باب ما جاء في آنية الذهب والفضة

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجَّلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بحضراتكم إلى درسٍ جديدٍ من دروس شرح كتاب "المنتقى من أخبار المصطفى ﷺ" للعلامة مجد الدين أبي البركات عبدالسلام ابن تيمية الحراني، سوف يتولى الشَّرح والتعليق على هذه الأحاديث سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.

مع مطلع هذا اللقاء نُرحب بالشيخ عبدالعزيز، فأهلًا ومرحبًا يا سماحة الشيخ.

الشيخ: حيَّاكم الله وبارك فيكم.

المقدم: سماحة الشيخ وقف بنا الحديث عند أبواب الأواني:

باب ما جاء في آنية الذهب والفضَّة

- عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ لِبَقِيَّةِ الْجَمَاعَةِ إلَّا حُكْمَ الْأَكْلِ مِنْهُ خَاصَّةً.

- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ: إنَّ الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

- وَعَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ فِي الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ فِضَّةٍ: كَأَنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.

- وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الشَّرَابِ فِي الْفِضَّةِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ. مُخْتَصَرٌ مِنْ مُسْلِمٍ.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الأربعة وما جاء في معناها كلها تدل على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة، وأنه لا يجوز للمسلمين استعمالها، فهي للكفار في الدنيا، وللمسلمين في الآخرة؛ ولهذا حذَّر النبيُّ من ذلك وقال: لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم -يعني للكفار- في الدنيا، ولكم في الآخرة، وقال في حديث أم سلمة: الذي يشرب في إناء الفضة إنما يُجرجر في بطنه نار جهنم متفق عليه، وإذا كان هذا في الفضة، فالذهب من باب أولى؛ ولهذا في اللفظ الآخر: الذي يشرب في إناء الفضة والذهب إنما يُجرجر في بطنه نار جهنم أخرجه مسلم في "الصحيح".

فالواجب على كل مسلمٍ وعلى كل مسلمةٍ الحذر من ذلك، وأن يتَّقي الله في هذا الأمر، ويدخل في ذلك: أكواب الشاي والقهوة والملاعق، كلها أواني، فلا يجوز استعمال أكواب الشاي أو القهوة أو الملاعق: لا من الذهب، ولا من الفضة؛ لأنها تدخل في الأواني.

وهكذا لبس الحرير، ويأتي إن شاء الله في الملابس، لا يجوز لبس الحرير والدِّيباج للرجل، بل هو من زيِّ النساء، فلا يجوز له لبس الحرير ولا الدِّيباج -الرجل- ولكن تلبسه المرأة؛ لقوله ﷺ في الحديث الآخر: أحلّ الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها يعني: في اللباس، وهذا له شأن آخر يأتي إن شاء الله في كتاب اللباس.

المقدم: هل يُفرق بين أواني أهل الكتاب وسائر الكفار، أم أنَّ الحكم عام؟

الشيخ: جميع الأواني مُباحة، ما عدا الذهب والفضة، له أن يشرب في آنية الحديد، آنية النحاس، آنية الخشب، آنية الحجر، كلها ما عدا آنية الذهب والفضة، فهذا ممنوع، سواء كانت هذه الأواني تُوجد عند الكفار، أو ما توجد عندهم، هذا مباح إباحةً عامَّةً؛ ولهذا قال ﷺ فيمَن سأله إذا لم يجد إلا أواني اليهود والنَّصارى، أمر أن يغسلها ويأكل فيها.

المقدم: بالنسبة للغسل: هل هو للوجوب أم للاستحباب؟

الشيخ: الظاهر أنه للوجوب؛ لأنه قد يكون فيها آثار خمر أو خنزير، فيكون ذلك من باب الحيطة؛ لأنهم يستعملون الخمر والخنزير.

