تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ..}

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ أَيْ: نَقُصُّهُ عَلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44] أَيْ: مَا كُنْتَ عِنْدَهُمْ يَا مُحَمَّدُ فَتُخْبِرَهُمْ عَنْهُمْ مُعَايَنَةً عَمَّا جَرَى، بَلْ أَطْلَعَكَ اللَّهُ عَلَى ذلك كأنَّك حاضرٌ وشاهدٌ لِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حِينَ اقْتَرَعُوا فِي شَأْنِ مَرْيَمَ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا؟ وَذَلِكَ لِرَغْبَتِهِمْ فِي الْأَجْرِ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْقَاسِمِ ابْنِ أَبِي بَزَّةَ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَبِي بَكْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَتْ بِهَا -يَعْنِي أُمَّ مَرْيَمَ بِمَرْيَمَ- تَحْمِلُهَا فِي خِرَقِهَا إِلَى بَنِي الْكَاهِنِ بْنِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. قَالَ: وَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَلُونَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا يَلِي الْحَجَبَةُ مِنَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَتْ لَهُمْ: دُونَكُمْ هَذِهِ النَّذِيرَةُ، فإني حررتها، وهي أنثى، ولا يدخل الْكَنِيسَةَ حَائِضٌ، وَأَنَا لَا أَرُدُّهَا إِلَى بَيْتِي. فَقَالُوا: هَذِهِ ابْنَةُ إِمَامِنَا -وَكَانَ عِمْرَانُ يَؤُمُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ- وَصَاحِبِ قُرْبَانِنَا. فَقَالَ زَكَرِيَّا: ادْفَعُوهَا إليَّ؛ فَإِنَّ خَالَتَهَا تَحْتِي. فَقَالُوا: لَا تَطِيبُ أَنْفُسُنَا؛ هي ابنةُ إمامنا. فذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ، فَقَرَعَهُمْ زَكَرِيَّا فَكَفَلَهَا.

وَقَدْ ذَكَرَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ -دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ في بعضٍ- أنهم ذهبوا إِلَى نَهْرِ الْأُرْدُن، وَاقْتَرَعُوا هُنَالِكَ عَلَى أَنْ يُلقوا أقلامَهم، فأيُّهم يثبت فِي جَرْيَةِ الْمَاءِ فَهُوَ كَافِلُهَا، فَأَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ، فاحتملها الماءُ إلا قلم زكريا فإنه ثبت، ويقال: إنه ذهب صاعدًا يَشُقُّ جَرْيَةَ الْمَاءِ. وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ كَبِيرَهُمْ وَسَيِّدَهُمْ وَعَالِمَهُمْ وَإِمَامَهُمْ وَنَبِيَّهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه وعلى سائر النَّبيين.

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ۝ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:45- 47].

هَذِهِ بِشَارَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِأَنْ سَيُوجَدُ مِنْهَا وَلَدٌ عَظِيمٌ، لَهُ شَأْنٌ كَبِيرٌ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ قالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أَيْ: بِوَلَدٍ يَكُونُ وُجُودُهُ بِكَلِمَةٍ من الله، أي: يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَهَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:39]، كما ذكر الْجُمْهُورُ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أَيْ: يَكُونُ مَشْهُورًا بِهَذَا في الدُّنيا.

الشيخ: ولهذا سُمِّي: كلمة الله؛ لأنَّه كان بالكلمة، قال اللهُ له: كن، فكان، كلام الله جلَّ وعلا مُنزَّلٌ، غير مخلوقٍ، ولكنَّه سُمِّي بسبب ما حصل، وهو قول الله له: كن، الناس يكونون من ماءٍ مهينٍ، ما عدا عيسى؛ فإنَّه خلقه اللهُ بقوله: كن، فكان، وما عدا آدم؛ فإنَّه خُلق من الطين، وما عدا حواء؛ فإنها خُلقت من آدم، من لحم آدم ودمه.

فالقسمة رباعية:

القسم الأول: خُلق من الطّين، لا من ذكرٍ، ولا من أنثى، وهو آدم عليه أفضل الصلاة والسلام.

والقسم الثاني: خُلِقَ من ذكرٍ، من لحمه ودمه، لا من ماءٍ مهينٍ، وهو حواء.

والقسم الثالث: خُلِقَ من غير ذكرٍ، من أنثى؛ لقول الله له: كن، فكان، وهو عيسى عليه الصلاة والسلام.

والقسم الرابع: بقية الخلق كلهم من ذكرٍ وأنثى، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [الحجرات:13].

