تفسير قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112] أَيْ: أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ الذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ أَيْنَمَا كَانُوا، فَلَا يَأْمَنُونَ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ: بِذِمَّةٍ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ لَهُمْ، وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، وَإِلْزَامُهُمْ أَحْكَامَ الْمِلَّةِ، وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أي: أمان منهم لهم، كَمَا فِي الْمُهَادَنِ وَالْمُعَاهَدِ وَالْأَسِيرِ إِذَا أَمَّنَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوِ امْرَأَةٌ، وَكَذَا عَبْدٌ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أَيْ: بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ، وَعَهْدٍ مِنَ النَّاسِ. وكذا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدي، والربيع بن أنسٍ.

وقوله: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أَيْ: أُلْزِمُوا فَالْتَزَمُوا بِغَضَبٍ من الله، وهم يستحقّونه، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ أَيْ: أُلْزِمُوهَا قَدَرًا وَشَرْعًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112] أَيْ: وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكِبْرُ وَالْبَغْيُ وَالْحَسَدُ، فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ الذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ والمسكنة أبدًا مُتَّصلًا بذلِّ الْآخِرَةِ.

الشيخ: وهذا من رحمته سبحانه لعباده وأوليائه، ومن خذلانه لأعدائه اليهود الذين اجترؤوا على الله، وقتلوا أنبياءه، وعصوا رسله، وعاندوا الحقَّ، والله جلَّ وعلا ضرب عليهم الذّلة أينما كانوا: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ لبغيهم وعدوانهم وكذبهم وافترائهم على أنبيائه، وقتل الأنبياء بغير حقٍّ، واستكبارهم عن اتِّباع الحقِّ، فالذلّة مُلازمةٌ لهم بسبب عصيانهم وعدوانهم وكبرهم، والحبل: العهد، أي الذّمة، كما بيَّن المؤلفُ رحمه الله، فمَن أُعطي عهدًا وذمّةً عصم دمه وماله بذلك، وهكذا بالأمن من الناس إذا أُعطوا الأمان بين المسلمين بسببٍ من الأسباب: إما ليسمعوا القرآن، وإما ليبيعوا حاجةً ..... المسلمين، وإمَّا أن ..... مع ولي الأمر.

وهكذا غيرهم من الكفرة: كالنَّصارى والوثنيين وغيرهم إذا دخلوا في الأمان وطلبوا الأمان لأمرٍ ما؛ فإنَّ دمَهم معصومٌ حتى يُرَدّوا إلى مأمنهم، كما قال : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وقال ﷺ: ذمَّةُ المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم.

فاليهودي والنَّصراني والوثني والشّيوعي وغيرهم إذا دخلوا بأمانٍ بين المسلمين وجب أن ينفذ هذا الأمان حتى يُعادوا إلى مأمنهم بأي سببٍ من الأسباب التي اقتضت ذلك الأمان، ولا يختصّ باليهود، بل بقية الكفرة كذلك.

وقوله: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ إشارة إلى اليهود؛ لأنهم أهل الغضب، والنَّصارى أهل الضَّلالة، ولكنهم في الحكم كذلك، متى أُعطوا حبلًا من الله ومن الناس عُصمت دماؤهم وأموالهم حتى ينتهي العهدُ، أو ينتهي الأمانُ الذي أعطوه.

ومن ذلك العمّال الذين يأتون إلى العمل، فإنَّ مجيئهم إلى بلاد المسلمين للعمل معناه الأمان لهم ما داموا بين المسلمين، ولا يجوز التَّعدي عليهم، ولا ظلمهم حتى يُرَدّوا إلى بلادهم، وإذا قُتِلُوا عمدًا وجبت الدِّيةُ والتَّعزير، وإذا قُتِلُوا خطأً وجبت الدِّيةُ والكفَّارة، كما قال تعالى: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92].