المقدم: بالنسبة للمجوس هل هم من أهل الكتاب؟

الشيخ: لا، فقط تُؤخذ منهم الجزية، سنَّ بهم النبيُّ سنة أهل الكتاب في الجزية فقط؛ لأنه أخذها منهم، وإلا فحكمهم حكم الوثنيين: لا تُباح نساؤهم، ولا ذبائحهم، إلا أنَّ الرسول ﷺ أخذ منهم الجزية، فلا بأس أن يأخذ وليُّ الأمر منهم الجزية كما تُؤخذ من اليهود والنصارى، أو يُقاتلون، إما أن يُسلموا الجزية، وإما أن يُقاتلوا.

المقدم: الأمر بغسل أواني الكفار هل يدل على أنَّ نجاسته حسيَّة؟

الشيخ: لا، ما هو بأجل حسي، الكافر طاهر، لكن غسل أوانيهم لأنها عرضة لاستعمال الخمر واستعمال لحم الخنزير وأشباه ذلك مما يحرم عليهم، وإلا فنفس الآدمي طاهر؛ ولهذا عرق الكافر وثيابه إذا باشرت جسده طاهرة، إنما النَّجاسة فيما يحصل منه من البول والغائط والدم ونحو ذلك كالمسلم، الآدمي طاهر البدن، طاهر العرق، ولكن النَّجاسة في بوله وغائطه ودمه؛ ولهذا أمر النبيُّ بغسل أوانيهم؛ لأنها تكون عرضةً لاستعمالها فيما حرَّم الله من الخمر، أو لحم الخنزير ومرقه، ونحو ذلك.

بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّضْبِيبِ بِهِمَا إلَّا بِيَسِيرِ الْفِضَّةِ

67- عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ شَرِبَ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

- وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ ﷺ انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ: رَأَيْتُ عِنْدَ أَنَسٍ قَدَحَ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ ضَبَّةُ فِضَّةٍ.

الشيخ: هذا يدل على جواز التَّضبيب بالفضة للقدح إذا انكسر، وهذا خاصٌّ بالفضة فقط، ولا يجوز استعمال الذهب في تضبيب الإناء؛ لأنَّ الذهب تحريمه مُغلَّظ، أما الفضة فهي أسهل؛ ولهذا اتَّخذ النبيُّ ﷺ لما انشعب القدح ضبةً من الفضة، فدلَّ ذلك على التَّسامح في هذا من الفضة، ودلَّ على تحريم اتِّخاذ الأواني من الفضة من غير حاجةٍ، لا يتّخذ للأواني، أما الشّعب إذا انكسر، صار في القدح شعب، وجعل فيه شيئًا من الفضة فلا بأس خاصةً، أما إناء كامل، أو ملعقة كاملة، أو كوب كامل، فهذا كله مُحرَّم: لا من الذهب، ولا من الفضة؛ لقوله ﷺ: لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، الرسول عمَّم، نهانا عن الشرب في آنية الذهب والفضة، وعن الأكل في صحافها، سواء كانت أواني صغيرةً: كالكوب ونحوه، أو كبيرةً، لكن الشعب والصدع، انصدع القدح، صار فيه كسر وجبر وشعب بقسطٍ من الفضة، بشيءٍ من الفضة، فلا بأس، يُعفا عنه.

المقدم: ما مناسبة الحديث الأول لموضوع الباب؟

الشيخ: الإناء فيه شيء من ذلك، يعمّ الضبة وغير الضبة، فلا تجوز الضبة من الذهب، ولكن تجوز من الفضة خاصَّةً عند الحاجة إليها.

المقدم: هل هناك حكمة من إباحة الضبة اليسيرة؟

الشيخ: لأنها قد تدعو الحاجةُ إليها، قد لا يتيسر التَّضبيب بغيرها، قد يحتاج إلى ذلك، والفضة أمرها أسهل.

المقدم: هل هناك شرط للضبة؟

الشيخ: ما أعلم شروطًا، إلا أنَّ الرسول ﷺ اتَّخذ الشّعب من فضةٍ، يعني: جبر الشّعب بالفضة، ولم يذكر أسبابًا واضحةً.

