قُدْرَتِكَ عَلَى الْأَشْيَاءِ، وَعَلَى إجابتك لدعوتي، فَيُصَدِّقُونِي فِيمَا أُبَلِّغُهُ عَنْكَ، وَارْزُقْنَا أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ رِزْقًا هَنِيئًا بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا تَعَبٍ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.

قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أَيْ: فَمَنْ كَذَّبَ بِهَا مِنْ أُمَّتِكَ يَا عِيسَى وَعَانَدَهَا فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ أي: من عالمي زمانكم، كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر:46]، وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145].

...... فظاهر الكلام أنَّه يُعذّبهم عذابًا شديدًا يختصّ بهم؛ لشدّة كفرهم، نعوذ بالله.

..........

الشيخ: ما يلزم، ما يلزم، ما يلزم منه هذا؛ لأنَّ أشدَّ العذاب تكون شدّته ..... والدَّرك الأسفل من النار هذا في المنافقين، وقد يكون معهم ناسٌ في الدَّرك الأسفل من الكفَّار .....، لكن هذا خاصٌّ، عذابٌ خاصٌّ .....؛ لأنَّه نوع خاص من العذاب يختصّ بهم: لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ نوعٌ خاصٌّ، فقد يكون هذا العذاب ..... أشدّ العذاب، وله مدّته .....، ومع ذلك يخصّهم به، نكالٌ لهم خاصّ، نسأل الله السَّلامة.

...........

فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أَيْ: فَمَنْ كَذَّبَ بِهَا مِنْ أُمَّتِكَ يَا عِيسَى وَعَانَدَهَا فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ أي: من عالمي زمانكم، كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.

الشيخ: ويوم تقوم السَّاعة: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يعني: القيامة؛ لأنَّ الآيةَ أوّلها: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، نسأل الله العافية.

............

وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ الْقَوَّاسِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عمر قَالَ: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْمُنَافِقُونَ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ، وآل فرعون".

مُداخلة: في نسخة الشُّعب: عبدالله بن عمرو.

الشيخ: عن عبدالله بن عمرو، أيش بعده؟

عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عمر قَالَ: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْمُنَافِقُونَ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ، وآل فرعون".

الشيخ: ما يضرّ والله أعلم، ولكن عبدالله بن عمرو هو الأقرب؛ لأنَّه هو الذي ينقل عن بني إسرائيل، حطّ نسخة: عمرو. يُراجع ابن جرير.

مداخلة: في أصل ابن جرير: ابن عمرو؟

الشيخ: صلّحها.