تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ قِصَّةِ أُحُدٍ وَمَا كَانَ فِيهَا مِن الِاخْتِبَارِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَبَيَانِ صَبْرِ الصَّابِرِينَ، فَقَالَ تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ۝ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:121- 123].

الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْوَقْعَةِ يَوْمُ أُحُدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. قَالَهُ ابْنُ عباسٍ، والحسن، وقتادة، والسُّدي، وغير وَاحِدٍ.

وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ غَرِيبٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.

وَكَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ يَوْمَ السَّبْتِ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.

قَالَ قَتَادَةُ: لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: وهذه القصّة قصة عظيمة، وهي غزوة أحدٍ، والآيات المذكورة نزلت فيها عند أهل العلم، ولا شكَّ في ذلك، والسياق واضحٌ في ذلك، قد امتحن اللهُ فيها المؤمنين وابتلاهم، وأعانهم على الصَّبر على ما وقع من إخلال الرّماة بالموقف، ودخول المشركين على المؤمنين، وحصول ما حصل من المصيبة العظيمة: من قتل جماعةٍ من المؤمنين -سبعون قتيلًا- ومنها الجراحات الكثيرة بأسباب إخلال الرّماة بموقفهم وتنازُعهم وفشلهم، وقد أُمِرُوا أن يلزموا الموقف، وألا يتركوه، سواء ظهر المؤمنون، أو ظهر الكافرون، أمرهم أن يلزموه ولا يُفرِّطوا فيه، لكنَّهم لما ظهر المؤمنون وانكشف المشركون وانهزموا ظنّوا أنها الفيصلة، وأنَّ الأمر قد انتهى؛ فأخلوا بالموقف، ودخل المشركون على المؤمنين، وصارت الكارثةُ العظيمةُ التي بيَّنها اللهُ في كتابه العظيم.

ولما استنكرها المسلمون وقالوا: من أين أُوتينا؟! بيَّن اللهُ لهم ذلك في قوله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] يعني: استنكروا هذا الأمر: أنَّى هذا؟ من أين جاء هذا الأمر؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ يعني: بأسباب ما فعله الرّماة من الفشل والتَّنازع والإخلال بالموقف المذكور في قوله جلَّ وعلا: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152] أي: تقتلونهم، فكانت الدائرةُ على الكفار في أول الأمر، انهزموا: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152] يعني: من بعد ما أراكم ما تحبون من هزيمة الكفَّار ونصر الله لكم حصل ما حصل من الإخلال والفشل والتَّنازع وعدم البقاء في الموقف.

وهذا يُبين لنا أنَّ المسلمين إذا أخلوا بما يجب عليهم نزلت بهم المصائب، وأُديل عليهم العدو، فلا بدَّ من الأخذ بالأسباب، ولا بدَّ من الآداب الشَّرعية، والاستقامة على الحقِّ، بهذا يُنْصَرون: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، فلا بدَّ من الأخذ بالأسباب كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، فإذا أخلَّ الجندُ الإسلامي بشيءٍ مما شرع الله وأوجب فهو على خطرٍ بوجود المصائب والهزائم والقتل وغير ذلك.

ومن هذا قوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، فإنَّ هذه الآية عامّة، تعمُّ جميع المصائب في الجهاد وغيره، ومن هذا قوله سبحانه: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] يعني: أسبابها نفسك وأعمالك.

فالواجب على كل مؤمنٍ أن يُحاسب نفسه، وأن يأخذ بأسباب النَّجاة، وألا يقول: أنا مؤمن، ويكفي، لا، لا بدَّ من الأخذ بأسباب النَّجاة، لا بدَّ من العمل الذي شرعه الله وأوجبه عليك، وبهذا يتحقق إيمانك، ويصدق إيمانك، ويكمل بالعناية بما أوجب الله عليك، وبالحذر مما حرَّمه اللهُ عليك، وأن تكون أبدًا على خوفٍ ورجاءٍ، وعلى حذرٍ، وعلى استقامةٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، وقال تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، كرر الأمرَ بأخذ الحذر مرةً بعد مرةٍ، والإعداد بالسّلاح والمراقبة والحذر، وهكذا شأن أهل الإيمان، شأنهم القوة والحذر، والكيس والشَّجاعة والإقدام، وعدم ترك أي فرصةٍ لأعداء الله، بل يجب أن يكونوا على غايةٍ من الحذر، وغايةٍ من الاستيقاظ في طاعة الله، وغايةٍ من الإعداد حسب الطاقة: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَسَلِمَتِ الْعِيرُ بِمَا فِيهَا مِنَ التِّجَارَةِ الَّتِي كانت مع أبي سفيان، فلما رجع فلهم إلى مكّة.

الشيخ: (فلهم) يعني: النَّاجون منهم، (فلهم) بالفاء واللَّام.

