تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا..}

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۝ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ۝ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:27- 30].

يَذْكُرُ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ إِذَا وَقَفُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى النَّارِ، وَشَاهَدُوا مَا فِيهَا مِنَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَرَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ تِلْكَ الْأُمُورَ الْعِظَامَ وَالْأَهْوَالَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ: فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا عَمَلًا صَالِحًا، وَلَا يُكَذِّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ، وَيَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

قال الله تَعَالَى: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ أَيْ: بَلْ ظَهَرَ لَهُمْ حِينَئِذٍ مَا كَانُوا يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْمُعَانَدَةِ، وَإِنْ أَنْكَرُوهَا فِي الدُّنْيَا، أَوْ في الآخرة، كما قال قبله بِيَسِيرٍ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ۝ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الأنعام:23- 24]، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ ظَهَرَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ صدقِ ما جاءتهم بِهِ الرُّسُلُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانُوا يُظْهِرُونَ لأتباعهم خلافَه، كقوله مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لِفِرْعَوْنَ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ الآية [الإسراء:102].

الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ الله جلَّ وعلا يُبين لنا حال الكافرين، وأنهم إذا وقفوا على النار تمنّوا الرجعة إلى الدنيا، وأن يكونوا مؤمنين؛ حتى يسلموا من هذا العذاب، ولكن لا حيلةَ لهم في ذلك، فليس هناك ردٌّ إلى الدنيا، وانتهى أمرها، مع أنهم لو رُدُّوا لعادوا، وأنهم يكذبون في ذلك، وأنهم قومٌ خُبثاء، ليس عندهم صدقٌ: لا في الدنيا، ولا في الآخرة؛ ولهذا قالوا في موضعٍ آخر: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ۝ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، فهم لما رأوا العذابَ وشاهدوه قالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لشدّة ما وقعوا فيه من المأزق العظيم، والعاقبة الوخيمة.

ثم يُخبر سبحانه العالِـم بهم: أنهم لو رُدُّوا لعادوا، نسأل الله العافية؛ اتِّباعًا للهوى، وإيثارًا للباطل والعناد، بل بدا لهم ما كانوا يُخفون من قبل، يعني: ما كانوا يُخفونه من كذبهم وشركهم وكفرهم، كما قال المؤلفُ في قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، لكن الأظهر من السّياق -والله أعلم- أنَّ هذا في المنافقين والمعاندين: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ في الدنيا كانوا يُخفون ما في قلوبهم من الإيمان، وأنَّ ما قاله محمدٌ حقٌّ، ولكن جحدوا واستكبروا وعاندوا، كما قال في الآية الأخرى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، وقال عن فرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102]، فإن كثيرًا من الرّؤساء والمتبوعين من الكفرة يعرفون الحقَّ، ولكن آثروا الباطلَ عليه حتى تبقى لهم رياساتهم، وحتى تبقى لهم مآكلهم وضرائبهم التي ضربوها على أتباعهم، والتَّصرف الذي كانوا يفعلونه مع أتباعهم، وجحدوا الحقَّ، واستكبروا عن اتِّباعه بتلك المآكل والمشارب والضَّرائب والأشياء التي كانت تحصل لهم من أتباعهم، كما فعلت اليهودُ، وفعل غيرهم من الرؤساء الكفرة.

فليحرص ذو العقل السَّليم أن يُصيبه ما أصاب هؤلاء؛ ليحرص على الثبات على الحقِّ في الدنيا قبل الموت، وليستقم لئلا يُصيبه ما أصاب هؤلاء، فإنَّ هذه عظة من ربنا لأهل الأرض قبل أن يموتوا؛ لئلا يُصيبهم ما أصاب أولئك.

المعنى: أيّها الناس، استقيموا على الحقِّ، واثبتوا عليه، واعملوا به حتى تموتوا عليه؛ لئلا تقعوا فيما وقع فيه هؤلاء الذين أخبر اللهُ عنهم من العذاب والنَّكال وتمني العودة، نسأل الله العافية.

وقوله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الإيمانَ للناس، وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا عَمَّا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ.

وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنُ هَذِهِ السُّورَةِ مَكِّيَّةً، وَالنِّفَاقُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ وُقُوعَ النِّفَاقِ فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ وَهِيَ الْعَنْكَبُوتُ، فَقَالَ: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [العنكبوت:11]، وعلى هذا فيكون إخبارًا عن قول الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ حِينَ يُعَايِنُونَ الْعَذَابَ، فظهر لَهُمْ حِينَئِذٍ غِبُّ مَا كَانُوا يُبْطِنُونَ مِنَ الكفر والنِّفاق والشِّقاق، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا مَعْنَى الْإِضْرَابِ فِي قَوْلِهِ: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:28] فإنهم مَا طَلَبُوا الْعَوْدَ إِلَى الدُّنْيَا رَغْبَةً وَمَحَبَّةً فِي الْإِيمَانِ، بَلْ خَوْفًا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي عاينوه، جزاء على مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَسَأَلُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيَتَخَلَّصُوا مِمَّا شَاهَدُوا مِنَ النَّارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28] أي: في طلبهم الرَّجْعَةَ رَغْبَةً وَمَحَبَّةً فِي الْإِيمَانِ.

ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَيْ: فِي قَوْلِهِمْ: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].

وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29] أَيْ: لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عنه، وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا أَيْ: مَا هِيَ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، ثُمَّ لَا مَعَادَ بَعْدَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.

ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَيْ: أُوقِفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ أَيْ: أَلَيْسَ هَذَا الْمَعَادُ بِحَقٍّ، وَلَيْسَ بِبَاطِلٍ كَمَا كُنْتُمْ تَظُنُّونَ؟ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30] أَيْ: بِمَا كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ، فَذُوقُوا الْيَوْمَ مَسَّهُ: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ [الطور:15].

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ۝ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنعام:31- 32].

يَقُولُ تَعَالَى مُخبرًا عن خسارة مَن كذَّب بلقائه، وَعَنْ خَيْبَتِهِ إِذَا جَاءَتْهُ السَّاعَةُ بَغْتَةً، وَعَنْ نَدَامَتِهِ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنَ الْعَمَلِ، وَمَا أسلف من قبيح الفعل؛ وَلِهَذَا قَالَ: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا، وهذا الضَّمير يحتمل عوده على الحياة، وَعَلَى الْأَعْمَالِ، وَعَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَيْ: فِي أَمْرِهَا.

وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ أَيْ: يَحْمِلُونَ، وَقَالَ قتادةُ: يعملون.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ عَمْرِو بن قيسٍ، عن أبي مرزوقٍ قال: يستقبل الْكَافِرُ أَوِ الْفَاجِرُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ كأقبح صورةٍ رأيتها، وأنتنه رِيحًا، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَوَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قبَّح وجهك، وأنتن رِيحَكَ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، هَكَذَا كُنْتَ في الدُّنيا: خبيث العمل، مُنتنه، فطالما رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا هَلُمَّ أَرْكَبُكَ. فَهُوَ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ الآية.

وَقَالَ أَسْبَاطٌ: عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ من رجلٍ ظالمٍ يدخل قَبْرَهُ إِلَّا جَاءَهُ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، أَسْوَدُ اللّون، مُنتن الرِّيح، وعليه ثِيَابٌ دَنِسَةٌ، حَتَّى يَدْخُلَ مَعَهُ قَبْرَهُ، فَإِذَا رَآهُ قَالَ: مَا أَقْبَحَ وَجْهَكَ؟ قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ قَبِيحًا. قَالَ: مَا أَنْتَنَ رِيحَكَ؟ قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ مُنْتِنًا. قَالَ: مَا أَدْنَسَ ثِيَابَكَ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: إِنَّ عَمَلَكَ كَانَ دنسًا. قال له: مَن أنت؟ قال: عَمَلُكَ. قَالَ: فَيَكُونُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، فَإِذَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ أَحْمِلُكَ فِي الدُّنْيَا بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَأَنْتَ الْيَوْمَ تَحْمِلُنِي. قَالَ: فَيَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَسُوقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ.

وَقَوْلُهُ: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أَيْ: إِنَّمَا غَالِبُهَا كَذَلِكَ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.

الشيخ: وهذا مثلما قال المؤلفُ، هذا غالب الدنيا ..... يعني: بالنسبة إلى الأكثرين، كما في آية الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الحديد:20] يعني: بالنسبة إلى أكثر العالم اتّخذوا دنياهم لعبًا، ولهوًا، وزينةً، وتفاخرًا، وجمعًا للَّذات، وحرصًا على ..... هذه الحياة ما تهواها النفوس من دون إعدادٍ للآخرة، ومن دون نظرٍ للآخرة، وما المعدّون للآخرة والمنتبهون إلا القليل، وأغلب الخلق غلب عليهم حبّ العاجلة، وإيثار العاجلة، واتّخاذ هذه الدار لهوًا ولعبًا وزينةً وتفاخرًا وتكاثرًا.

فالواجب على العاقل أن ينتبه لهذا الأمر، وألا يكون مع هؤلاء، ليحرص أن يكون مع القليل الناجي الذي عمَّر هذه الدنيا بالاستقامة والطَّاعة، واتّخذها طريقًا للآخرة، وأعدّ فيها العدّة للقاء ربِّه، وهم القليل: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، فلا تيأس، ولا تقنط، ولا تغفل، واحرص أن تكون من القليل، وأحسن ظنّك بربك واعمل، ومتى صدقتَ وبذلتَ الوسع في أسباب النَّجاة فالله يُوفِّقك ويُعينك ويُسهّل لك الطّريق السَّوي: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، هكذا يقول سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا أي: جاهدوا أنفسهم في الله، وجاهدوا شياطينهم في الله، وجاهدوا أعداءهم في الله؛ يهديهم الله سُبل الخير والهدى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ۝ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15- 16]، يهدي به الله مَن اتَّبع رضوانه، وهناك قال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا.

فالهداية لها أسباب، والتوفيق له أسباب، وأسبابه الجهاد: جهاد النفس، جهاد الشيطان، جهاد الهوى، جهاد أعداء الله، جهاد المنافقين، جهاد العُصاة، كلٌّ بحسبه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2- 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] يعني: نورًا وهدايةً وبصيرةً.

فهذه أمور مُعلّقة على التقوى، والجهاد، واتِّباع الخير، والأخذ بأسباب النَّجاة، وبهذا تحصل الهداية، أمَّا مَن أعرض وغفل ولم يُبالِ فهذا هو الذي أخذ بأسباب الهلاك، هو الذي طاوع شيطانه وهواه، واتَّبع سبل الهلاك؛ فهلك مع الهالكين: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [النحل:37] ..... مَن يضلّ، مَن سبقت له الضَّلالة والعماية واتِّباع الهوى فليس هناك حيلة في استقامته: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، نسأل الله العافية.

س: كون العمل السَّيئ يركب صاحبَه فيه شيءٌ ثابتٌ؟

ج: ما أعلم شيئًا إلا الآية: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ الآية [النحل:25].