والتضبيب بغير الفضة مُتيسر فيما يظهر: من الحديد وغيره، فالفضة الظاهر والله أعلم أنه يجوز التضبيب بالفضة مطلقًا، لكن إذا تيسر غيرها من باب الاحتياط فحسن، وإلا فالأصل جواز التَّضبيب بالفضة؛ لأنَّ الغالب أن التَّضبيب بغيرها أمر ميسور، ما هو ممتنع.

المقدم: بعض الناس ممن أغناهم الله قد يتَّخذون في بيوتهم أباريق وأواني من ذهبٍ وفضةٍ، هل من توجيه لهؤلاء؟

الشيخ: نعم، لا يجوز اتِّخاذ أباريق ولا أواني من الفضة، هذا ولو ما شرب فيها، حتى ولو ما أكل فيها، حتى ولو للزينة؛ لأنها وسيلة إلى أن تُستعمل، فلا يجوز اتِّخاذ هذه الأواني من الذهب أو الفضة، سواء كانت أباريق، أو دلالًا، أو فناجين، أو قهوة، أو شاي، أو غير ذلك، حتى ولو قال: إني لا أشرب فيها، وإنما أضعها زينةً، هي مُحرَّمة؛ لأنَّ اتخاذها وسيلةٌ للشرب فيها والأكل فيها.

بَابُ الرُّخْصَةِ فِي آنِيَةِ الصُّفْرِ وَنحوها

69- عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ فَتَوَضَّأَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ.

70- وَعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَتَوَضَّأُ فِي مِخْضَبٍ مِنْ صُفْرٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

الشيخ: مثلما تقدم لا بأس من اتِّخاذ الأواني من الصُّفْر، وهو نوع من الحديد، لكن أصفر، فلا بأس أن يتّخذ من الحديد والصُّفر والخشب والحجر، لا بأس بذلك، الممنوع الذهب والفضة فقط، وما سواهما فهو جائز من جميع المواد: أن يتّخذ أواني، قدورًا، ملاعق، أواني للشرب، كله جائز، من أي نوعٍ كان، ما عدا الذهب والفضة.

باب تخمير الأواني

71- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ فِي حَدِيثٍ لَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: أَوْكِ سِقَاءَكَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرْ إنَاءَكَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرِضَ عَلَيْهِ عُودًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ، لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ، أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ، إلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ.

الشيخ: وهذا كله يدل على وجوب هذا الأمر؛ لأنه أمر، والأصل في الأوامر الوجوب، يقول ﷺفي الحديث الصحيح: ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتُم، ويقول جلَّ وعلا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

هذا يدل على وجوب إيكاء الأسقية، وتغطية الأواني، ولو لم يكن فيها شيء؛ لئلا يدخلها هذا الوباء، فالسِّقاء يُوكأ مطلقًا، لا يبقى مفتوحًا، والإناء لا يبقى مفتوحًا، بل إما [أن] يُكفأ، وإما أن يُغطَّى، ولو أن يعرض عليها عودًا؛ للعلة التي بيَّنها عليه الصلاة والسلام، مع ذكر اسم الله، يُوكئ ويذكر اسم الله، ويُغطي ويذكر اسم الله.

والأصل في الأوامر الوجوب كما تقدم في قوله سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]؛ ولقوله جلَّ وعلا: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92]، والأصل في الأوامر الوجوب، وهذه من مصلحة العباد، هذه مصلحة لهم، ووقاية لهم من البلاء، فالواجب عليهم أن يمتثلوا أمر الله ورسوله، وأن يحذروا أسباب الضَّرر الذي يضرهم ويضرّ من تحت أيديهم.