فلما رجع فلهم إلى مكة قَالَ أَبْنَاءُ مَنْ قُتِلَ، وَرُؤَسَاءُ مَنْ بَقِيَ لِأَبِي سُفْيَانَ: ارْصُدْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ لِقِتَالِ مُحَمَّدٍ. فأنفقوها في ذلك، فجمعوا الجموع والأحابيش، وأقبلوا في نحوٍ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ حَتَّى نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ أُحُدٍ، تِلْقَاءَ الْمَدِينَةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا صَلَّى عَلَى رَجُلٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ يُقال له: مالك بن عمرو، وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النَّاسَ: أَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، أَمْ يَمْكُثُ بِالْمَدِينَةِ؟ فَأَشَارَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِالْمُقَامِ بِالْمَدِينَةِ، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَحْبِسٍ، وَإِنْ دَخَلُوهَا قَاتَلَهُمُ الرِّجَالُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ. وَأَشَارَ آخَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ.

فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ نَدِمَ بَعْضُهُمْ، وَقَالُوا: لَعَلَّنَا اسْتَكْرَهْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ شِئْتَ أَنْ نَمْكُثَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ له، فسار ﷺ في ألفٍ من أصحابه، فلما كانوا بِالشَّوْطِ رَجَعَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي ثُلُثِ الْجَيْشِ مُغْضَبًا؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ.

الشيخ: يعني: النبيّ ﷺ.

وَقَالَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ: لَوْ نَعْلَمُ الْيَوْمَ قتالًا لاتَّبعناكم، وَلَكِنَّا لَا نَرَاكُمْ تُقَاتِلُونَ الْيَوْمَ.

وَاسْتَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَائِرًا حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِنْ أُحُدٍ فِي عَدْوَةِ الْوَادِي، وَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرهُ إِلَى أُحُدٍ، وَقَالَ: لَا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حَتَّى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ.

وَتَهَيَّأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْقِتَالِ، وَهُوَ فِي سَبْعِمِئَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَمَّرَ عَلَى الرُّمَاةِ عَبْدَاللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ -أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ- وَالرُّمَاةُ يَوْمَئِذٍ خَمْسُونَ رَجُلًا، فَقَالَ لَهُمْ: انْضَحُوا الْخَيْلَ عَنَّا، وَلَا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكُمْ، وَالْزَمُوا مَكَانَكُمْ إِنْ كَانَتِ النَّوْبَةُ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ.

وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَأَعْطَى اللِّوَاءَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ -أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ- وَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْضَ الْغِلْمَانِ يَوْمَئِذٍ، وَأَرْجَأَ آخَرِينَ حَتَّى أَمْضَاهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ بِقَرِيبٍ مِنْ سَنَتَيْنِ.

وَتَعَبَّأَتْ قُرَيْشٌ، وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَمَعَهُمْ مِئَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَبُوهَا، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عِكْرِمَةَ ابْنَ أبي جهلٍ، ودفعوا اللِّواء إلى بني عبد الدَّار.

ثُمَّ كَانَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوَاضِعِهِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران:121] أَيْ: بين مَنَازِلهم.

الشيخ: ما هي (بين)، (تبين) معنى تبوء: تُبين لهم منازلهم، أو تُنزلهم منازلهم، يعني: تُنزلهم منازلهم التي يقفون بها.

أَيْ: تُبين مَنَازِلَهُمْ، وَتَجْعَلُهُمْ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَحَيْثُ أَمَرْتَهُمْ.

وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ: سَمِيعٌ لِمَا تَقُولُونَ، عَلِيمٌ بِضَمَائِرِكُمْ.

وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا سؤالًا حاصله: كيف تقولون: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَارَ إِلَى أُحُدٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ الآية؟ ثم كان جوابه عنه: أنَّ غدوّه ليبوأهم مَقَاعِدَ إِنَّمَا كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ أَوَّلَ النَّهَارِ.

وقوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ الآية [آل عمران:122].

الشيخ: ويحتمل إذا غدوت بمعنى: ذهبت ..... إذا ثبت أنَّه توجّه بعد الجمعة فُسِّر معنى الغدو هنا بالذّهاب غدًا، ذهب وتوجّه، أمَّا إذا كان لم يثبت بعد الجمعة فالمعنى أنَّه غدا صباحًا غدوة، يعني: ليُقابل الغدو ويأخذ مصافّ القتال.

