باب نضح بول الغلام إذا لم يطعم

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بحضراتكم إلى درسٍ جديدٍ من دروس شرح كتاب "المنتقى من أخبار المصطفى ﷺ" للعلامة مجد الدِّين أبي البركات عبدالسلام ابن تيمية الحراني، سوف يتولى الشرح والتعليق على هذه الأحاديث سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.

مع مطلع هذا اللقاء نُرحب بالشيخ عبدالعزيز، فأهلًا ومرحبًا بسماحة الشيخ معنا في هذا اللِّقاء.

الشيخ: حيَّاكم الله وبارك فيكم.

المقدم: سماحة الشيخ، وقف بنا الحديثُ عند باب نضح بول الغلام إذا لم يطعم، ووقفنا عند حديث أبي السّمح:

33- عَنْ أَبِي السَّمْحِ -خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذا الحديث كالذي قبله؛ حديث عليٍّ: يُغسَل من بول الجارية، ويُنضح من بول الغلام. هذا هو السنة: البول إذا كان من غلامٍ لم يأكل الطعام يُنضح ويُجرى عليه الماء، أما الجارية فيُغسل بولها مطلقًا، سواء كانت تأكل الطعام أم لا؛ لما تقدم في الأحاديث الصَّحيحة، ولهذا الحديث، أما إذا أكل الطعامَ الصبيُّ فإنه يُغسل بوله كالجارية.

وهذا الحديث صحيح كالذي قبله، ولما بال بعضُ الأطفال على ثوب النبيِّ ﷺ أمر فصبّ عليه الماء، أجرى عليه الماء ولم يغسله عليه الصلاة والسلام كما تقدم.

34- وَعَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْخُزَاعِيَّةِ قَالَتْ: أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِغُلَامٍ فَبَالَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَنُضِحَ، وَأُتِيَ بِجَارِيَةٍ فَبَالَتْ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَغُسِلَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

الشيخ: وهذا كالذي قبله: يُغسل من بول الجارية، ويُنضح من بول الغلام.

وهذا يدل على أنَّ بولها أغلظ نجاسة، بول الجارية أغلظ نجاسة؛ فلهذا يُغسل مطلقًا، ولو كانت لا تأكل الطعام، أما بول الصبي فإنه يكفي نضحه.

وقال بعضُ أهل العلم: لعل العلة في ذلك والحكمة في ذلك: أن الغلام يكثر حمله ونقل أقاربه له وهو صغير، ويقع منه البول؛ فيسَّر الله في ذلك واكتفى سبحانه بالرشِّ والنَّضح، أما الجارية فحمل الناس لها أقلّ، فوجب غسل بولها.

وبكل حالٍ الله أعلم بالحكمة.

وقال آخرون: إنَّ بول الجارية لا يشقّ غسله؛ لأنه يجتمع في مكانٍ، وبول الصبي قد ينتشر فيشقّ غسله، فكفى نضحه.

وهذا ليس ببعيدٍ، قول وجيه، ولكن لا يعلم الحكمة على الحقيقة إلا الله، وعلينا أن نعمل بما شرعه الله وإن لم نعرف الحكمة، فالبول من الغلام يُنضح ويُرشّ، ولا يحتاج إلى غسلٍ وفركٍ ما دام لم يأكل الطعام، أما الجارية فيُغسل بولها مطلقًا، والحكمة عند الله، هو الذي يعلم كل شيءٍ ﷺ.

- وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: بَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي حِجْرِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي ثَوْبَكَ وَالْبَسْ ثَوْبًا غَيْرَهُ حَتَّى أَغْسِلَهُ، فَقَالَ: إنَّمَا يُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ، وَيُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: وهذا كالذي قبله يدل على أنَّ بول الغلام يُنضح، وبول الجارية يُغسل، إذا كان لم يأكل الطعام، أما إذا أكل الطعام غُسلا جميعًا، سواء كان الطفلُ من أشراف الناس أو من غيرهم، الحكم واحد، الحسين بن عليٍّ من أهل البيت: أمه فاطمة رضي الله عنهما، والحكمة واحدة في جميع أطفال المسلمين، من بني هاشم، أو من غيرهم، الذي لا يأكل الطعامَ يُرشُّ بوله ويُنضح، والذي يأكل الطعام يُغسل، والجارية يُغسل بولها مطلقًا.