المقدم: قد يتساءل شخصٌ ويقول: ما الفائدة من وضع العود وهو لا يكفي تغطية الإناء؟

الشيخ: يُجاب بأنَّ هذا فضل من الله؛ أنَّ الله جلَّ وعلا جعل وضع العود سببًا للوقاية، وأنه يصرف هذا البلاء عن هذا القدح الذي وُضع عليه، وجعله الله رحمةً بعباده؛ لأنَّ بعض الناس قد لا يجد غطاءً، قد يكون القدحُ ما يكفي، كبير، أو لأسبابٍ أخرى: فيه لبن، أو فيه ماء، أو فيه طعام لا يُكفأ، فجعل الله من رحمته وإحسانه أنَّ عرض العود ونحوه كافٍ؛ فضلًا من الله ورحمةً منه في صرف البلاء، وهو على كل شيءٍ قدير .

المقدم: هل هناك حكمة من تخمير الأواني؟

الشيخ: مثلما تقدم، الحكمة هذه: أنَّ هذا فيه وقاية من وقوع البلاء فيها، فقد يقع فيها البلاء وهي خالية، ثم يُصبّ فيها ماء أو طعام يُشارك البلاء.

المقدم: ما المقصود بالوباء المذكور في الحديث؟

الشيخ: وباء يضرّ الناس، هذا معناه: وباء يضر الناس: دخان يضر الناس، رطوبة تضر الناس، غير ذلك، يعني شيء يعلق بالأواني: إما من جهة الرياح، أو من جهة أمطار تقع، أو من غير ذلك، المقصود أنه شيء يقع لا يملكه الإنسان، قد يكون من طريق الرياح التي تهبّ ويقع فيها بلاء، وقد يكون أشياء لا يفطن لها الناس، وباء رقيق دقيق ينزل من السماء لا يفطن له، وربك على كل شيءٍ قدير جلَّ وعلا.

بَابُ آنِيَةِ الْكُفَّارِ

72- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَغْزُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنُصِيبُ مِنْ آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْقِيَتِهِمْ، فَنَسْتَمْتِعُ بِهَا، وَلَا يَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.

73- وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ قَالَ: إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: إنَّ أَرْضَنَا أَرْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِآنِيَتِهِمْ وَقُدُورِهِمْ؟ قَالَ: إنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ وَاطْبُخُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا.

وَلِلتِّرْمِذِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ قُدُورِ الْمَجُوسِ، قَالَ: أَنْقُوهَا غَسْلًا وَاطْبُخُوا فِيهَا.

74- وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا دَعَا النَّبِيَّ ﷺ إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ فَأَجَابَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وقد صحَّ عن النبي ﷺ الوضوء من مُزادة مُشركةٍ، وعن عمر الوضوء من جرة نصرانية.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها تدل على جواز استعمال أواني المشركين ودورهم، ولكن بعد غسلها؛ لئلا يكون فيها آثار من الخمر أو لحم الخنزير، النبي ﷺ أمر بهذا، والأحاديث المطلقة في استعمالها تُحمل على المقيدة، فما جاء مطلقًا فإنه يُقيد بالروايات الأخرى، فإذا استعمل المسلمُ أواني المشركين، سواء كانوا مجوسًا، أو يهودًا، أو نصارى، أو وثنيين، فلا بأس، لكن يرحضها بالماء، يغسلها بالماء؛ حتى لا يكون فيها هناك بقية من خنزيرٍ، أو من أنواع النَّجاسة؛ لأنَّ ذبيحتهم ميتة، ذبيحة غير اليهود والنصارى ميتة، واليهود والنصارى قد يستعملون فيها لحم الخنزير، قد يشربون فيها الخمر مثلما بيَّن النبيُّ ﷺ.

فالمقصود أنَّ الواجب أن تُرحض بالماء، سواء كانت من أواني اليهود والنصارى والمجوس، أو من غيرهم من باب أولى.

أَبْوَابُ أَحْكَامِ التَّخَلِّي

بَابُ مَا يَقُولُ الْمُتَخَلِّي عِنْدَ دُخُولِه وَخُرُوجِه

- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي "سُنَنِهِ": كَانَ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ.

- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: غُفْرَانَكَ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ.

- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: السنة للمؤمن إذا دخل الخلاء أن يقول عند الدُّخول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث، أو اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، الخبث -بالضم وتسكين الباء- الخبْث، والخبُث، والخبث: جمع خبيث، والخبائث جمع خبيثة، والمراد بذلك ذكور الشياطين وإناثهم. وأما بالتَّسكين: الخبْث، فقيل: معناه هو معنى الخبُث؛ لأنه مثلما يقال: كتب وكتب، ورسل ورسل. وقيل: معنى الخبث: الشَّر، والخبائث: أهل الشر.

فالسنة لمن أراد دخول الخلاء أن يقول هذا الكلام؛ لأنَّ في الرواية الأخرى: إذا أراد، كان النبيُّ إذا أراد أن يدخل قال هذا: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث عند إرادة دخول الحمام لقضاء الحاجة.

وفي رواية سعيد بن منصور زيادة: بسم الله، ويدل عليها عموم: كل أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ فيه ببسم الله فهو أجذم، إذا سمَّى قال: بسم الله، فهذا أكمل عند دخوله لقضاء الحاجة، وهذا هو المشروع للمؤمن والمؤمنة.

كذلك إذا خرج يقول: "غفرانك"، وعند الدخول يُقدِّم رجله اليسرى، وعند الخروج يُقدم رجله اليُمنى، ويقول عند الخروج: "غفرانك"، كان النبيُّ يقول هذا، كان إذا خرج يقول: غفرانك يعني: أسألك غفرانك، وهكذا لو قال: "اللهم اغفر لي"، المعنى واحد.

وفي الحديث الآخر كان يقول: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني إذا خرج، لكن هذا الحديث الأخير فيه ضعف، وإنما الثابت حديث عائشة: غفرانك، وإن أتى بـالحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني فلا بأس، لكن لا على اعتقاد أنه سنة، إذا فعله فحسن؛ لأنَّ الحديث فيه ضعف، رواه ابن ماجه، وفيه ضعف.

المقدم: ما المشروع للمسلم في هذه الأحاديث: الاقتصار عليها أم الزيادة في الأحاديث الواردة في الدُّخول؟

الشيخ: السنة الاقتصار على هذا، يقول: "بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث"، هذه السنة قبل أن يدخل، عندما يريد الدخول يُقدم رجله اليسرى عند الدخول، يقول هذا قبل أن يدخل، وعند الخروج يُقدم رجله اليمنى ويقول: "غفرانك"، وإن قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" فلا بأس، ولكن ليس بسنةٍ.

المقدم: هل هناك أحكام أخرى مُتعلقة بدخول الخلاء والخروج منه؟

الشيخ: عدم ذكر الله في محل الخلاء، إذا كان في الدَّاخل لا يذكر الله، ويترك الكلام إلا من حاجةٍ، هذا هو السنة: إذا كان في داخل الخلاء لا يقرأ ولا يذكر اسم الله حتى ينتهي من حاجته ويخرج، إلا إذا دعت الحاجةُ، مثل ..... يتوضأ في الداخل، يُسمي الله عند الوضوء، وتزول الكراهة عند الحاجة، عند وجود الحاجة.

س: بالنسبة إذا أراد الإنسانُ أن يقضي حاجته في الفضاء، فهل يذكر دعاء دخول الحمام أم لا؟

الشيخ: قبل أن يشرع في الموضوع يقول: "بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث"، قبل أن يشرع في قضاء الحاجة، وعند الفراغ من ذلك يقول: "غفرانك"؛ لأنه ما في خلاء إلا محل قضاء حاجته، عند انصرافه من ذلك يقول: "غفرانك".

 

باب ترك استصحاب ما فيه ذكر الله تعالى

- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَحْمَدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِهِ كَانَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.

