تفسير قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ..}

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۝ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ۝ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ۝ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:86- 89].

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ الْبَصْرِيُّ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ، ثُمَّ نَدِمَ، فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ أَنْ سَلُوا لي رسولَ الله: هل لي من توبةٍ؟ فَنَزَلَتْ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فأرسل إليه قومُه فأسلم.

وهكذا رواه النَّسائي والحاكم وابن حبان مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ ابْنِ أَبِي هِنْدٍ بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

وَقَالَ عبدُالرَّزاق: أنبأنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فَأَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ كَفَرَ الْحَارِثُ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ، قَالَ: فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ الْحَارِثُ: إِنَّكَ وَاللَّهِ ما علمتُ لصدوق، وإنَّ رسولَ الله لَأَصْدَقُ مِنْكَ، وَإِنَّ اللَّهَ لَأَصْدَقُ الثَّلَاثَةِ. قَالَ: فَرَجَعَ الْحَارِثُ فَأَسْلَمَ، فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ أَيْ: قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ، وَوَضَحَ لَهُمُ الْأَمْرُ، ثُمَّ ارْتَدُّوا إِلَى ظُلْمَةِ الشِّرْكِ، فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ هَؤُلَاءِ الْهِدَايَةَ بَعْدَمَا تَلَبَّسُوا بِهِ مِنَ الْعَمَايَةِ؛ ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

ثُمَّ قَالَ تعالى: أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أَيْ: يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ، وَيَلْعَنُهُمْ خَلْقُهُ، خَالِدِينَ فِيهَا أَيْ: فِي اللَّعْنَةِ، لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ أَيْ: لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ، وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ وَبِرِّهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وعائدته على خلقه أنَّ مَن تاب إليه تاب عليه.

الشيخ: وظاهر السِّياق يقتضي أنَّ مَن ارتدَّ عن بصيرةٍ وعن وضوحٍ الغالب عليه ألا يهتدي: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا يعني: بعيدٌ أن يهديهم الله، لكن مَن تاب تاب اللهُ عليه، مَن رُزِقَ التَّوبة، وإلا فالذي يرتدّ عن بصيرةٍ وعن علمٍ وعن عنادٍ يغلب عليه البقاء على ردَّته وضلاله، نسأل الله العافية؛ لأنَّه لم يرتدّ عن جهلٍ، وإنما عن بصيرةٍ، وعن عنادٍ للحقِّ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، الإنسان الذي يرتدّ عن بصيرةٍ وعن علمٍ، لكن للعناد والمكابرة، أو الرياسة، أو أشباه ذلك مما هو إيثارٌ للعاجل على الآجل.

والآية الكريمة تُفيد الوعيد والتَّحذير، وأنَّ مثل هؤلاء يغلب عليهم ألا يهتدوا، وأنَّ الهداية بعيدةٌ عنهم، لكن مَن رزقه اللهُ التوبةَ تاب اللهُ عليه؛ ولهذا قال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، ولو عظمت الفتنةُ، ولو عظم الشِّرك، إذا تاب تاب اللهُ عليه، وقد عاند كثيرٌ من أهل مكّة، واشتدّ أذاهم للرسول ﷺ، ثم تابوا فتاب اللهُ عليهم.

فالحقّ أنَّ باب التوبة مفتوحٌ لكل أحدٍ، مَن تاب صادقًا نادمًا على ما فرَّط منه، عازمًا ألا يعود في ذلك؛ فإنَّ الله يتوب عليه، كما قال جلَّ وعلا: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال سبحانه: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، مَن تاب التوبة الصَّادقة تاب اللهُ عليه.

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [التحريم:8] الآية، وعسى من الله واجبة، وهو سبحانه الغفور، الجواد، الكريم، الرحيم.

فالواجب على العبد أن يحذر؛ لأنَّ الآية فيها التَّحذير الشَّديد، الواجب أن يحذر أن يرجع إلى الكفر والضَّلال والمعصية بعد أن تبصّر، فإنَّ هذا خطرٌ عظيمٌ: ألا يقبل منه، وألا يوفق، بل يلزم الحقّ، ويستقيم عليه، ويسأل ربَّه الثَّبات، وهو سبحانه الجواد، الكريم، الرؤوف، الرحيم، لكن مَن بُلِيَ وغلب عليه الهوى فلا ييأس، بل عليه أن يُبادر ويُحسن ظنّه بربِّه، ويرجع إلى الصَّواب، ومَن تاب تاب اللهُ عليه: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، إيمانٌ وعملٌ صالحٌ بعد التوبة.