المقدم: أحسن الله إليكم، لو أردنا أن نُجيب على سائلٍ يقول: لم خصّ الذكر بالرشِّ فقط دون الجارية؟

الشيخ: يُقال: الله أعلم، علينا أن نمتثل حكم الله، وأن نأخذ بحكم الله وإن لم نعرف العلة والحكمة، علينا السمع والطاعة.

المقدم: ما الحكمة من تحنيكه للأطفال ﷺ؟ وهل نفعله نحن؟

الشيخ: التَّحنيك مشروع مطلقًا، لكن يأتون بأطفالهم إليه؛ لما جعل الله في يده من البركة، وريقه من البركة، فإنه لما أُتي إليه بعبدالله بن أبي طلحة قال: هل معكم تمر؟ قالوا: نعم، فأخذ التمرةَ ومضغها ثم جعلها في في الصبي، ثم حنَّكه، يعني: رفع حنكه بأصبعه، والتَّحنيك يعرف الناسُ رفع حنك الصبي الصغير بالأصبع.

المقدم: ما كيفية الرشِّ؟ وما مقدار الماء الذي يُغسل به البول؟

الشيخ: يكون أكثر منه، يكون الماءُ أكثر من البول، يُرشّ بماءٍ أكثر منه، كما صبّ على بول الأعرابي ماء أكثر منه لما بال في المسجد.

بَابُ الرُّخْصَةِ فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُه

- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ -أَوْ قَالَ: عُرَيْنَةَ- قَدِمُوا على رسول الله ﷺ، فَاجْتَوَوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: وهذا يدل على أنه يُتداوى بأبوال الإبل، وأنها ليست بنجسٍ؛ ولهذا هؤلاء الذين قدموا المدينة من عكل أو عُرينة واستوخموها وعظمت بطونهم، أمرهم النبيُّ ﷺ أن يلحقوا بإبل الصَّدقة: فيشربوا من أبوالها وألبانها، فذهبوا هناك وفعلوا: شربوا من أبوالها وألبانها، وصحُّوا، فدلَّ ذلك على أنَّ أبوالها يُتداوى بها من تضخم البطن، ومن التوخم الذي قد يقع بسبب بعض الأشياء، وأنَّ بولها طاهر، وأنَّ لبنها دواء أيضًا، فإن هؤلاء شربوا من أبوالها وألبانها فصحُّوا، ثم قتلوا راعي النبي واستاقوا الإبل، وخانوا الله ورسوله بعدما عافاهم الله، فبعث النبيُّ في آثارهم فأُدركوا وجيء بهم إلى النبيِّ ﷺ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، وتركهم في الحرة في الشمس حتى ماتوا؛ لأنهم في الحال قُطَّاع طريقٍ، محاربون لله ورسوله، نسأل الله العافية.

والمقصود من هذا أنَّ شرب أبوال الإبل مما يُتداوى به، وهكذا ألبانها، وأنها طاهرة، أبوالها طاهرة، وهكذا كل مأكول اللحم: الغنم والبقر والظباء وغيرها من مأكول اللحم بوله طاهر، وروثه طاهر؛ لأنَّ الله أباح أكله، فبوله وروثه طاهر، بعر الغنم وروث الإبل وروث البقر ليس بنجسٍ؛ ولهذا أمر هؤلاء العُرنيين لما اجتووا المدينة وعظمت بطونهم أمرهم أن يشربوا من أبوال الإبل ومن ألبانها، فجعل الله في هذا صحةً لهم وشفاءً لهم.

وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ.