الشيخ: وهذا لا بأس به، حديث جيد يدل على أنَّ الرسول ﷺ كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه؛ لأنَّ فيه ذكر الله، هذا يدل على أنه لا يصحب في الخلاء شيئًا فيه ذكر الله: لا أحاديث، ولا رسائل، ولا غير ذلك، هذا هو الأفضل، يجعلها من خارج؛ تأسيًا بالنبي ﷺ؛ لأنَّ هذا من فعله، ليس فيه أمر، من فعله، فيكون ذلك هو الأفضل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وإذا كان القرآن فهو أعظم، لا يجوز [دخول] محل قضاء الحاجة مع القرآن إلا عند الضَّرورة، إذا كان يخشى عليه وليس هناك محلٌّ يجعله فيه هذا من باب الضَّرورة، كما قال تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، أما الخاتم ونحوه فوضعه خارج أفضل إن تيسر، وإن لم يتيسر دخل به؛ لئلا يضيع عليه ماله.

المقدم: سماحة الشيخ: "وقد صحَّ أن نقش خاتمه كان: محمد رسول الله" هل هي مُدرجة أو من كلامه ﷺ؟

الشيخ: لا، مُدرجة من الراوي.

المقدم: بالنسبة للنَّهي عن دخول ما فيه ذكر لله ، هل هو للكراهية أم للتَّحريم؟

الشيخ: الأظهر للكراهة؛ لأنه ما جاء النَّهي عنه، جاء من فعله ﷺ، والفعل يدل على السنية.

المقدم: إذا أخرج الإنسانُ مصحفه من جيبه ودخل الخلاء قد ينساه أحيانًا، فهل يدخل بهذا للضَّرورة؟

الشيخ: لا، يحط في محله، يشوفه، مثل: في درجه، أو كرسي، أو كذا، يشوفه، أما إذا كان يخشى عليه السَّرقة ..... والحمد لله.

المقدم: يُقابل ذلك يا سماحة الشيخ حفظكم الله: الشريط المسجل عليه القرآن؟

الشيخ: مثله.

بَابُ كَفِّ الْمُتَخَلِّي عَنِ الْكَلَامِ

79- عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا مَرَّ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَبُولُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ.

80- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: لَا يَخْرُجُ الرَّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَوْرَتَهُمَا يَتَحَدَّثَانِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: الحديث الأول يدل على أنَّ مَن كان يقضي حاجته لا يُسلَّم عليه، وإن سُلِّم عليه لم يرد؛ لأنه مشغول بقضاء الحاجة، فلا يرد على مَن سلَّم، ولا يُشرع الردّ عليه؛ لأنه في حال قضاء الحاجة.

وجاء في الرواية الأخرى أنه قام بعدما قضى حاجته ضرب الحائط وردَّ عليه السلام، تيمم وضرب الحائط، تيمم وردَّ السلام.

والخلاصة: أنه إذا كان يقضي الحاجة من بولٍ أو غائطٍ فالسنة لمن يمر عليه ألا يُسلم عليه، فإن سلّم عليه لم يرد؛ لأنه في حالة قضاء الحاجة لا ينبغي له ذكر لفظ الله جلَّ وعلا؛ تعظيمًا لله، وكراهةً لأن يذكره في مثل هذا المقام.

وهكذا في محل قضاء الحاجة المخصوص لا يُسلّم عليه وهو يقضي حاجته في محل قضاء الحاجة، ولا يردّ عليه وهو يُسلم عليه في محل قضاء الحاجة؛ تعظيمًا لله جلَّ وعلا وتقديسًا له.

أما كشف العورة فهذا لا يجوز، كشف العورة لمن يراها هذا لا يجوز، إنما يكشفها حيث لا يراه أحدٌ؛ لقضاء الحاجة.

المقدم: أحسن الله إليكم، لعلنا نختم هذا اللقاء بهذا السؤال يا سماحة الشيخ، وهو: قد يُسلّم بعضُ الناس على شخصٍ وهو في الحمام، هل يلزم الثاني الردّ إذا خرج؟

الشيخ: ما يلزم الردّ؛ لأنه لما سلّم على الرسول وهو يقضي حاجته لم يردّ عليه الصلاة والسلام.

المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.