وفي هذا أيضًا من الفوائد: أنَّ الواجبَ على الجيش إذا عزم وليُّ الأمر أن يسمعوا ويُطيعوا بالمعروف؛ ولهذا لما عزم النبيُّ ﷺ ولبس اللأمة -لأمة الحرب- وقال بعضُهم: لعلنا أكرهناك يا رسول الله، إن رأيتَ يا رسول الله ألا تخرج. قال: ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لأمةَ الحرب أن يرجع حتى يقضي اللهُ بينه وبين عدوه، فتخلَّف عبدُالله بن أُبي -رأس المنافقين- حين هجوم الجيش، فعابهم الله على ذلك، وأنكر عليهم عملهم القبيح، فدلَّ ذلك على أنَّ الواجب على الجيش السّمع والطاعة لولي الأمر بالمعروف، والذهاب معه، والقتال معه للعدو، وأن تكون الكلمةُ واحدةً، ولا يجوز الانقسام والتَّفرق، بل يجب أن يكونوا يدًا واحدةً، لا يجوز بينهم التَّفرق والاختلاف؛ لأنَّ الاختلاف فرصةٌ للعدو، وعدّة للعدو، وعون للعدو.

فالواجب على أهل الإيمان في قتال عدوهم وفي انكفاء شرّه أن يكونوا يدًا واحدةً، وطائفةً واحدةً، وعزمًا واحدًا ضدّ العدو، حتى يحكم اللهُ بينهم.

قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: حَدَّثَنَا سفيان قال: قال عمر: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ يَقُولُ: فِينَا نَزَلَتْ: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا الآية [آل عمران:122]. قَالَ: نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ: بَنُو حَارِثَةَ، وَبَنُو سَلَمَةَ، وَمَا نُحِبُّ -وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: وَمَا يَسُرُّنِي- أنها لم تنزل؛ لقوله تَعَالَى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]. وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ.

وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّهُمْ بَنُو حَارِثَةَ وبنو سلمة.

الشيخ: بنو سلمة هم رهط جابر، فإنَّ جابر بن عبدالله من بني سلِمة -بكسر اللام- والطائفة الثانية بنو حارثة، الله وليُّهما، وقد عفا عنهما.

وقوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [آل عمران:123] أي: يوم بدر، وكان يوم الجمعة، وافق السابع عشر من شهر رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْفُرْقَانِ الَّذِي أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وأهلَه، ودمغ فيه الشِّرك، وخرّب محلّه وحزبه، هَذَا مَعَ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِئَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فِيهِمْ فَرَسَانِ، وَسَبْعُونَ بَعِيرًا، وَالْبَاقُونَ مُشَاةٌ، لَيْسَ مَعَهُمْ مِنَ الْعدَدِ جَمِيع مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.

وَكَانَ الْعَدُوُّ يَوْمَئِذٍ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِئَة إِلَى الْأَلْفِ فِي سَوَابِغِ الْحَدِيدِ وَالْبَيْضِ وَالْعِدَّةِ الْكَامِلَةِ وَالْخُيُولِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْحُلِيِّ الزَّائِدِ.

فَأَعَزَّ اللَّهُ رَسُولَهُ، وَأَظْهَرَ وَحْيَهُ وَتَنْزِيلَهُ، وَبَيَّضَ وَجْهَ النَّبِيِّ وَقَبِيلِهِ، وَأَخْزَى الشَّيْطَانَ وَجِيلَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَحِزْبِهِ الْمُتَّقِينَ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123] أَيْ: قَلِيلٌ عَدَدُكُمْ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا بكثرة العَدَدِ والعُدَدِ؛ ولهذا قال تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا إلى وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:25- 27].

الشيخ: والمقصود من هذا أنه يُبين سبحانه لعباده أنَّ النصر بيده، وأنهم قد يكونون قليلًا فيُنصرون، وقد يكونون كثيرًا فيُهزمون، فالنَّصر بيد الله جلَّ وعلا، فقريش كانوا كثيرين يوم بدر، ما بين تسعمئة إلى ألف، والمسلمون نحو الثلث: ثلاثمئة وبضعة عشر، فنصرهم الله وأيَّدهم، وهزم بهم أعداءه، فقتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين، وانهزم الباقون.

ويوم أحدٍ كانوا سبعمئةٍ تقريبًا، وكان العدوّ ثلاثة آلافٍ، لكن لما حصل الفشل والتَّنازع والإخلال بالموقف سلَّط عليهم العدو، لا من أجل الكثرة، ولكن من أجل الإخلال بما أوجب اللهُ، فليست الكثرةُ العلّة، العلّة: إخلال الرّماة بالموقف، والفشل الذي حصل والتنازع؛ حتى حصل بسبب ذلك ما حصل.