وفي آية الفرقان: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70]، والأعيان الكثيرون في مكّة عداؤهم معروف، ثم تابوا فتاب اللهُ عليهم: كصفوان بن أمية، وعكرمة ابن أبي جهل، وأبو سفيان بن حرب، ماذا فعل يوم أحد ويوم الخندق؟ وبعد هذا تاب اللهُ عليهم، أسلموا، تاب اللهُ عليهم والحمد لله.

س: يدخل فيه صاحبُ المعصية، لو دخل في معصيته تعمّه الآية؟

ج: الآية عامَّة، إذا دخل فيها الكافرُ فالعاصي من باب أولى، العاصي أسهل، إذا دخل فيها الكافرُ -وهو المراد- فالعاصي من باب أولى، إذا رجع وندم تاب اللهُ عليه.

س: لكن يُخشى عليه لو رجع ما يتوب مرةً أخرى؟

ج: يُخشى عليه إذا ابتدع أو عصى عن بصيرةٍ لا شكَّ أنَّه على خطرٍ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، نسأل الله العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ۝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:90- 91].

يقول تعالى مُتوعِّدًا ومُهدِّدًا لِمَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ، ثُمَّ ازْدَادَ كُفْرًا، أي: استمرَّ عليه إلى الممات، ومُخبرًا بأنَّهم لن تُقبل لهم توبة عند الممات، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [النساء:18]؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ أَيِ: الْخَارِجُونَ عَنِ الْمَنْهَجِ الْحَقِّ إِلَى طَرِيقِ الْغَيِّ.

قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قَوْمًا أَسْلَمُوا، ثُمَّ ارْتَدُّوا، ثُمَّ أَسْلَمُوا، ثُمَّ ارْتَدُّوا، فَأَرْسَلُوا إِلَى قَوْمِهِمْ يَسْأَلُونَ لَهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ. وهكذا رواه، وإسناده جيدٌ.

الشيخ: وظاهر السِّياق -ولا حول ولا قوة إلا بالله- أنهم إن استمرّوا في الكفر وعاندوا لن تُقبل توبتهم، لن يُوفَّقوا للتَّوبة الصَّادقة بسبب إمعانهم في الضَّلالة وكفرهم، المؤلف حمل ذلك على أنهم ازدادوا كفرًا حتى نزل بهم الأجلُ، حتى حضر الأجل، ومَن حضره الأجلُ لن تُقبل توبته؛ لقوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء:18]، توبة الإنسان تُقبل ما لم يُغرغر، إذا حضره الأجلُ وغرغر بالرُّوح انتهى، لا تقبل التوبةُ حينئذٍ.

فالآية فيها وعيدٌ عظيمٌ، وتحذيرٌ من الاستمرار في الكفر والضَّلال، وأنَّ مَن كان هذا شأنه فهو حريٌّ بألا يُوفَّق للتَّوبة؛ لأنَّه قال: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا يعني: استمرّوا في الكفر، وأمعنوا فيه، والغالب على هؤلاء الخذلان، وألا يُوفَّقوا للتَّوبة، نسأل الله العافية.

ثم قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [آل عمران:91] أَيْ: مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ خَيْرٌ أَبَدًا، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا فِيمَا يَرَاهُ قُرْبَةً، كَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، وَكَانَ يَقْرِي الضَّيْفَ، وَيَفُكُّ الْعَانِي، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ: هَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنَ الدَّهر: ربِّي اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ.

الشيخ: يعني أنَّه لم يُؤمن بالآخرة، يعني أنَّه كافرٌ بالآخرة، لم يقل يومًا: "ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدِّين" يعني أنَّه مات وهو على طريقة الكفرة الذين يقولون: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنحْيَا [الجاثية:24]، ما في آخرة! ما في جنة ولا نار! وهذا شأن كل كافرٍ، متى مات على الكفر لم تُقبل منه عبادات ولا أعمال ولا نفقات، ولو كانت ملء الأرض؛ لأنَّ الله يقول سبحانه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، ويقول سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5] في سورة المائدة، من آخر ما نزل، ويقول جلَّ وعلا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۝ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65- 66]، ويقول سبحانه: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ يعني: بأعمالهم أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة:17]، فالشِّرك ليس معه عملٌ، مَن مات عليه حبطت أعماله وحُرِمَ المغفرة، وليس له إلا النار أبد الآباد، نسأل الله العافية.

