تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ..}

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282].

هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَطْوَلُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَحْدَثَ الْقُرْآنِ بِالْعَرْشِ آيَةُ الدَّيْنِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظهرَه، فأخرج منه مَا هُوَ ذَارِئٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

الشيخ: يعني: ما هو خالقٌ.

فَجَعَلَ يَعْرِضُ ذُرِّيَّتَهُ عَلَيْهِ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهو.

الشيخ: الذي يظهر بالراء: يزهر، يعني: له نور بيّن. أيش عندكم في نسخة الشُّعب؟

الطالب: يزهر.

الشيخ: حطّ نسخة: يزهر، يُراجع، المعروف: يزهر، لكن تُراجع .....، انظر: النِّهاية.

فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هُوَ ابْنُكَ دَاوُدُ. قَالَ: أَيْ رَبِّ، كَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ عَامًا. قَالَ: رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ عُمُرِكَ. وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَكَتَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا احْتُضِرَ آدَمُ وَأَتَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، قال: إنَّه بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ عَامًا، فَقِيلَ لَهُ: إنَّك وَهَبْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ، قَالَ: مَا فَعَلْتُ! فَأَبْرَزَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ.

وَحَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. فَذَكَرَهُ، وَزَادَ فِيهِ: فَأَتَمَّهَا اللَّهُ لِدَاوُدَ مِئَةً، وَأَتَمَّهَا لِآدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ.

وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتمٍ عن يوسف ابن أبي حَبِيبٍ.

الشيخ: أيش عندكم؟

الطالب: يونس ابن أبي حبيب.

الشيخ: هذا الأصل، وأنت يا شيخ محمد؟

الطالب: قوله: (يوسف ابن أبي حبيب) مُصحّفة عن يونس بن حبيب، وهو الأصفهاني، وهو الذي يروي عنه ابنُ أبي حاتم.

الشيخ: هذا الأظهر، طيب، هو الصواب: يونس بن حبيب.

عن يونس بن حبيب، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ.

هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ فِي أَحَادِيثِهِ نَكَارَةٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي "مُسْتَدْرَكِهِ" بِنَحْوِهِ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بن عبدالرحمن ابن أبي وثاب.

الشيخ: ابن أبي وثّاب أو ابن أبي ذباب؟

الطالب: ابن أبي ذباب.

الشيخ: هذا الصواب: ذباب، أيش عندك يا شيخ محمد؟

الطالب: كذلك قوله: (ابن أبي وثاب) بالثّاء تصحّفت: ابن أبي ذباب، وهو هكذا عند الحاكم في "المستدرك".

الشيخ: طيب، هو الصواب: ابن أبي ذباب، نعم.

ابن أبي ذباب، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمِنْ رواية أبي دَاوُدَ.

الشيخ: عندكم: أبي؟

الطالب: من رواية داود.

الشيخ: "أبي" غلط، من رواية داود، سبحان الله! هذه النّسخة فيها أغلاط كثيرة.

من رواية داود ابْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَمِنْ حديث تمام بْنِ سَعْدٍ.

الشيخ: تمام بن سعد، كذا عندك؟

الطالب: هشام بن سعد في نسخة الشُّعَب.

الشيخ: أيش عندكم يا شيخ محمد؟

الطالب: قوله: (تمام بن سعد) مُصحّفة عن هشام بن سعد، وهو المدني، ولم أجد .....

الشيخ: هو صاحب زيد، هشام.

ومن حديث هشام بن سعد.

الشيخ: الذي عنده (تمام) يحطّه: هشام.

عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ.

