المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجَّلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بحضراتكم إلى درسٍ جديدٍ من دروس شرح كتاب "المنتقى من أخبار المصطفى ﷺ" للعلامة مجد الدِّين أبي البركات عبدالسلام ابن تيمية الحراني، سوف يتولى الشَّرح والتعليق على هذه الأحاديث سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.
مع مطلع هذا اللقاء نُرحب بالشيخ عبدالعزيز، فأهلًا ومرحبًا بسماحة الشيخ.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم.
بَابُ الْحَتِّ وَالْقَرْصِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْأَثَرِ بَعْدَهُمَا
21- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: إحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟ فَقَالَ: تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذا الحديث يُبين ما ذكره المؤلفُ في حكم ما يُصيب الثوبَ من دم الحيض أو غيره من الدِّماء، بيَّن النبيُّ ﷺ لأسماء لما سألته: أنها تحتّه بإصبعها وظفرها، ثم تقرضه، ثم تنضحه بالماء، ثم تُصلي فيه، والمعنى: أنها تحكّه بظفرها إذا كان له جرمٌ حتى يزول، ثم تقرصه بالماء، يعني: تحتّه بالماء محله حتى يزول الأثر، ثم تغسله بالماء، ثم تُصلي فيه، هذا هو حكم النَّجاسة من الدم وغيره: إذا كان له جرمٌ يُحتُّ، وإن كان ما له جرمٌ يُغسل محله حتى يغلب على الظنِّ حصول الطَّهارة.
وإذا بقي شيءٌ من الأثر ما يزول بالغسل ما يضرّ كما يأتي.
فالمقصود أنَّ على المرأة وهكذا غيرها ممن يُصيبه الدم أو النَّجاسات أن يُزيل أثر النَّجاسة، إن كان له جرمٌ يُزيله بظفره أو بعودٍ أو بعظمٍ أو غيره حتى يزول، ثم يغسل محلّه بالماء، وينضحه بالماء، وبهذا يطهر المحل: الثوب أو غيره.
الشيخ: وهذا أيضًا يدل على ما دلَّ عليه حديث أسماء، وأنَّ المرأة تغسل ما أصاب الثوبَ من أثر الدم ويكفي ذلك والحمد لله، ثم تُصلي فيه، بعض النساء قد يكون عندهن وساوس؛ لا ترضى إلا أن تغسل الثوبَ كله، وهذا لا يلزم، الواجب غسل ما أصابه الدم فقط، فالنقط التي أصابت الثوب تُغسل، ثم تُصلي المرأةُ في ثوبها، وإن غسلته فلا بأس، لكن لا يجب غسله، الواجب غسل ما أصابه الدم فقط، أما إذا غسلت الثوب للنَّظافة فلا حرج، لكن لا لاعتقاد أنَّ هذا لا بدَّ منه، لا، الواجب غسل أثر الدم فقط، وهكذا أثر البول لو كان بولًا أو غيره من النَّجاسات، ثم يُصلي الإنسانُ في الثوب، وتُصلي المرأةُ في الثوب الذي غسل منه أثر النَّجاسة والحمد لله، ولا يلزمها غسله كله.
فإذا كان هناك بقية لأثره فإنها لا تضرّ البقية إذا كانت لا تزول بالغسل، إذا كان هناك أثر من صفرةٍ أو ..... لكن لا يزول بالغسل، والعين زالت، فإنَّ هذا لا يضرّ.
الشيخ: وهذا كالذي قبله يدل على أنه يُغسل أثر الدَّم فقط ويكفي، وتُصلي المرأةُ في ثوبها الذي حاضت فيه أو نفست فيه إذا أُزيل أثر الدم بالغسل، وإذا غيرت مكانه إن كان بقي له أثر بشيءٍ من الطيب -من زعفرانٍ أو شيءٍ من الأشياء الطيبة- فلا بأس.
المقصود أنَّ الواجب غسل أثر النَّجاسة حتى لا يبقى لها عين ولا أثر، فإذا كان هناك أثر لم يمكن غسله ولا زواله فهذا لا يضره، المقصود أن عينها زالت، عين النجاسة، هذا الأثر الذي لا يزول بالغسل لا يضرّ المرأة إذا صلت بالثوب الذي فيه الأثر، وإذا غيرته بشيءٍ من طيبٍ أو نحوه فلا بأس.
المقدم: لو أن المرأة لم تحته، بل اكتفت بغسله، ما حكم عملها؟
الشيخ: إذا زال الأثرُ لا بأس، لكن الحتُّ أبلغ، لكن لو غسلته حتى زال فالحمد لله، المقصود إزالته، فإذا غسلته بفركٍ ونحوه من دون حكٍّ بالظفر، فركته حتى زال كفى والحمد لله.