الشيخ: هذا شيء آخر، مرابض الغنم يُصلَّى فيها لأنها طاهرة، بعرها طاهر، وأما معاطن الإبل فلا يُصلَّى فيها؛ لأسبابٍ أخرى، هي طاهرة وبولها طاهر، لكن لأسبابٍ أخرى لا يُصلَّى في معاطنها -الإبل.

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَذْيِ

38- عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: كُنْتُ أَلْقَى مِنَ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً، وَكُنْتُ أُكْثِرُ مِنْهُ الِاغْتِسَالَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: إنَّمَا يَجْزِيكَ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِمَا يُصِيبُ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَالَ: يَكْفِيكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَح بِهِ ثَوْبَك حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَلَفْظُهُ قَالَ: كُنْتُ أَلْقَى مِنَ الْمَذْيِ عَنَاءً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَجْزِيك أَنْ تَأْخُذَ حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ فَتَرُشَّ عَلَيْهِ.

39- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأَمَرَ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: فِيهِ الْوُضُوءُ. أَخْرَجَاهُ.

وَلِمُسْلِمٍ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ.

وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ.

40- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ بَعْدَ الْمَاءِ، فَقَالَ: ذَلِكَ مِنَ الْمَذْيِ، وَكُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي، فَتَغْسِلُ مِنْ ذَلِكَ فَرْجَك وَأُنْثَيَيْك، وَتَوَضَّأْ وُضُوءَك لِلصَّلَاةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها تدل على أنَّ المذي نجس، وأنه يُغسل ما أصاب الذكر، ويُغسل مع هذا الأُنثيان -الخصيتان- ولا يجب فيه الغسل؛ لأنَّ المذي ماء لزج يخرج على أثر الشَّهوة، فيجب غسله، أما المنهي فهو ماء غليظ يخرج عند الشَّهوة بدفقٍ، فهذا يُوجب الغسل، أما المذي: وهو الماء اللَّزج الذي يخرج على طرف الذَّكر عند تحرك الشَّهوة؛ فهذا يجب غسله فقط، كما أمر النبيُّ ﷺ: يُغسل الذكر والأُنثيان، وما أصاب الثوبَ يُرشُّ بالماء، يُنضح بالماء ويكفي كما بيَّنته الأحاديث.

وفي حديث عليٍّ: يغسل ذكره ويتوضأ، وفي لفظٍ: يغسل ذكره ثم يتوضأ، وهو يدل على أنَّ الاستنجاء يكون قبل الوضوء، يستنجي: يغسل ذكره من البول ومن المذي، ويغسل دبره من الغائط، ثم الوضوء بعد ذلك؛ ولهذا ذكر العلماءُ أنه يستنجي ثم يتوضأ؛ لهذا الحديث وما جاء في معناه: اغسل ذكرك ثم توضأ.

والمذي نجس، لكن نجاسته مُخففة؛ ولهذا قال: يكفيك أن تنضح ما ترى أنه أصاب الثوب، فإذا نضحه بالماء ورشَّه بالماء كفى، يعني: ما أصاب ثوبه، وأما الذكر والأُنثيان فيُغسلان.

المقدم: سماحة الشيخ، يتساءل الكثيرُ الحقيقة من المستمعين عن الخارج من الذكر من ناحية الطَّهارة والنَّجاسة، لعلكم تُحدثونهم في ذلك؟

الشيخ: الخارج من الذكر تارةً يكون بولًا، فهذا نجس بالإجماع، يجب غسل ما أصابه، يجب الاستنجاء وغسل الذكر وغسل ما أصابه البول من فخذه أو ثوبه أو غير ذلك.

الثاني: المذي، وهو نجس أيضًا، لكن نجاسته أخفّ، فيكفي رشّ ما أصاب من الثوب أو الفخذ ونحو ذلك، إجراء الماء فقط، مع غسل الذَّكر والأُنثيين، يعني: الخصيتين.