الشيخ: وهذا محمولٌ على أنه نسي عليه الصلاة والسلام، ثم قال الله جلَّ وعلا: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طـه:115]، آدم وذُريته كُتب عليهم النِّسيان، الأنبياء وغير الأنبياء، الكل ينسى؛ ولهذا نسي نبيّنا ﷺ -وهو أفضل الخلق- عدّة مرات في الصلاة وسها، وقال: إنما أنا بشرٌ، أنسى كما تنسون، فالنِّسيان يقع من الأنبياء ومن غيرهم، هذا من طرقٍ مُتعددةٍ؛ لأنَّه وهب ابنه داود أربعين، وأنه سمح بذلك ثم نسي، ما يُستغرب، فالنِّسيان جائزٌ على الجميع.

س: ما مدى صحّة هذا الحديث؟

ج: هذه الطرق تدل على صحّته، هذه الطرق تدل على صحّته؛ لأنها طرق مُتعددة.

س: مداره على علي بن زيد؟

ج: لا، ما هو عليه، طرق أخرى من غير طريق علي بن زيد، من طرقٍ ثقات، وجحد آدم يعني: جحد عن نسيانٍ، ما هو عن تعمّدٍ، جحد عن نسيانٍ، يعني: نسي هذه القصّة.

فَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ هَذَا إِرْشَادٌ مِنْهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا تَعَامَلُوا بِمُعَامَلَاتٍ مُؤَجَّلَةٍ أَنْ يَكْتُبُوهَا؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحْفَظَ لِمِقْدَارِهَا وَمِيقَاتِهَا، وَأَضْبَطَ لِلشَّاهِدِ فِيهَا، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا فِي آخِرِ الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا.

الشيخ: وهذا من رحمته لعباده سبحانه؛ أمرهم بالكتابة رحمةً منه جلَّ وعلا بعباده، وإحسانًا منه إليهم؛ ليحفظوا حقوقَهم، وليقلّ النزاع بينهم، فالدَّين إذا كُتب استراح الجميعُ، فالمدين قد ينسى، والدَّائن قد ينسى، فالكتابة فيها خيرٌ للجميع، كما أنَّ الشَّهادة فيها خيرٌ للجميع، ولكن الشَّهادة قد ينسى الشَّاهد، فالكتابة أضبط في الـمُداينة.

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي السّلم إلى أجلٍ غير مَعْلُومٍ.

الشيخ: هذا من جملة الدَّين، السّلم: هو أن يبذل مالًا مُعجَّلًا في بيعٍ مُؤجَّلٍ من مكيلٍ أو موزونٍ أو موصوفٍ، يُقال له: سلم، ويقال له: سلف، سُمِّي بذلك لأنَّ فيه تقديمَ الثَّمن وتأخير الـمُثْمَن، كأن يُعطيه مئة ريالٍ في مئة صاعٍ لمدة سنةٍ، يكتب، وهكذا مئة ريالٍ في ..... صفته كذا وكذا، أو في عنزٍ صفتها كذا، أو شاةٍ صفتها كذا، أو بقرةٍ صفتها كذا إلى أجلٍ معلومٍ، هذا يُسمَّى: سلم، وهكذا في البيوعات الأخرى، في المؤجّلة: كأن يشتري بيتًا بكذا ألف إلى أجلٍ معلومٍ، أو إلى آجالٍ معلومةٍ، أو سيارةً إلى أجلٍ معلومٍ، أو آجالٍ معلومةٍ، يُسمَّى هذا: دين، هذه مُداينة.

وهل يدخل في هذا القرضُ لأنَّه نوعٌ من الدَّين؟ هل يُكتب أم لا يُكتب؟

وظاهر النَّص أنه يدخل؛ لأنه دَين ..... إذا أقرضه مئة ريالٍ أو ألف ريالٍ أو أكثر من ذلك فالمشروع أن يكتبه؛ حتى لا ينسى واحدٌ منهم، وهذا من باب حفظ الحقوق، ومن باب التَّعاون على الخير، ومن باب الحذر من أسباب الشَّحناء؛ لأنَّهم إذا نسوا تنازعوا، وربما أفضى إلى البغضاء والشَّحناء.