المقدم: هل دم الحيض أكثر نجاسة من البول؟
الشيخ: لا يظهر لي فرق، البول نجس، والدم نجس، كلاهما نجس، كلاهما مأمور بغسل ما أصاب الإنسان منه، فالبول من فضلات بني آدم، والحيض كذلك، كلاهما نجس، لكن قد يقال: إن البول أشد نجاسة؛ لأنه لا يُعفا عن قليله ولا عن كثيره، أما الدم فقد يُعفا عن قليله ويسيره، مثل: يسير الرعاف وما قد يقع في الأسنان أو في العين من أثر الدم يُعفا عنه، هذا يدل على أنَّ البول أشد.
بَابُ تَعَيُّنِ الْمَاءِ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ
24- عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عمرٍو: أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفْتِنَا فِي آنِيَةِ الْمَجُوسِ إذَا اضْطُرِرْنَا إلَيْهَا، قَالَ: إذَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهَا فَاغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ وَاطْبُخُوا فِيهَا رَوَاهُ أَحْمَدُ.
الشيخ: هذا يدل على تعين الماء لإزالة النَّجاسة، قال: اغسلوها بالماء، كذلك ما تقدم من الأحاديث كلها تدل على أنَّ النَّجاسات تُزال بالماء، لا بمجرد الحكِّ أو الفرك أو نحوه، لا، لا بدَّ من الماء في الأواني، وفي الثياب، وفي الأرض.
ولما بال أعرابيٌّ في المسجد أمر النبيُّ أن يُصَبَّ على بوله سجل من ماءٍ، فالماء يكون طهرةً للأرض، وطهرةً للملابس، وطهرةً للأواني.
وإذا احتاج الإنسانُ إلى آنية المجوس أو غيرهم من الكفرة غسلها واستعملها والحمد لله؛ لأنها قد يكون فيها أثر من ذبائحهم الميتة، وقد يكون فيها أثر من الخمر، فإذا غسلها يكون فيه الاحتياط لطهارتها.
الشيخ: مثلما تقدم لا بأس أن يستعمل الإنسانُ أواني الكفرة من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، إذا احتاج إليها لا بأس، ودواؤها الغسل، إذا شكَّ في طهارتها غسلها والحمد لله، والغسل بالماء يُزيل آثار النَّجاسة، لو كان فيها أثر نجاسةٍ من ميتات، أو أثر الخمر، أو ما أشبه ذلك؛ الماء يُزيل ذلك والحمد لله؛ ولهذا قال: ارحضوها بالماء، وإن وجد غيرها فالحمد لله، أحسن وأكمل، وإن غسلها كفى والحمد لله.
المقدم: لو أردنا أن نسأل عن حكم آنية المشركين غير المستعملة؟
الشيخ: تُستعمل لا بأس، وإذا كان يخشاها غسلها احتياطًا لا بأس، وإلا فالأصل الطَّهارة، سواء كانوا يهودًا أو نصارى أو مجوسًا أو وثنيين أو غيرهم، إن كانت جديدةً لم تُستعمل فلا بأس باستعمالها والحمد لله، إنما يخشى منها وجود النَّجاسة، فإذا تيقن المسلمُ أنه لا نجاسةَ فيها استعملها، وإن شكَّ غسلها.
المقدم: ما صحة مَن يقول بأنَّ النجاسة تزول بأي شيءٍ ولو بدون ماءٍ؟
الشيخ: هذا قول مرجوح، قاله بعضُ أهل العلم، لكنه قول مرجوح، والصواب أنَّ النَّجاسات لا تزول إلا بالماء، إلا فيما أذن فيه النبيُّ: كالنَّعلين إذا وطئ بهما الأذى، طهورهما التراب، وذيل المرأة إذا مرت به على أرضٍ رديئةٍ، ثم مرت به على أرضٍ طيبةٍ، صار الثاني مُطهرًا لثوبها من الأول، وهذا مُستثنًى؛ لمسيس الحاجة إلى ذلك، وهذا من لطف الله، ومن تيسيره سبحانه: أن الخفَّ والنَّعل وذيل المرأة إذا علق به شيءٌ يُطهره ما بعده، وإذا كان بالنَّعل شيءٌ أو الخفّ حكَّه قبل دخوله المسجد حتى يزول ما به من الأذى.