وهذا يُوجب الحذر من الشِّرك، والمبادرة بالتوبة إلى الله مما هو عليه منه، وألا يُؤخِّر ساعةً واحدةً، بل يُبادر، عليه أن يُبادر بالتَّخلص من الكفر بالله؛ لأنه أعظم الذّنوب، وأسوأها عاقبةً، ولا رجاء معه، نسأل الله العافية.

والشِّرك هو صرف العبادة لغير الله أو بعضها، وهكذا كل ناقضٍ من نواقض الإسلام يُسمَّى: كفرًا وشركًا، كل ناقضٍ: الذي يعبد القبور، ويستغيث بالأموات من أهل البيت، ومن غيرهم، وينذر لهم، ويذبح لهم، ويدعوهم مع الله: فاطمة، أو علي، أو الحسن، أو الحسين، أو غيرهم: كعبدالقادر الجيلاني، والبدوي، أو غيرهم، أو يدعو الرسل، أو الملائكة، أو الأصنام، أو الجنّ، كل هذا من الكفر بالله والشِّرك الأكبر، وهكذا غيرهم من سائر الناس، من سائر الأولياء والصَّالحين ومن غيرهم، إذا تعلَّق بهم، واعتقد فيهم، وأنهم يصلحون لهذا، حتى ولو لم يعبدهم، فإذا عبدهم صار شرًّا إلى شرٍّ.

وهكذا كل ناقضٍ كأن يرى أنَّ اليهودَ على الحقِّ، أو النَّصارى على حقٍّ، أو المجوس على حقٍّ، أو الشيوعيين على حقٍّ، ليسوا كفَّارًا، بعد العلم يكون كافرًا وإن لم يفعل فعلهم، اعتقاده أنهم ليسوا كفَّارًا يكون كفرًا بالله، وهكذا الشَّك في ذلك.

هكذا مَن اعتقد أنَّه يجوز لأحدٍ من الناس الخروج عن شريعة محمدٍ ﷺ، كما وسع الخضرُ الخروج عن شريعة موسى؛ من نواقض الإسلام، أو اعتقد أنَّ هدي غير النبي أحسنُ من هدي النبي، أو مثل هدي النبي، أو حكم غيره أحسن من حكمه، أو أنَّه يجوز حكم غيره، أو مثل حكم الله: كمَن رأى أنَّ القوانين أنسب للناس وأصلح للناس؛ هذا كفرٌ أكبر وردَّةٌ كبرى، أو تعاطى السِّحر، أو عمل به، أو استحلَّه، أو ظاهر المشركين على المسلمين وناصرهم على المسلمين: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، أو أعرض عن الدِّين، لا يتعلم ولا يعبد الله، أعرض عن الدِّين؛ صارت ردَّةً، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3]، إذا أعرض عن الدِّين: لا يعبد الله، ولا يعبد غيره، أعرض بالمرة، هو من الكفار أيضًا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [الكهف:57].

والحاصل أنَّ كل ناقضٍ من نواقض الإسلام يُسمَّى ردَّةً، ويُسمَّى كفرًا، ويُسمَّى شركًا، ويدخل في قوله تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، ويدخل في قوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5].

فيجب على طالب العلم التَّفقه في هذا الأمر والتَّبصر، وأن يعتني بباب حكم المرتد في هذا العصر الخطير، ينبغي لطالب العلم أن يعتني بهذا الباب، كل مذهبٍ من المذاهب الأربعة وغيرها اعتنوا بهذا الباب: باب حكم المرتد، مَن هو المرتدّ؟ هو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، يكون مسلمًا ثم يأتي بالردة، يأتي بالكفر، هذا المرتدّ، أي: الراجع إلى الكفر بعدما أسلم، بعدما هداه الله للإسلام، أو وُلِدَ على الإسلام ورجع إلى الكفر، يعني: أتى بناقضٍ من نواقض الإسلام، هذا يُسمّى المرتدّ؛ أخذًا من قوله تعالى: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217].