س: الآية التي قبلها المقصود بها هارون عليه السَّلام؟

ج: هارون آخر، هارون مُتأخِّر، هارون الأول كان مُتقدِّمًا، كانوا يُسمّون بأسماء أنبيائهم، مثلما نُسمِّي الآن: موسى ومحمد.

س: .............؟

ج: هذا ذُريته، يعني: ذُريته.

ويعرفه الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، وَسُمِّيَ: الْمَسِيحُ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِكَثْرَةِ سِيَاحَتِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ مَسِيحَ الْقَدَمَيْنِ، لَا أَخْمَصَ لَهُمَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا مسح أحدًا من ذوي العاهات برئ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ: (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) نسبةً إِلَى أُمِّهِ، حَيْثُ لَا أَبَ لَهُ.

وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أَيْ: لَهُ وَجَاهَةٌ وَمَكَانَةٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُوحيه اللهُ إليه من الشَّريعة، ويُنزله عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا مَنَحَهُ اللهُ بِهِ، وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ فِيمَنْ يَأْذَنُ لَهُ فِيهِ، فَيَقْبَلُ مِنْهُ أُسْوَةً بإخوانه من أُولي العزم صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

وَقَوْلُهُ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أَيْ: يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ في حال صغره، معجزةً وآيةً، وفي حال كُهولته حِينَ يُوحِي اللَّهُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ.

وَمِنَ الصَّالِحِينَ أَيْ: فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، لَهُ عِلْمٌ صَحِيحٌ، وَعَمَلٌ صَالِحٌ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا تَكَلَّمَ مَوْلُودٌ فِي صِغَرِهِ إِلَّا عِيسَى وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو الصَّقْرِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَزْعَةَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ -يَعْنِي الْمَرْوَزِيَّ- حَدَّثَنَا جَرِيرٌ -يَعْنِي ابْنَ حَازِمٍ- عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قال: لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى، وَصَبِيٌّ كَانَ فِي زَمَنِ جُرَيْجٍ، وَصَبِيٌّ آخَرُ.

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِشَارَةَ الْمَلَائِكَةِ لَهَا بِذَلِكَ عَنِ اللَّهِ قَالَتْ فِي مُنَاجَاتِهَا: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ تَقُولُ: كَيْفَ يُوجَدُ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي وَأَنَا لَسْتُ بِذَاتِ زَوْجٍ، وَلَا مِنْ عَزْمِي أَنْ أَتَزَوَّجَ، وَلَسْتُ بَغِيًّا، حَاشَا لِلَّهِ؟

فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ عَنِ اللَّهِ فِي جَوَابِ ذلك السُّؤَالِ: كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ أَيْ: هَكَذَا أَمْرُ اللَّهِ عَظِيمٌ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وصرَّح هاهنا بقوله: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَلَمْ يَقُلْ: يَفْعَلُ، كَمَا فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا، بَلْ نَصَّ هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ يَخْلُقُ؛ لِئَلَّا يبقى لمبطلٍ شُبْهَةٌ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ: فَلَا يتأخّر شيئًا، بل يوجد عقيب الأمر بلا مُهلةٍ، كقوله: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:50] أَيْ: إِنَّمَا نَأْمُرُ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ سَرِيعًا كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.

الشيخ: وهكذا قال في آخر سورة يس: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] ، لا إله إلا هو.

مداخلة: في السّند .....

الشيخ: السّند الذي عندك؟ حدَّثنا أيش؟

الطالب: وقال ابنُ أبي حاتم: حَدَّثَنَا أَبُو الصَّقْرِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَزْعَةَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ -يَعْنِي الْمَرْوَزِيَّ- حَدَّثَنَا جَرِيرٌ -يَعْنِي ابْنَ حَازِمٍ.

الشيخ: جرير بن حازم، ما في أبي، "أبو" غلط.

مداخلة: ...........

الشيخ: الثابت أنهم ثلاثة: عيسى، وصاحب جريج، وولد المرأة التي كانت تُلاعبه وهو صغير، فمرّت عليها امرأةٌ تُضرب وهي تقول: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، فقالت: "اللهم لا تجعل ابني كهذه"، ثم مرَّ عليها رجلٌ له شارة حسنة، فقالت: "اللهم اجعل ابني مثل هذا"، فقال في الأولى: "اللهم اجعلني مثلها"، وقال في الثاني: "اللهم لا تجعلني مثله"، هذا المحفوظ الآن.

س: .............؟

ج: ما هو بصريحٍ أنَّه في المهد، صغيرٌ فقط.

وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ۝ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:48- 49].