المقدم: نود تعريفًا لهذا العنوان يا سماحة الشيخ؟
الشيخ: يعني: بالمكاثرة بالماء، يعني: يصبّ عليه ماءً أكثر من النَّجاسة، مثلما صبَّ النبيُّ على بول الأعرابي، المكاثرة: هي أن يصبَّ عليه أكثر من النَّجاسة، البول مثلًا قدر فنجان أو فنجانين، يصبّ عليه من الماء أكثر من ذلك، يُكاثره.
الشيخ: هذا الحديث الصحيح يدل على رفقه ﷺ وحُسن أخلاقه وشمائله عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، فالغالب على الأعراب الجهل وعدم البصيرة.
فجاء ذات يوم بعضُ الأعراب وبال في المسجد، والناس عند النبيِّ عليه الصلاة والسلام ينظرون، فقاموا إليه، فقال: دعوه؛ لأنه لو قام وعليه ..... لربما نجَّس بقاعًا كثيرةً، ونجَّس ثيابه، فقال: دعوه حتى ينتهي، فلما انتهى قال النبيُّ ﷺ: صبُّوا على بوله سجلًا من ماءٍ، أو ذنوبًا من ماءٍ، فإنما بُعثتم مُيسرين، ولم تُبعثوا مُعسِّرين.
ثم دعا الأعرابي وعلَّمه، قال: إنَّ هذه المساجد لا يصلح فيها شيءٌ من هذا البول، إنما بُنيت لذكر الله، وإقامة الصلاة، وقراءة القرآن، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فعلَّمه بالعبارات الحسنة، والكلام الطيب، واللين عليه الصلاة والسلام، فهذا هو المشروع لأهل العلم وللدعاة إلى الله: أن يرفقوا بالجهلة، وأن يُعلموهم؛ حتى يقبلوا الحقَّ؛ حتى تلين قلوبهم، وإذا وقع منهم شيءٌ من مثل هذا أُزيل: نجاسة وقعت في المسجد أو غير ذلك أُزيل، فالنَّجاسة يصبّ عليها الماء، وإن كان هناك شيء آخر كأن ألقوا في المسجد شيئًا مما لا ينبغي يُزال والحمد لله.
الشيخ: وهذا كالذي قبله فيه الدلالة على حُسن خلقه ﷺ ورفقه ورحمته، كما علمه الله، قال الله له: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، ويقول النبي ﷺ: عليكم بالرفق؛ فإن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه، وتقدم قوله ﷺ: إنما بُعثتم مُيسرين، ولم تُبعثوا مُعسرين.
هذا الأعرابي جاهل، بال في المسجد، فأمر النبي ﷺ أن يصبّ على بوله سجلٌ من ماءٍ، ودعاه وعلَّمه وقال: إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول والقذر، وإنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، فهذا يؤثر في نفس الأعرابي الأثر العظيم، وينتفع به، ويكون سببًا لقبوله الحقّ وانصياعه له.
وفي بعض الروايات أنه قال بعد ذلك: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا؛ لما رأى من لطفه ورفقه عليه الصلاة والسلام، فقال النبي: لقد حجرتَ واسعًا.
فالمقصود أنَّ الرفق من الدُّعاة إلى الله ومن المعلمين أمر مطلوب، الجاهل في حاجةٍ إلى الرفق في تعليمه، واللين وعدم الشدة؛ حتى يفهم الحقَّ، وحتى ينقاد للحقِّ.
المقدم: أحسن الله إليكم، في الحديثين السابقين دروس مُستفادة للدعاة من حديث الأعرابي، حدثونا عن هذه الدروس؟
الشيخ: نعم، فيه الدلالة مثلما تقدم على أنه ينبغي للدعاة إلى الله والمعلمين الرفق، وبيان الحق بالأدلة الشرعية، مع الرفق وعدم الشدة؛ لأنَّ هذا أقرب إلى قبول الحقِّ وعدم النفرة منه، والدعاة إلى الله مُعلمون مُبلغون عن الله جلَّ وعلا، فهم خلفاء الرسل، فالواجب عليهم الرفق في دعوتهم، وإيضاح الحق بالأدلة، وعدم الشدة على الجاهل؛ حتى يفهم الحق، وحتى يقبله؛ تأسيًا بالنبي ﷺ في خلقه عليه الصلاة والسلام.
ثم مع هذا كله يُزال المنكر، ويُعلم الجاهل، وإذا كان مثل البول في المسجد صبّ عليه الماء، وإذا كان منكرًا آخر بيَّن له، مثل: إسبال الثياب، يُقال: يا عبدالله، ارفع ثيابك، لا يجوز الإسبال، حدّ الثوب الكعب، حدّ السَّراويل والثوب والإزار والبشت الكعب؛ لقوله ﷺ: ما أسفل من الكعبين فهو في النار رواه البخاري في "الصحيح"؛ ولقوله ﷺ: ثلاثة لا يُكلِّمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يُزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان بما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب أخرجه مسلم في "الصحيح".