س: ............؟

ج: ظاهر النص الوجوب، لكن المعروف عند العلماء الاستحباب، وهكذا آخر الآية: إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا [البقرة:282]، فالظاهر أنَّ فيه جناحًا إذا لم يُكتَب، فالدّيون ينبغي كتابتها، نعم.

س: ............؟

ج: ما أعلم، يمكن بعض الوقائع التي وقعت من النبي ﷺ، يعني: لم تُكتب، قد تكون بعض الوقائع لم ..... أنها كُتبت في المداينة، فعلها النبيُّ ﷺ، لكن يُحمل على كونه اشترى من يهوديٍّ طعامًا إلى أجلٍ، لم يذكر فيه فيما أعلم ذكر الكتابة، ولكن عدم ذكر الكتابة ما يدل على عدم وقوعها.

س: .............؟

ج: هذا ما يدل إلا على الوجوب، قال: وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، تدل على الوجوب، وما تدل على عدم الوجوب، لكن لعلَّ أسبابَ القول بعدم الوجوب من مصالح العباد، من مصالحهم وحاجاتهم فيما بينهم، فإذا تسامحوا ..... وهبه إيَّاه، وأعطاه إيَّاه، تسامحوا، فلا بأس بالكتابة لمصلحتهم جميعًا، لمصلحة الدَّائن، فإذا تسامح فلا حرج ...... تسامح بأن أعطاه المالَ، ما أعلم في هذا من علَّةٍ ..... عدم الوجوب؛ لأنَّه حقٌّ للمخلوق.

وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّهُ وَأَذِنَ فِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ في الثِّمار السّنة والسّنتين وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ.

وَقَوْلُهُ: فَاكْتُبُوهُ أمرٌ منه تعالى بالكتابة لِلتَّوْثِقَةِ وَالْحِفْظِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لَا نَكْتُبُ، وَلَا نَحْسُبُ، فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّ الدَّيْنَ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلى كتابةٍ أصلًا؛ لأنَّ كتابَ الله قَدْ سَهَّلَ اللَّهُ وَيَسَّرَ حِفْظَهُ عَلَى النَّاسِ، وَالسُّنَنُ أَيْضًا مَحْفُوظَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِكِتَابَتِهِ إِنَّمَا هُوَ أَشْيَاءُ جُزْئِيَّةٌ تَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ، فَأُمِرُوا أَمْرَ إِرْشَادٍ، لَا أَمْرَ إِيجَابٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَنِ ادَّانَ فَلْيَكْتُبْ، وَمَنِ ابْتَاعَ فَلْيُشْهِدْ.

الشيخ: والمعنى أنَّ الغالب على الأُمَّة عدم الكتابة، الأُمّية، هذا هو الغالب في الأمة، والدَّين لا يحتاج إلى ذلك في الأغلب، فلما تغير الناسُ وكثر الناسُ وكثرت المشاكل والنِّسيان دعت الحاجةُ إلى الكتابة: كتابة الحديث، وكتب القرآن وحفظه؛ حتى لا يُنْسَى شيءٌ منه، فالأصل في الدَّين هو حفظه في القلوب، وضبطه في القلوب، هذا هو الأصل .....

ويحتمل أن يُقال: أنَّ مراد النبي ﷺ فيما يتعلّق بحساب الشّهور، ليس المراد .....، وإنما المراد ما يتعلّق بضبط الشّهور، وليس بحاجةٍ إلى الكتاب، هذا معول على شيءٍ يُرى بالأبصار في السَّماء، متى رُئِيَ في السماء ثبت الشهر، فليسوا بحاجةٍ إلى الكتابة، وليس المراد الدَّين كلّه، وإنما ..... شيئًا من جهة ما يتعلّق بالحسابات، لا بما يتعلق بالمداينات، ولا في حفظ الحديث، ولا في حفظ القرآن، هذا شيءٌ آخر، فيُحمل قوله ..... من جهة مسألة الشّهور والحسابات.