الخارج الثالث: المني، وهو طاهر على الصحيح، فإن كان خروجه بشهوةٍ ولذةٍ وجب الغسل، وإن كان خروجه عن مرضٍ فهو كالبول يُوجب الاستنجاء فقط، وأما إن كان عن دفقٍ ولذةٍ وشهوةٍ فهو يُوجب الغسل.

أما ما يخرج من الدِّماء فهو مثل البول يُغسل من الدماء، كما لو كان به مرضٌ يخرج من دبره دم، أو من ذكره دم، فهو مثل المرأة؛ يغسل، يستنجي من الدم كما يستنجي من البول.

المقدم: إذا نفذ المذي من السروال إلى الثوب، هل يلزم غسله؟

الشيخ: كله، إذا أجرى عليه الماء كفى، وإن غسله فهو أكثر فائدة، وإن رشَّه بالماء -أجرى على الفخذ وعلى الثوب الماء- كفى.

المقدم: ما معنى: ويُعفا عن يسير المذي؟

الشيخ: هذا أُخذ من قول النبي ﷺ: انضحه بالماء، ولكن ما عليه دليل واضح، فالواجب أن يُنضح بالماء ويكفي، ليس هناك دليل على أنه يتعمد ترك شيءٍ من المذي، لكن كون النبي ﷺ أمر بالنَّضح استنبط منه بعضُ أهل العلم أنَّ الشيء اليسير يُعفا عنه، ولكن ليس فيه دليل واضح، بل يرشّ المحل بالماء، سواء كان فخذًا أو ثوبًا أو رجلًا أو غير ذلك، يُراق عليه الماء، يُصبُّ عليه الماء والحمد لله، من غير حاجةٍ إلى فركٍ وغسلٍ.

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَنِيِّ

41- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ يَذْهَبُ فَيُصَلِّي فِيهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ.

وَلِأَحْمَدَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْلُتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقِ الْإِذْخِرِ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَحُتُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ.

وَفِي لَفْظٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ: كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ الْمَاءِ.

وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْهَا: كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَغْسِلُهُ إذَا كَانَ رَطْبًا.

قُلْتُ: فَقَدْ بَانَ مِنْ مَجْمُوعِ النُّصُوصِ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ.

42- وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ عَطَاء، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ، فَقَالَ: إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ، وَإِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِإِذْخِرَةٍ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ، عَنْ شَرِيكٍ.

الشيخ: وهذه الأحاديث كلها دالة على أنَّ المني طاهر، وأنه إذا فُرِكَ وحُتَّ كفى إذا كان يابسًا، أما إذا كان رطبًا فالأفضل غسله حتى يزول أثره، كما بيَّنت عائشةُ رضي الله عنها، وكما ذكر ابنُ عباسٍ وغيره.

المقصود من هذا أنَّ المني في نفسه طاهر، وهو أصل الإنسان، هذا هو الصواب، فإن غسله الإنسانُ فهو أكمل، وإن فركه وحتَّه كفى ذلك، لكن غسله أفضل حتى يزول أثره ولا يبقى وسخٌ، فيغسل أثره من ثوبه، أو سراويله، أو إزاره، أو غير ذلك، وإن فركه وصلَّى فيه أجزأه ذلك والحمد لله.

المقدم: سماحة الشيخ، ما سبب خلاف العلماء في طهارة المني ونجاسته؟

الشيخ: أسبابه أنه خارج من موضع البول، خروجه من محلِّ البول أوجب الشَّك في طهارته ونجاسته، لكن لما أقرَّ النبيُّ ﷺ عائشةَ على فركه وعدم غسله؛ دلَّ على طهارته، لو كان نجسًا لم يكفِ فركه؛ لأنه يبقى له أثر، فدلَّ ذلك على طهارته، وأنه إذا غسل فهو أكمل، وإن فرك كفى والحمد لله.

المقدم: بالنسبة للثوب الملوث بالمني، ما حكم الصلاة فيه؟

الشيخ: الصلاة فيه صحيحة، لكن فركه أولى، أو غسله، والصلاة صحيحة؛ لأنه طاهر.