فالإسبال مُحرَّم منكر، وإذا كان مع نية التَّكبر وقصد التَّكبر صار أعظم في الإثم.
فالواجب على كل مسلمٍ أن يحذر الإسبال، وأن يرفع ثيابه، وعلى الدُّعاة إلى الله أن يُعلموا بالحكمة والكلام الطيب والأسلوب الحسن؛ لإيضاح الحقّ، والتنفير من الباطل، وعدم الشدة في ذلك؛ تأسيًا بالنبي عليه الصلاة والسلام في ذلك، إلا مَن ظلم؛ فالظالم له عقاب، وله أسلوب آخر، كما قال الله تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]، فالظالم المتعدي الذي لا يقبل الحقَّ يُعامل بما يستحق من التَّأديب.
المقدم: إذًا استخدام الشِّدة والغلظة في الدَّعوة إلى الله ..؟
الشيخ: لا تجوز إلا عند الحاجة إليها؛ إذا ظلم المدعو وكابر.
المقدم: ما مقدار الماء الكافي لإزالة النَّجاسة على الأرض؟
الشيخ: مُكاثرتها مثلما قال ﷺ: صبوا على بوله سجلًا من ماءٍ يعني: دلوًا من ماءٍ، الدلو أكثر من مائه، يعني: يُصبُّ على البول أكثر من البول حتى يُزيل ذلك، فإذا صبّ على النَّجاسة المائية أكثر منها، وإن كان لها جرمٌ أُزيل الجرم وأُخرج، وصبّ على محل الجرم من الرطوبة التي في محلِّه ما هو أكثر من الماء؛ إزالةً لأثره.
المقدم: هل الأعرابي المذكور في الحديث الثاني هو صاحب الحديث الأول؟
الشيخ: الله أعلم.
بابُ مَا جَاءَ فِي أَسْفَلِ النَّعْلِ تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ
28- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ بِنَعْلِهِ الْأَذَى فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ، وَفِي لَفْظٍ: إذَا وَطِئَ الْأَذَى بِخُفَّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ. رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد.
29- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إذَا جَاءَ أَحَدُكُم الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا، فَإِنْ رَأَى خَبَثًا فَلْيَمْسَحْهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.
الشيخ: وهذا مثلما تقدم أنَّ النَّعل والخفَّ تحصل طهارتهما بالتُّراب، هذا مما استُثني لهذين الحديثين: حديث أبي هريرة، وأبي سعيدٍ.
في حديث أبي هريرة: إذا وطئ أحدُكم الأذى بخفَّيه فطهورهما التراب.
وفي حديث أبي سعيدٍ: إذا أتى أحدُكم المسجدَ فليقلب نعليه، فإن رأى فيهما خبثًا فليمسحه ثم ليُصلِّ فيهما، هذا هو الواجب على المسلم، إذا رأى في نعليه أو خُفَّيه أذًى فإنه يمسحه بالتراب حتى يُزيله، والطهور له طهور في هذا، فإذا أزال ذلك الأثر جاز له الصلاة في الخفِّ والنَّعل، وإن خلعهما عند باب المسجد أو في مكانٍ آخر فلا بأس، ولا سيما اليوم عند وجود الفرش، قد يكون خلعهما أولى؛ لئلا يُقذر الفرش بالتراب فيُقذر ذلك على الناس، أما المساجد التي ليس فيها فرش: كالتراب والحصباء والرمل، فهذه لا تتأثر بذلك، كما كان الحالُ في عهد النبيِّ ﷺ، وفي هذه البلاد قبل سنوات.
المقصود أن المؤمن إذا وطئ شيئًا بخفَّيه أو نعليه فإنه يمسحه بالتراب، ويحكه بالتراب، ويكفي، وهكذا المرأة إذا أصاب ذيلها شيءٌ من النَّجاسة فإنها إذا مرت به على أرضٍ طيبةٍ صار طهورًا له.
المقدم: من هذا نسأل: ما حكم الصلاة في النِّعال؟
الشيخ: لا بأس بها، في حديث أبي سعيدٍ قال: ثم صلوا فيها بعد مسحها بالتراب، وكان يُصلي في نعليه عليه الصلاة والسلام، وربما خلعهما وصلَّى حافيًا عليه الصلاة والسلام، الأمر واسع.