فالمعاهد والمستأمن في هذا الباب واحدٌ في وجوب احترام دمائهم وأموالهم حتى يُرَدّوا إلى بلادهم، وفي ضمانهم إذا قُتِلُوا عمدًا أو خطأً، ومتى ..... صدق المسلمون واستقاموا أعانهم اللهُ على عدوهم، وكتب لهم النَّصر على عدوهم أينما كانوا، كما قال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21]، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40- 41].

فمَن نصر اللهَ نصره، ومَن استقام على دينه حفظه، ولا يُؤتى المسلمون إلا إذا حصل منهم تفريطٌ وخللٌ؛ فيُسلط عليهم العدو بما فعلوا هم، وبما اجترحوا من السّيئات، كما جرى يوم أحدٍ بسبب اقتراف الرُّماة لمعصيةٍ وفشلهم وتنازعهم، كما قال : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

فالواجب على المؤمن أن يلزم الحقَّ، وأن يستقيم عليه، وأن يُحافظ عليه أبدًا حتى يلقى ربَّه، وهذا هو طريق النَّجاة، وهو سبيل السَّعادة، فإذا مال إلى الباطل واقترف الباطلَ فقد أخلَّ بهذا الأمان، وصار على خطرٍ، ولا بدَّ من جهادٍ في هذه الدار: من جهاد النفس، وصبرٍ على الحقِّ في الشّدة والرَّخاء، في جميع الأحوال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، جاهدوا يعني: جاهدوا أنفسهم، وجاهدوا شيطانهم، وجاهدوا أعداءهم، وجاهدوا عصاتهم، الآية عامَّة؛ ولهذا حذف المفعولَ، اللهُ سبحانه ما ذكر المفعول، قال: جَاهَدُوا فقط ليشمل أنواعَ الجهاد: جهاد النَّفس بتقوى الله، والاستقامة على الحقِّ، وجهاد الكفَّار، وجهاد العُصاة بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وجهاد المنافقين يشمل أنواع الجهاد، لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا طالما الجهاد في سبيل الله والنّية صالحة والجهود مبذولة على الطّريق السَّوي وعلى المنهج القويم فالله يهدي المجاهد سبيله القويم، ويجعله من المحسنين .

س: إذا قُتِلَ عمدًا؟

ج: ليس فيه إلا الدّية والتَّعزير: لا يُقتل مسلمٌ بكافرٍ، يقول النبيُّ ﷺ، فيه التَّعزير والدِّية.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران:112] أَيْ: إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِ رُسُلِ اللَّهِ، وَقُيِّضُوا لِذَلِكَ- أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْثِرُونَ الْعِصْيَانَ لِأَوَامِرِ اللَّهِ ، وَالْغَشَيَانَ لِمَعَاصِي اللَّهِ، وَالِاعْتِدَاءَ فِي شَرْعِ الله، فعياذًا بالله من ذلك، والله الْمُسْتَعَانُ.

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ  قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَقْتُلُ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَمِئَةِ نَبِيٍّ، ثُمَّ يقوم سوقُ بَقْلِهم آخر النَّهار.

الشيخ: يعني لا يُبالون، لا يهتمّون بذلك، وهذا من أخبار بني إسرائيل، مثلما قال ابنُ مسعودٍ عن بني إسرائيل من أخبارهم فيها الصَّادق والكاذب.

س: واحدٌ مسلمٌ صدم بسيارته رجلًا كافرًا، يعني: ما هو بمُتعمِّدٍ، ما الحكم؟ هل على المسلم صيامٌ؟

ج: عليه الدِّية والكفَّارة، يقول الله: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، هذا في الكفرة: عتق رقبةٍ، فإن عجز .....

لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:113- 114].