فالمعاصي والتَّفرق والاختلاف والفشل في الجهاد وفي كل مكانٍ من أسباب الهزائم، ومن أسباب تسليط الأعداء، والتَّكاتف على الحقِّ والتناصح والتَّعاون على البرِّ والتَّقوى والصِّدق من أسباب النَّصر والتَّأييد في كل مكانٍ، وفي كل زمانٍ، في الجهادٍ وغيره، كما قال جلَّ وعلا: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40- 41] يعني: اعلموا أنَّ ما حصل يوم أحد ليس من أجل قلّتكم، أنتم يوم بدر أقلّ، لكن من أجل ما حصل من الخلل في طاعة الله، والخلل في طاعة ولي الأمر، والخلل بما يجب من التَّكاتف والصّدق وضبط الموقف وعدم الفشل والتَّنازع.

س: .............؟

ج: من البيضة التي تُوضع على الرأس، يقال لها: بيضة ..... الحديدة التي تُوضع على الرأس ضدّ السلاح، وضد السيوف، ويقال لها: المغفر، التي تستر الرأس.

س: هل كانو شخصين؟

ج: للشَّخصين، يعني: معهما فرسان، فارسان معهما فرسان.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ قَالَ: سَمِعْتُ عِيَاضًا الْأَشْعَرِيَّ قَالَ: شَهِدْتُ الْيَرْمُوكَ وَعَلَيْنَا خَمْسَةُ أُمَرَاءَ: أَبُو عُبَيْدَةَ، وَيَزِيدُ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَابْنُ حَسَنَةَ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعِيَاضٌ، وَلَيْسَ عِيَاضٌ هَذَا الَّذِي حَدَّثَ سِمَاكًا قال: وقال عمر: إِذَا كَانَ قِتَالٌ فَعَلَيْكُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ: فَكَتَبْنَا إِلَيْهِ: إِنَّهُ قَدْ جَاشَ إِلَيْنَا الْمَوْتُ، وَاسْتَمْدَدْنَاهُ. فَكَتَبَ إِلَيْنَا: إِنَّهُ قَدْ جَاءَنِي كِتَابُكُمْ تَسْتَمِدُّونَنِي، وَإِنِّي أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَعَزُّ نَصْرًا، وَأَحْصَنُ جُنْدًا: اللَّهُ ، فَاسْتَنْصِرُوهُ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا ﷺ قَدْ نُصِرَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي أَقَلّ مِنْ عِدَّتِكُمْ، فإذا جاءكم كتابي هذا فَقَاتِلُوهُمْ وَلَا تُرَاجِعُونِي. قَالَ: فَقَاتَلْنَاهُمْ فَهَزَمْنَاهُمْ أَرْبَعَةَ فراسخ.

الشيخ: يعني دحروهم .....، فجيش الروم كثير جدًّا، وجيش الصحابة قليلٌ بالنسبة إليهم، ولكن معهم نصر الله وتأييده بسبب صدقهم وتكاتفهم ، وإيثارهم الآخرة.

قال: وأصبنا أموالًا فتشاورنا، فأشار عَلَيْنَا عِيَاضٌ أَنْ نُعْطِيَ عَنْ كُلِّ ذِي رَأْسٍ عَشَرَةً، قَالَ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَنْ يُرَاهِنُنِي؟ فَقَالَ شَابٌّ: أَنَا إِنْ لَمْ تَغْضَبْ. قَالَ: فَسَبَقَهُ، فَرَأَيْتُ عَقِيصَتَيْ أَبِي عُبَيْدَةَ تَنْقُزَانِ، وَهُوَ خَلْفَهُ عَلَى فَرَسٍ عُرْيٍ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.

الشيخ: ومعناه في المسابقة (عري) ليس عليها شيء، ليس على ظهرها شيء، وأبو عبيدة هو عامر بن عبدالله بن الجراح، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، سابقه شابٌّ فسبقه الشَّاب، والشاب قال له: أنا أُسابق إن لم تغضب. فسبقه.

س: هل سمي أبو عبيدة ابن الجراح؛ لأنَّه قتل أباه؟

ج: ما أعلم شيئًا، ما أظنّه قتل أباه، لكن اسمه: الجراح، أبوه اسمه: الجراح.

س: .............؟

ج: ما أعرفه، لكن كونه قتل أباه معروف، الجراح جدّه.

..........

وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ" مِنْ حَدِيثِ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ بِنَحْوِهِ. وَاخْتَارَهُ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ.

الشيخ: "المختارة" نعم.

وَبَدْرٌ: مَحَلَّةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، تُعْرَفُ بِبِئْرِهَا، مَنْسُوبَةٌ إِلَى رَجُلٍ حَفَرَهَا يُقَالُ لَهُ: بَدْرُ بْنُ النَّارَيْنِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: بَدْرٌ بِئْرٌ لِرَجُلٍ يُسَمَّى: بَدْرًا.

وَقَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123] أَيْ: تَقُومُونَ بطاعته.

س: .............؟

ج: غندار محمد بن بشار، يقال له: غندار، لقبٌ له، محمد بن بشار العبدي يُقال له: غندار ..... لقبٌ له، وغندر لقب لمحمد بن جعفر.