المقدم: الآن كما ذكرتُم المساجد الآن مفروشة والحمد لله، فهل يُناسب الصلاة في النَّعل؟
الشيخ: الأقرب والله أعلم أنه في هذه الحال خلعها أولى؛ لئلا يُقذر الفرش بالتراب والأوساخ التي تعلق بالنعل؛ فينفر الناسُ من الصلاة في المسجد، بخلاف الوقت السابق حين كانت المساجدُ ليس فيها إلا التراب أو الرمل أو الحصباء، فإنَّ هذا لا يتأثر بالنَّعل.
المقدم: مَن يتسرع في إنكار ما يجهله ما هي عواقبه؟
الشيخ: لا يجوز للإنسان أن يتسرع في إنكار ما يجهل، من شرط الإنكار: العلم، فلا يجوز لأحدٍ أن يُنكر بغير علمٍ، بل يتعلم أولًا ثم يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يدخل في شيءٍ لا يعلمه؛ لأنَّ الله حرَّم القول عليه بغير علمٍ، وأخبر أنَّ الشيطان يأمر بذلك؛ يأمر بالقول عليه بغير علمٍ، فالواجب الحذر من ذلك.
بَابُ نَضْحِ بَوْلِ الْغُلَامِ إذَا لَمْ يُطْعَمْ
30- عَنْ أُمِّ قَيْس بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُل الطَّعَامَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَغْسِلْهُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
الشيخ: وهذا يدل على أنَّ الصبي الصغير الذي لا يأكل الطعام إذا بال على ثوب الإنسان كفى أن يصبَّ عليه الماء، من دون حاجةٍ إلى فركٍ وغسلٍ، بل إمرار الماء عليه كافٍ، كما فعل النبيُّ ﷺ، أما إذا كان يأكل الطعام فإنه يُغسل، وهكذا الجارية: بولها يُغسل مطلقًا، أما الغلام الصغير إذا كان لا يأكل الطعامَ فبوله يكفي إمرار الماء عليه، من دون فركٍ وعصرٍ، كما فعله النبيُّ عليه الصلاة والسلام.
وفي الحديث الآخر: بول الغلام يُنضح، وبول الجارية يُغسل، فالجارية يُغسل بولها مطلقًا، أما الغلام ففيه تفصيل: إن كان يأكل الطعام ويتغذَّى بالطعام وجب غسل بوله كالجارية، وإن كان لا يتغذَّى بالطعام، وإنما يتغذَّى بلبن أمه فإنه يكفي النَّضح؛ نضحه بالماء، وإجراء الماء عليه، من دون حاجةٍ إلى فركٍ وعصرٍ.
31- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: بَوْلُ الْغُلَامِ الرَّضِيعِ يُنْضَحُ، وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَهَذَا مَا لَمْ يُطْعَمَا، فَإِذَا طَعِمَا غُسِلَا جَمِيعًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
الشيخ: وهذا هو الصواب كما تقدم: بول الغلام يُنضح، وبول الجارية يُغسل، فإذا طعم -صار يتغذَّى بالطعام- صار مثل غيره يُغسل بوله.
الشيخ: نعم كالذي قبله، هذا دليل على أنَّ الماء يكفي إجراؤه على البول إذا كان الطفلُ صغيرًا لم يأكل الطعام، ومعنى "يُحنِّكه" يعني: يرفع لهاته بإصبعه، وكان الصحابةُ يأتون له بالصبيان للتَّحنيك؛ لما جعل الله في يده وريقه من البركة، فلما جيء به إليه بال على ثوبه، فرشَّه بالماء، صبَّ عليه الماء ولم يغسله عليه الصلاة والسلام.
وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ: وَلَمْ يَغْسِلْهُ.
وَلِمُسْلِمٍ: كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ وَيُحَنِّكُهُمْ، فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَال عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعهُ بَوْلَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ.
الشيخ: كما تقدم، ومعنى "يُبَرِّك عليهم" يعني: يدعو لهم بالبركة، يقول: "اللهم بارك فيه، بارك الله فيه"، ويُحنِّكهم: يرفع اللَّهاة بإصبعه مع تمرةٍ في الفم، كما فعل مع عبدالله بن أبي طلحة، أخي أنس بن مالك من أمه، وهذا خاصٌّ به، ولا يُذهب بالصبيان إلى الناس للتَّبريك، وإنما هذا كان يفعل لما جعل الله في يده وريقه من البركة عليه الصلاة والسلام، أما الآن فتُحنِّكه أمه، أو أبوه، أو أخوه، والحمد لله.
المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.