الشيخ: أما قتلهم الأنبياء فهو حقٌّ، نصَّ عليه القرآنُ، قد فعلوا ذلك، ولا شكَّ أنهم يقتلون الأنبياء بغير حقٍّ، وأنهم ظلمة، وإنما قوله: "إنهم يقتلون في اليوم ثلاثمئة نبيٍّ" هذا محلّ البحث، كون هذا ثابتًا عن بني إسرائيل هذا محلّ البحث، من أخبارهم، أما قتلهم الأنبياء فقد نصَّ اللهُ عليه في القرآن، وبيَّن أنهم يقتلون الأنبياء بغير حقِّ -قاتلهم الله- عدوانهم وظلمهم معروفٌ، وكفرهم وعدوانهم الشَّديد، هم قتلة الأنبياء، وقتلة المؤمنين والرسل، لكن كون من أعمالهم أنهم في بعض الأيام يقتلون ثلاثمئة نبيٍّ هذا هو محلّ البحث، قد يكون هذا فيه مُبالغة من بعض كُفَّارهم.

س: .............؟

ج: الله أعلم، ما بلغني شيءٌ، لكن يُستغرب -يعني- أمَّا قتلهم الأنبياء فهذا أمرٌ معلومٌ بنص القرآن.

مداخلة: عبدالله ..... -بفتح المهملة، وسكون المعجمة، وفتح الموحدة- الأزدي، أبو معمر الكوفي، ثقة، من الثانية، مات في إمارة عبيدالله بن زياد، روى له الجماعة.

الشيخ: هذا هو، فيه تدليس الأعمش، وعنعنة الأعمش عن إبراهيم، وبكل حالٍ هو من أخبار بني إسرائيل، ابن مسعودٍ يروي عن بني إسرائيل، وابن عباسٍ وجماعة، وهم لا يُستكثر منهم، ولا يُستغرب منهم كل شرٍّ، نسأل الله العافية، لكن الغرابة: هل يجتمع مثل هذا العدد في يومٍ واحدٍ يقتلونهم؟! هذا محل الاستغراب، واليهود يأتون بغرائب وأخبار شنيعة، يكذبون، هم أهل الكذب.

س: رواية شعبة عن سليمان؟

ج: يُقال: إنَّ شعبة لا يروي عن سليمان إلا ما سمعه. ولكن محلّ نظرٍ، لا بدَّ من تتبعٍ، وبكل حالٍ هو من أخبار بني إسرائيل.

وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ۝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:115- 117].

قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: زَعَمَ الْحَسَنُ بْنُ يَزِيدَ الْعِجْلِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113]، قَالَ: لَا يَسْتَوِي أَهْلُ الْكِتَابِ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَهَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ.

وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي "مُسْنَدِهِ": حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ وَحَسَنُ بْنُ مُوسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلَاةَ الْعِشَاءِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ أَحَدٌ يَذْكُرُ اللهَ هذه السَّاعة غيركم، قال: فنزلت هَذِهِ الْآيَاتُ: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران:113- 115].

والمشهور عند كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ -كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيمَنْ آمَنَ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ: كَعَبْدِاللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ، وَأُسَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ، وَغَيْرِهِمْ، أَيْ: لَا يَسْتَوِي مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ بِالذَّمِّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لَيْسُوا سَوَاءً أَيْ: لَيْسُوا كُلُّهُمْ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، بَلْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ، وَمِنْهُمُ الْمُجْرِمُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ أَيْ: قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، مُطِيعَةٌ لِشَرْعِهِ، مُتَّبِعَةٌ نَبِيَّ اللَّهِ، فَهِيَ قَائِمَةٌ، يَعْنِي: مُسْتَقِيمَةً.

الشيخ: يظهر والله أعلم أنَّ مُراده سبحانه أنَّ الذَّنبَ الذي حصل من أهل الكتاب ليس عامًّا لهم، بل جمهورهم وأكثرهم، وإلا فمنهم الأتقياء والأخيار؛ ولهذا أتباع موسى أمم عظيمة، أتباع الحقّ، ومنهم أئمّة قائمة، لا يختصّ بمَن أسلم في عهد النبي ﷺ، بل ممن قبلهم أمّة قائمة يتلون آيات الله فيمَن آمن بموسى وعيسى واستقاموا على الحقِّ، هم على الهدى والدِّين، ليسوا مثل هؤلاء المذمومين، ويدخل فيهم في عهد النبي ﷺ مَن أسلم كعبدالله بن سلام وغيره، المقصود أنَّه أعمّ من هذا، وأنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ يعني: فيما مضى قبل بعث النبيِّ ﷺ، وبعد بعثه ﷺ ممن آمن به، وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ [آل عمران:113- 115] لا يجحد عليهم، بل يُدَّخر لهم ويُجازون عليه كغيرهم من المؤمنين.

يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ أَيْ: يَقُومُونَ اللَّيْلَ وَيُكْثِرُونَ التَّهَجُّدَ، وَيَتْلُونَ الْقُرْآنَ فِي صَلَوَاتِهِمْ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران:199]؛ ولهذا قال تعالى هَاهُنَا: وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي: لا يضيع عند الله، بل يجزيهم بِهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أَيْ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عَمَلُ عَامِلٍ، وَلَا يَضِيعُ لَدَيْهِ أَجْرُ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكَفَرَةِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أَيْ: لَا يُرَدُّ عَنْهُمْ بَأْسُ اللَّهِ وَلَا عَذَابُهُ إِذَا أَرَادَهُ بِهِمْ، وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:116].

ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا لِمَا يُنْفِقُهُ الْكُفَّارُ فِي هَذِهِ الدَّارِ -قَالَهُ مجاهدٌ والحسنُ والسّدي- فقال تعالى: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران:117] أَيْ: بَرْدٌ شَدِيدٌ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمْ.

وَقَالَ عَطَاءٌ: بردٌ وجليدٌ.

وعن ابن عباسٍ أيضًا ومجاهد: فِيهَا صِرٌّ أَيْ: نَارٌ. وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ؛ فإنَّ البرد الشَّديد -ولا سِيَّمَا الْجَلِيدُ- يَحْرِقُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ، كَمَا يُحْرَقُ الشَّيء بالنَّار، أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117] أي: فأحرقته، يعني بذلك السّفعة إذا نزلت على حرثٍ قد آن جذاذُه أَوْ حَصَادُهُ، فَدَمَّرَتْهُ وَأَعْدَمَتْ مَا فِيهِ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَذَهَبَتْ بِهِ وَأَفْسَدَتْهُ، فَعَدِمَهُ صَاحِبُهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ.

فَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ يَمْحَقُ اللَّهُ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وثمرتها، كما أذهب ثَمَرَةَ هَذَا الْحَرْثِ بِذُنُوبِ صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ بَنَوْهَا عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَعَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117].

الشيخ: قوله: (السّفعة) المقصود بها ما ينزل بهم من العقوبات التي تُهلك الحرثَ والنَّسل: كالرياح الشَّديدة، والبرد الشَّديد، لكن تسميتها: "سفعة، وسعفة"، لعلَّ "سفعة" أقرب، وهو الشَّيء الذي يسفع ..... سفعه: ضربه بالشَّيء، لعله بتقديم الفاء أظهر، "القاموس" حاضر؟ انظر: سفعة.

الطالب: ...........

الشيخ: هذا هو بتقديم الفاء أحسن، أما "السّعفة" واحد "السّعف" من النَّخل وغيره، ما هي المراد هنا، بتقديم الفاء أولى، يعني: الضربة التي تُصيبهم من بردٍ أو نارٍ أو غير ذلك، نسأل الله العافية، المقصود أنها أموال أُنفقت على غير هدًى للصَّدِّ عن سبيل الله، أو للرِّياء والسُّمعة، تكون باطلةً، تذهب هباءً منثورًا، نسأل الله العافية.

س: السّعفة إذا أُضرمت فيها النار أحرقت ما أصابها؟

ج: هو يقول: "سعفة"، ما قال: نار، يعني: السّعفة واحد السّعف، مثل: الجريد وأشباهه، لكن ما قال فيه: النار، أمَّا السّفعة: الضّربة، يعني: سفع: ضرب.

...........