وإن أُريد العموم فالمراد أنَّ هذا الدَّين لا يعتمد على ..... الكتابة، وإنما يعتمد على حفظ القلوب، وإقبالها على الله، وخضوعها لأمره الموضّح في كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والتي حفظها الصّحابة ونقلوها لمن بعدهم، نعم.

وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ الْمَرْعَشِيَّ كَانَ رَجُلًا صَحِبَ كَعْبًا، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ مَظْلُومًا دَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ؟ فَقَالُوا: وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: رَجُلٌ بَاعَ بَيْعًا إِلَى أَجَلٍ، فَلَمْ يُشْهِدْ، وَلَمْ يَكْتُبْ، فَلَمَّا حَلَّ مَالُهُ جَحَدَهُ صَاحِبُهُ، فَدَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَصَى رَبَّهُ.

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283].

والدليل على ذلك أيضًا الحديث الذي حُكِيَ عن شرع مَن قبلنا مُقرَّرًا في شرعنا، ولم يُنكر عدم الكتابة والإشهاد.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِشُهَدَاءَ أُشْهِدُهُمْ. قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: ائْتِنِي بِكَفِيلٍ. قَالَ: كَفَى بالله كفيلًا. قال: صدقتَ. فدفعها إليه إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَقَدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذي أجَّله فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مَعَهَا إِلَى صَاحِبِهَا، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا الْبَحْرَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي اسْتَسْلَفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وسألني شَهِيدًا فقلتُ: كفى بالله شهيدًا، فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَإِنِّي قَدْ جَهِدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ بِهَا إِلَيْهِ بِالَّذِي أَعْطَانِي فَلَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا، وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا. فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَطْلُبُ مَرْكَبًا إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا يَجِيئُهُ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ.

ثُمَّ قَدِمَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ، فَأَتَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ شيئًا؟ قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قبل هذا الَّذِي جِئْتُ فِيهِ؟ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ بِهِ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِأَلْفِكَ رَاشِدًا.

الشيخ: هذه من آيات الله العظيمة، علم اللهُ صدقَه وحرصَه على الأمانة فيسّر أمره، وحفظ عليه ماله، وبلَّغ ذاك تلك الخشبة، وهذا الكلام يعني ..... أنها ما تصل إليه، لكن مما في قلبه من الحرص رمى؛ حرصًا منه على أداء الحقِّ، ثم جاء بالمال مُعرضًا عن الخشبة؛ لأنَّه مُعتقدٌ أنها ما تصل، لكن مما في نفسه قال: أستودعك إياها ..... من البراءة واستيداع الله، ووصلت الخشبة.

والنبي أقرَّ هذا ولم يُنكره، فهو حُجَّة على أنَّ الكتابةَ غيرُ واجبةٍ والإشهاد، ولكنَّه مُستحبٌّ؛ لأنَّ الرسولَ أقرَّه ولم يُنكره، وشرع مَن قبلنا شرعٌ لنا إذا لم يرد شرعُنا بخلافه.

وفيه أيضًا دلالة على أنَّ القرضَ ينبغي الإشهادُ عليه والكتابة؛ لأنَّه نوعٌ من الدَّين، كما في عموم: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283]، عموم هذه الآية يقتضي عدم الوجوب.

وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، فَقَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ بن سعدٍ .. فذكره، ويُقال: إنَّه فِي بَعْضِهَا عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ صَالِحٍ -كَاتِبِ اللَّيْثِ- عنه.

الشيخ: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].

س: هل يجوز لمسلمٍ أن يُعطي قرضًا لمشركٍ أو كافرٍ؟

ج: يجوز له أن يُعطيه عطاءً، ما هو بقرضٍ، يجوز أن يُعطي عطاءً أعظم من القرض، إذا كان ما بيننا وبينهم حربٌ، في أمنٍ، مُستأمنٍ، أو مُعاهدٍ، مثلما قال الله جلَّ وعلا: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8] عطاء، والقرض من باب أولى.