المقدم: الفرك يا سماحة الشيخ حفظكم الله في الحديث: هل الفرك الوارد في الحديث على سبيل الوجوب أم على الاستحباب؟

الشيخ: على سبيل الاستحباب، والغسل أفضل، وإن صلَّى به ولم يفرك ولم يغسل صحَّت الصلاة.

المقدم: إذا استيقظ الإنسانُ ووجد بللًا ولم يستطع تحديد هذا البلل، هل يغتسل؟

الشيخ: إن اعتقد أنه مني وجب الغسل، وإلا كفى غسله فقط، وأنه كسائر البول يغسل؛ لأنه بول، فإن علم أنه مني وجب الغسل.

 

بَابُ أَنَّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لا يَنْجُس بِالْمَوْتِ

- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً، وَفِي الْآخَرِ دَاءً رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ.

 

الشيخ: هذا يدل على أنَّ كل حيوانٍ لا نفسَ له، لا دم له، حكمه حكم الطَّهارة، ميته وحيّه: كالذباب، والجراد، وأشباه ذلك، فإذا وقع الذبابُ في الإناء شُرع غمسه، ثم طرحه؛ لأنَّ في أحد جناحيه داءً، وفي الآخر شفاءً، وكان يتَّقي بالجناح الذي فيه الدَّاء، فالسنة إذا وقع في لبنٍ أو ماءٍ يغمس ثم يُطرح، ويدل هذا على طهارته، لو كان نجسًا ما أمر بغمسه، وهكذا الجراد وأشباه ذلك من كل حيوانٍ ليس له دمٌ.

بَابٌ فِي أَنَّ الْآدَمِيَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ وَلَا شَعَرُهُ وَأَجْزَاؤُهُ بِالِانْفِصَالِ

قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُسْلِمُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا.

- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا رَمَى الْجَمْرَةَ، وَنَحَرَ نُسُكَهُ، وَحَلَقَ، نَاوَلَ الْحَلَّاقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ فَقَالَ: احْلِقْهُ، فَحَلَقَهُ، فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ وَقَالَ: اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

45- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَحْلِقَ الْحَجَّامُ رَأْسَهُ، أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِشَعرِ أَحَدِ شِقَّيْ رَأْسِهِ بِيَدِهِ، فَأَخَذَ شَعْرَهُ فَجَاءَ بِهِ إلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، قَالَ: وَكَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ تَدُوفُهُ فِي طِيبِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

46- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ ﷺ نِطْعًا فَيَقِيلُ عِنْدهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطْعِ، فَإِذَا قَامَ أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعْرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ ثُمَّ جَعَلَتْهُ فِي سُكٍّ، قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَتْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

الشيخ: وهذا يدل على طهارة الآدمي، وأن عرقه طاهر، وشعره طاهر، وبدنه كله طاهر، هذا هو الأصل، الآدمي طاهر، مسلم أو كافر، هو طاهر؛ ولهذا أمر النبيُّ ﷺ أبا طلحة أن يُوزع شعر رأسه: النِّصف بين الناس، والنصف الثاني لأبي طلحة وأهله، ولما كان في يوم الحديبية كان إذا بصق أو تنخَّم أخذوا بصاقه ونخامته ودلكوا بها أجسادهم؛ لما جعل الله فيه من البركة، وكانوا يستبقون إلى وضوئه من يديه، يتبركون بما وقع في يديه من آثار الماء.

فالحاصل أنَّ ابن آدم طاهر؛ ولهذا إذا عرق عرقه طاهر، عرقه في ثيابه، في سراويله، في بدنه، كله طاهر، والله جعل في نبينا ﷺ البركة في عرقه وشعره وما مسَّ جسده عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا وزَّع الشعر بين أصحابه.

وكانت أمُّ سليم تأخذ من عرقه، إذا نام وقام أخذت من عرقه وما يقع من شعره وتجعله في طيبها.