المقصود أنَّ المقام خطيرٌ في عصر الغُربة، القرن الخامس عشر الذي امتلأت فيه الدنيا بأنواع الكفر والضَّلال والبدع والدَّعوة إلى الباطل، واستنكار الحقّ، والتَّكبر عن اتِّباعه، فالواجب على المسلم أن يحذر أن يُصيبه ما أصاب الناس، والواجب على طالب العلم أن يعتني بالعلم، لا يُفْتِ على جهالةٍ، بل يعتني بالعلم، يدرس الأدلة الشَّرعية حتى يكون على بينةٍ في باب الردّة، في باب البدع، في باب المعاصي، إذا قال قال عن علمٍ، عن أدلةٍ شرعيةٍ في كل شيءٍ؛ حتى لا يقول على الله إلا الحقّ؛ لأنَّ قوله على الله بغير علمٍ مرتبة خطيرة، فوق مرتبة الشِّرك، وذلك من أمر الشيطان: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:169].

ثم هو خطرٌ يقع في الشَّيء، هو نفسه إذا لم يدرس الأمرَ ولم يعتنِ ولم يتفقّه في الدِّين قد يقع في نفس الباطل، في نفس الشِّرك هو؛ ولهذا يقول ﷺ: مَن يُرد اللهُ به خيرًا يُفقهه في الدِّين متَّفقٌ عليه. فمَن أراد اللهُ به الخير فقّهه في الدِّين، فليتعلّم، ويتفقّه، ويسأل، ويدرس، ويعتني عند أقلّ شبهةٍ، يعتني حتى تزول الشُّبهة.

وهذا بابٌ عظيمٌ: باب حكم المرتدّ بابٌ عظيمٌ، ذكره الفُقهاء والعلماء في آخر كتاب الحدود، وهو أنَّ المسلم يكفر بعد إسلامه، ثم قال: ومَن فعل كذا، ومَن اعتقد كذا، ومَن قال كذا كفر، مَن قال كذا كفر، ومَن فعل كذا كفر، عدَّدوا أنواعَ الكفر من الأقوال والأعمال والاعتقادات، فإنَّ الكفر يكون بالقول والعمل والعقيدة والشَّك.

الكفر أصوله أربعٌ: قولٌ، وعملٌ، وعقيدةٌ، وشكٌّ.

تارةً يكفر بالقول: كسبِّ الله ورسوله، ودعاء غير الله؛ كدعوة الأموات. وتارةً بالفعل: كالسّجود للأصنام، والسّجود لغير الله، والذَّبح لغير الله. وتارةً بالعقيدة: كونه يعتقد أنَّ عبادةَ الله وحده غير واجبةٍ، ويعتقد أنَّ الشِّرك ما هو بحرامٍ، أو يعتقد أنَّ الآخرة ما هي بحقٍّ، ما هناك جنّة ولا نار، أو يعتقد أنَّ محمدًا ليس بصادقٍ، أو أنَّ محمدًا ما بلَّغ الرِّسالة، اعتقاد فقط، ولو ما فعل شيئًا كفر، هذا مجرد عقيدةٍ، أو يعتقد أنَّ الزنا حلالٌ، ولو ما فعل شيئًا، ولو ما زنا، أو يعتقد أنَّ الخمر حلالٌ، ولو ما شرب الخمر يكفر، أو يعتقد أنَّ الصَّلاة ما هي بواجبةٍ، ولو صلَّى، أو يعتقد أنَّ الزكاةَ ما هي بواجبةٍ، ولو زكَّى يكون كافرًا، أو يقول: رمضان ما هو بواجبٍ، ما يجب على الناس صوم رمضان، يكفر ولو صام؛ لأنَّه مُكذِّبٌ لله في هذه الأمور، مُكذِّبٌ لله ولرسوله.

الرابع: الشَّك: أيش الشَّك؟

يقول: ما أدري أمحمّدٌ صادقٌ أو ما هو بصادقٍ، أنا شاكٌّ، ما أدري أنَّ هناك جنّةً أو ما هناك جنة، أنا شاكٌّ في الجنة والنار. هذه ردّة، هذا الشَّك ردّة، هذه أصول الكفر: قولٌ، وعملٌ، وعقيدةٌ، وشكٌّ.

قول الكفر، وعمل الكفر، واعتقاد الكفر، والشَّك في الحقِّ.

هذه أمور يجب على كل طالب علمٍ أن يعتني بها، وأن تكون من أهم علومه، بل هي أهم العلوم، أهم العلوم أن تعرف ما أوجب الله، وما هو سبب الثَّبات على الحقِّ، وأن تعرف أسباب الردّة ..... والخروج عن الإسلام.