كل هذا يدل على طهارة ابن آدم؛ لأنَّ النبي ﷺ آدمي، فطهارة شعره وعرقه يدل على طهارة شعر وعرق بني آدم، إذ لو كان هناك فرقٌ لبيَّنه عليه الصلاة والسلام، لكن اختصّ هو بالبركة بما مسّ جسده من شعرٍ، أو عرقٍ، أو غير ذلك.

- وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَهْلِي إلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَجَاءَتْ بِجُلْجُلٍ مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ شَعْرٌ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَانَ إذَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ عَيْنٌ أَوْ شَيْءٌ بَعَثَ إلَيْهَا بِإِنَاءٍ فَخَضْخَضَتْ لَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ، فَاطَّلَعْتُ فِي الْجُلْجُلِ فَرَأَيْتُ شَعَرَاتٍ حُمْرًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

الشيخ: وهذا لما جعل الله في شعره من بركةٍ، وهي حمر مما كان يُصبغ، من آثار الصبغ والحناء، كان يصبغ شعره عليه الصلاة والسلام بالحناء والكتم، وهذا معروف من بركته في شعره وجسده، فكانت تجعله في الماء الذي يأتي إليها من هذا الشعر، ثم تأخذه؛ لما جعل الله فيه من البركة عليه الصلاة والسلام.

49- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ -وَهُوَ صَاحِبُ الْأَذَانِ- أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْدَ الْمَنْحَرِ، وَرَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُوَ يَقْسِمُ أَضَاحِي، فَلَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ وَلَا صَاحِبَهُ، فَحَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ فَأَعْطَاهُ مِنْهُ، وَقَسَمَ مِنْهُ عَلَى رِجَالٍ، وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ فَأَعْطَى صَاحِبَهُ، قَالَ: وَإِنَّهُ شَعْرُهُ عِنْدَنَا لَمَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتْمِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

الشيخ: كما تقدم الباب واحد، شعره طاهر، وفيه البركة العظيمة عليه الصلاة والسلام، وكان يخضب، بدا فيه بعضُ الشَّيب، وكان يخضبه، وهكذا الصديق وعمر وغيرهما كانوا يخضبون الشّيب؛ لقوله ﷺ: غيروا هذا الشّيب، واجتنبوا السَّواد، فالسنة لمن أصابه الشَّيب أن يُغير الشَّيب بغير السَّواد.

بَابُ النَّهْيِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ

المقدم: قبل هذا يا سماحة الشيخ، الحقيقة لدينا بعض الأسئلة في باب ما لا يغمس له شيء: يتأفف الإنسانُ من غمس الذُّباب في الإناء، بل يرميه ويسكب ما أصابه، هل عليه إثمٌ في ذلك؟

الشيخ: الصواب ما فعله النبيُّ، السنة أن يفعل ما فعله النبيُّ ﷺ، ولا يأنف من هذا الشيء، يغمسه كله، ثم يُلقيه، ولا يضرّه والحمد لله، يجتمع الدَّاء والشِّفاء، فالشفاء يدفع الدَّاء: في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء. والنبي ﷺ أرفق الناس، وأكمل الناس سيرةً عليه الصلاة والسلام.

المقدم: الحشرات الأخرى غير الذُّباب هل تُغمس؟

الشيخ: لا، تُلقى، إذا وقعت تُلقى والحمد لله، تُؤخذ وتُلقى ولا تحتاج غمسًا.

المقدم: هل صحَّ أن الرسول ﷺ ألقى الذُّباب من الطعام وأكل الطَّعام؟

الشيخ: غمسه ثم ألقاه.

المقدم: هل لكم توجيه قبل أن نختم هذا اللقاء يا سماحة الشيخ؟

الشيخ: السنة التَّأسي بالنبي في كل شيءٍ عليه الصلاة والسلام: في أعماله، وأقواله، وسيرته، يقول الله : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، ولو ألقاه ولم يغمسه فلا حرج، لكن الأفضل غمسه كما فعله النبيُّ ﷺ.

المقدم: شكر الله لكم يا سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.