وإذا كان هذا واجبًا في عهد النبي ﷺ وفي عهد الصَّحابة والقرون المفضّلة، فهو اليوم أوجب؛ لأنَّ الشَّر أكثر، والغربة أعظم، ودُعاة الباطل أكثر، فوجب حينئذٍ الحرص على أسباب السَّلامة، ووجب العناية بالفقه في الدِّين، وأصله القرآن، عليك بالقرآن، والله جلَّ وعلا يقول في كتابه العظيم: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، ويقول ﷺ: مَن يُرد اللهُ به خيرًا يُفقهه في الدِّين.

فأعظم وصيةٍ أُوصي نفسي بها وأُوصيكم بها: العناية بالقرآن، والإقبال على القرآن الكريم، والإكثار من تلاوته وتدبّر معانيه، ثم السُّنَّة -سنّة الرسول ﷺ- والحرص على الأحاديث الصَّحيحة، وحفظ ما تيسَّر منها، والتَّفقه فيها، ثم مُراجعة كلام أهل العلم المعروفين، أهل العلم والبصيرة الموثوق بهم، المعروفين بالعقيدة الطيبة: مُراجعة كتبهم، والاستعانة بها، والاستفادة منها بعد القرآن والسُّنة.

هذا هو الطريق، هذا هو طريق السَّلامة، وطريق العلم، وطريق الاحتياط للدِّين، وطريق البُعد عن أسباب الخطر، مع النية الصَّالحة، لا بدَّ من نيةٍ: إنما الأعمال بالنّيات، لا بدَّ من نيةٍ صالحةٍ، يعني: نية وجه الله والدار الآخرة، نيّة أن تعرف الحقَّ، ما هو من أجل الرِّياء، أو ليُقال: فلان عالم، أو يتعلم، لا، لأجل التَّخلص، لأجل أن تعرف الحقَّ وتعمل به وتدعو الناسَ إليه، لك نيّة صالحة خالصة، تريد وجهَ الله والدَّار الآخرة، تعلم من أجل أن تُخلّص نفسَك من الجهالة، تعبد ربَّك على بصيرةٍ، ومن أجل تعليم الناس أيضًا، لا للرياء، ولا للسُّمعة، ولا لوظيفةٍ، تعلّم لتعلم أمر الله، وتعمل بأمر الله، وتدعو الناسَ إلى ذلك، هذا هو طريق العلم: إنما الأعمال بالنّيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ۝ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وهو مؤمنٌ أرادها وسعى لها، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:18- 19].

لا بدَّ من إرادة الآخرة، ولا بدَّ من عملٍ، مع نيَّةٍ صالحةٍ، مع إيمانٍ: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ هذا واحدٌ، وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا هذا اثنان، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ثلاثة، أراد الآخرة بنيةٍ، وقصده يريد الآخرة، يريد النَّجاة، وسعى؛ ما هو أراد الآخرة ونام، أراد وسعى: عمل، وطلب العلم، وتفقّه، وأدَّى الواجبات، وترك المحارم، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ما هو إمّعة؛ يعمل فقط على غير نيةٍ، وعلى غير قصدٍ، لا، عن إيمانٍ بالله وبدينه، عن إيمانٍ بالآخرة، عن إيمانٍ بربِّه وتوحيده والإخلاص له، عن إيمانٍ بالرسل، عن إيمانٍ بكلِّ ما أخبر اللهُ به ورسوله، وأراد الآخرة؛ فهو يعمل ويسعى السَّعي الواجب والسَّعي المستحبّ حسب طاقته: عن إيمانٍ، وعن إخلاصٍ لله، وعن إيمانٍ به وبرسله، وعن إيمانٍ بتوحيده، وعن إيمانٍ بكلِّ ما أخبر اللهُ به ورسوله: الإيمان بالجنّة، والنار، والملائكة، والكتب، والرسل، والقدر، إلى غير ذلك.

نسأل الله للجميع التَّوفيق.

س: ما يُروى أنَّ أبا لهب يُسقى في الجنّة يوم الاثنين والخميس؟

ج: ذُكِرَ، لكن ما هو عن النبي ﷺ ..... أشار إلى إصبعه لعتاقته ثويبة، امرأة، جارية أعتقها وأرضعت النبيَّ ﷺ، ذكرها –أظنّ- عروة أو غيره مرسلًا، ذكرها البخاري في أول "الصَّحيح".

س: ألا يدل على أنَّ المشرك يمكن أن يستفيد من عمله؟

ج: إن صحَّ فهي ما تنفعه، فائدة ما تنفعه.

س: عبدالله بن جدعان كان حيًّا لما تُوفي الرسول؟

ج: لا، ما أدرك البعثة.

س: من نواقض الإسلام: مَن لم يُكَفِّر الكافر؟

ج: إذا عُرف كفره بالدَّليل ولم يُكفِّره.

س: ما الدَّليل على هذا النَّاقض؟

ج: أدلة كثيرة، منها قوله ﷺ: مَن قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله حَرُمَ ماله ودمه، لا بدَّ من قوله: وكفر بما يُعبد من دون الله، لا بدَّ من الشَّهادة بكفر الكافرين.

وَكَذَلِكَ لَوِ افتدى بملءِ الأرض ذَهَبًا مَا قُبِلَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ [البقرة:123]، وَقَالَ: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ [إبراهيم:31]، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:36]؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [آل عمران:91]، فَعَطَفَ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ.

وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ "الْوَاوَ" زَائِدَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ ألَّا يُنْقِذَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ مِثْلَ الْأَرْضِ ذَهَبًا، وَلَوِ افْتَدَى نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، بِوَزْنِ جِبَالِهَا، وَتِلَالِهَا، وَتُرَابِهَا، وَرِمَالِهَا، وَسَهْلِهَا، وَوَعْرِهَا، وَبَرِّهَا، وَبَحْرِهَا.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: نعم، فيقول الله: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ؛ قَدْ أخذتُ عليك في ظهر أبيك آدم ألَّا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ. وهكذا أخرجه البخاري ومسلم.

طريقٌ أخرى: وقال الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنْزِلَكَ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، خَيْرُ مَنْزِلٍ. فَيَقُولُ: سَلْ وَتَمَنَّ. فَيَقُولُ: مَا أَسْأَلُ وَلَا أَتَمَنَّى إِلَّا أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ عَشْرَ مِرَارٍ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ. وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنْزِلَكَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، شَرُّ مَنْزِلٍ. فيقول له: أتفتدي مِنِّي بِطِلَاعِ الْأَرْضِ ذَهَبًا؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، نَعَمْ. فَيَقُولُ: كَذَبْتَ، قَدْ سَأَلْتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وأيسر فَلَمْ تَفْعَلْ. فَيُرَدُّ إِلَى النَّارِ.

وَلِهَذَا قَالَ: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ أَيْ: وَمَا لَهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يُجِيرُهُمْ مِنْ أَلِيمِ عقابِه.

الشيخ: ومن أدلة تكفير مَن لم يُكفِّر الكفرة قوله جلَّ وعلا: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، فلا بدَّ من تكفير الكفر بالطَّاغوت -يعني: عبادة غير الله- ومن تكفير الكفر بالطَّاغوت: كفر مَن أخذ بالطَّاغوت، وعبد الطَّاغوت.

س: الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، هل يكفي أنَّهم يحكمون بغير ما أنزل الله ولو لم يعتقدوا ذلك؟ هل يكفروا بأعيانهم؟

ج: الحكم بغير ما أنزل الله قد أوضح العلماءُ ذلك، وقد كتبنا فيه كتابات كثيرة نُشرت، موجودة، مطبوعة أيضًا، الحكم بغير ما أنزل الله فيه تفصيلٌ: أصله أنه كفر، وأصله ظلم، وأصله فسق، كما قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]، لكن إن كان الحاكمُ بغير ما أنزل الله يعتقد ذلك، استحلَّ ذلك، يعتقد أنَّه حلالٌ، أو أحسن من حكم الله، أو مثل حكم الله؛ صار كفرًا أكبر، وظلمًا أكبر، وفسقًا أكبر.

أمَّا المرتبة الرابعة: إذا كان يعلم أنه منكر، وأنه لا يجوز، ولكن فعله لهوى، أو لعداوةٍ، أو لرشوةٍ؛ هذا كفرٌ أصغر، وظلمٌ أصغر، وفسقٌ أصغر، كما قال ابنُ عباسٍ وجماعةٌ من السلف، وهو الذي عليه أهلُ العلم فيما نعلم، هذه المرتبة الرابعة، فالكفر الأكبر فيمَن اعتقد أنَّ حكمَ غير الله أحسنُ من حكم الله، أو أنه مثل حكم الله، أو أنه جائز، ولو دون حكم الله، ولو قال: إنه دون حكم الله، ولو قال: حكم الله أحسن، إذا اعتقد أنه جائزٌ كفى في ردَّته.

والمرتبة الرابعة أن يقول: ليس بجائزٍ، وحكم الله أحسن وأطيب، ولكن حكم بغير ما أنزل الله؛ لأنه يُعادي المحكوم له، أو للرشوة، أو لأسبابٍ أخرى من مقاصد الدنيا، وهو يعلم أنه مُخطئٌ، وأنه عاصٍ؛ فهذا مثلما قال ابنُ عباس: "ظلمٌ دون ظلمٍ، وكفرٌ دون كفرٍ، وفسقٌ دون فسقٍ"، وليس مثل مَن كفر بالله واليوم الآخر، نسأل الله السَّلامة.

س: الذين يقولون: كان يجب أن تكون الخلافةُ لعليٍّ، ويصفون عمرَ بالأنصاب؟

ج: مَن سبَّ الصَّحابة، أو اعتقد أنَّ خلافةَ الصّديق أو عمر باطلة فهو كافر، كالرافضة الاثني عشرية، مَن سبَّ الصَّحابة كفر عند أهل العلم إجماعًا، نسأل الله العافية، أو قال: الولاية لعليٍّ والولايات التي قبله كلها باطلة؛ هذا كافرٌ عند أهل العلم.

س: مَن لم يحكم، ولكنَّه أقرَّ بغير ما أنزل الله؟

ج: إذا كان يعتقد أنَّه جائز كفر مثله، أما إن كان أقرَّه لهوًى أو لجهلٍ أو لرشوةٍ صار كافرًا كفرًا أصغر.

س: تكفير الأعيان هل له ضوابط؟

ج: إذا عرفت أنه أتى ما يُكفّره كفّره، إذا عُلم بالأدلة أنه أتى ما يُكفّره كفر، مثلما تقول: أبو لهب كافر، وأبو جهل كافر، وعتبة بن ربيعة كافر، وأبو طالب كافر، وهكذا.

س: إذا كان له حقٌّ في بلدٍ ليس فيه محاكم شرعية، هل يُطالب؟

ج: له أن يُطالب بحقِّه، إذا كان له حقٌّ واضحٌ مُضطرٌّ، ولا يأخذ غير حقِّه، ولا يقبل الحكمَ الباطل، يطلب حقَّه فقط، لا يزيد عليه.

س: ............؟

ج: قد يضطر الإنسانُ لها، إذا أخذوا بيتَه أو أخذوا ماله بغير حقٍّ يُطالب.

س: بعض الجماعات الإسلامية قد يدخلون في البرلمانات؟

ج: إذا دخلوها لنصر الحقِّ لا بأس، إذا دخلوا فيها بنيّة نصر الحقِّ ومُساعدة أهل الحقِّ وعدم الموافقة على الباطل نرجو لهم الأجر.

س: ............؟

ج: بقصد الصَّلاح، إذا قصد المطالبة بالحقِّ وإنكار الباطل، ما هو بقصد الفلوس والدَّراهم، إنما دخل ليُنكر الباطل، ويدعو إلى الحقِّ، ويكون حزبًا مع حزب الحقِّ.

س: ............؟

ج: يُقسم بنيّة أن يحافظ على الدّستور المباح المشروع، بنيّة التأويل، في التأويل مندوحة عن الكذب، إذا كان صادقًا، ما قصد الدنيا وحطامها.

س: .............؟

ج: فيه خلافٌ: بعض أهل العلم يرى قبولها إذا صلحت حاله، وبعض أهل العلم يرى أنها لا تُقبل توبته، في حكم الدنيا يُقتل، وبعض أهل العلم يرى أنها تُقبل توبته، إذا سبَّ الله وسبَّ الرسول إذا تاب توبةً صادقةً تُقبل، وقد بسط الكلام في هذا العلامةُ أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتابه "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، والمعروف عن الحنابلة والشّيخ تقي الدين وجماعة من أهل العلم أنها لا تُقبل ويُقتل بكل حالٍ، ولكنّه محل نظرٍ، إطلاق الآيات: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:160] قد تُؤيد قول مَن قال بقبول توبته.

س: لكل أحدٍ قتله؟

ج: لا، لولاة الأمور.