تفسير قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ..}

وَقَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83] أَيْ: وَجَّهْنَا حُجَّتَهُ عليهم.

قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُ: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ الآية [الأنعام:81]، وَقَدْ صَدَّقَهُ اللَّهُ وَحَكَمَ لَهُ بِالْأَمْنِ وَالْهِدَايَةِ فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ، قُرِئَ بِالْإِضَافَةِ وَبِلَا إِضَافَةٍ، كَمَا فِي سُورَةِ يُوسُفَ، وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى.

وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83] أي: حكيمٌ في أقواله وأفعاله، عَلِيمٌ أَيْ: بِمَنْ يَهْدِيهِ، وَمَنْ يُضِلُّهُ، وَإِنْ قامت عليه الحجج والبراهين، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس:96- 97]؛ وَلِهَذَا قَالَ هاهنا: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.

الشيخ: والمعنى أنَّ الله جلَّ وعلا هو الأحقّ بأن يُخاف ويُحذر وتُجتنب مناهيه ويُسارع إلى مراضيه؛ لأنَّه القادر على كل شيءٍ، أمَّا آلهتهم فإنها عاجزةٌ: ما بين جمادٍ، أو ميتٍ لا شعورَ له، أو حيٍّ لا قُدرةَ له؛ ولهذا قال جلَّ وعلا عن إبراهيم عليه الصَّلاة والسلام: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، هل هذا أو هذا: فريق المشركين الذين عبدوا ما لم يُغْنِ عنهم من الله شيئًا، أم فريق المؤمنين الذين عبدوا الله وعظَّموه وتعلَّقوا به وتوكَّلوا عليه؟ وهو القادر على كل شيءٍ : فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ لا شكَّ أنَّ الفريق الذي توكَّل على الله ووحَّده، واستقام على أمره، وابتعد عن نهيه، هو الجدير بالأمن، والموفّق للخير، وهو المهديّ إلى الصِّراط المستقيم.

ثم أوضح هذا فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ هؤلاء هم فريق الأمن، أما فريق الخوف وفريق الهلاك فهم فريق الإشراك والظلم والعدوان والعصيان، هم الذين تُحيط بهم المخاوف، وهم الذين توعدهم الله بالهلاك والدَّمار والعذاب الأليم.

معنى يَلْبِسُوا يعني: يخلطوا إيمانهم وتوحيدهم وعبادتهم لله وطاعتهم له بظلمٍ، يعني: بشركٍ، أُولَئِكَ أي: الذين هذه صفتهم لَهُمُ الْأَمْنُ يعني: الأمن الكامل، والهداية الكاملة إذا استقاموا على دينه وعبدوه وحده، وابتعدوا عن الظلم كلِّه: دقيقه وجليله، كالشِّرك وما دونه، فهؤلاء لهم الأمن الكامل والهداية الكاملة.

أمَّا إذا تركوا الظلمَ الأكبر -وهو الشِّرك- ولكن اقترفوا بعضَ المعاصي من الظّلم الأصغر: كظلم الناس، فهؤلاء لهم أصل الأمن، لهم أصل الهداية، وهم على طريق النَّجاة، ولكنَّهم على خطرٍ من ذنوبهم التي أصرُّوا عليها وماتوا عليها، قد يدخلون بها النار، إلا أن يُعفا عنهم، هم تحت مشيئة الله، كما قال : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، [النساء:116]، في آيتين من كتابه، فمَن مات على الشِّرك لا يُغفر له أبد الآباد، وهو مخلَّدٌ في النار أبد الآباد، ودهر الدَّاهرين، كما قال : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] يعني: أهل الشرك، وقال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37].

أمَّا أهل المعاصي الذين سلموا من الظلم الأكبر -وهو الشرك- ولكن عندهم ظلمٌ لأنفسهم بالمعاصي، أو ظلمٌ للعباد في دماءٍ أو أموالٍ أو أعراضٍ، ولم يتوبوا؛ هؤلاء هم أصحاب الظلم الأدنى –الأصغر- فهم تحت مشيئة الله إذا ماتوا على تلك المعاصي ولم يتوبوا منها: إن شاء ربُّنا غفر لهم بتوحيدهم وإيمانهم وما ماتوا عليه من الطَّاعة، وإن شاء عذَّبهم على قدر المعاصي التي ماتوا عليها، وبعد التَّطهير والتَّمحيص يُخرجهم اللهُ من النار إلى الجنة بسبب توحيدهم وإيمانهم.

وقد تواترت الأخبارُ عن رسول الله ﷺ بأنَّ الكثير من أهل المعاصي يدخلون النار ويُعذَّبون فيها ويحترقون فيها، ثم يشفع الشُّفعاء فيهم، ويُخرج اللهُ جلَّ وعلا مَن شاء منهم بشفاعة الشُّفعاء من الأنبياء والملائكة والمؤمنين والأفراط، وتبقى بقيةٌ يُخرجهم الله جلَّ وعلا برحمته من غير شفاعة أحدٍ، بل يُخرجهم سبحانه لأنَّه حكم على نفسه بأنَّه لا يُخلِّد في النار إلا مَن أشرك بالله ، مَن مات على الكفر والشِّرك، أما العاصي فهو لا يُخلَّد في النار وإن درجت عليه الخطوب، وإن عُذِّب على معاصيه: من الزنا، أو السرقة، أو العقوق، أو الربا، أو غير هذا من المعاصي، له نهاية، عذابه له نهاية، إذا كان مات على الإسلام -على التوحيد والإيمان- فهذا العذاب له نهاية عند أهل السنة والجماعة، لا بدَّ أن يخرج من النار إذا مضت المدّة التي حكم اللهُ بها عليه إلى نهرٍ يُقال له: نهر الحياة، ينبتون فيه كما تنبت الحبّة في حميل السَّيل، فإذا تمَّ خلقهم أدخلهم اللهُ الجنةَ.

فجديرٌ بالعاقل، وجديرٌ بالمكلَّف، وجديرٌ بمَن تعزّ عليه نفسه أن يُهينها بالمعاصي والسّيئات، جديرٌ به أن يحذر، وأن يُمسي ويُصبح على توبةٍ واستقامةٍ وحذرٍ لعله ينجو، وهكذا أصحاب القلوب الحيّة -أصحاب البصيرة- يُسارعون إلى الخيرات، ويُنافسون في الطَّاعات، ولا يُصرُّون على السَّيئات، بل يُبادرون بالتوبة منها دائمًا، دائمًا يُحاسبون أنفسهم، فيلزمون التَّوبة والنَّدم على ما مضى من سيئاتهم، ويعزمون على ألا يعودوا فيها عزمًا صادقًا، مع الحذر منها .....، كما قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۝ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133- 136]، هذا جزاء المسارعين إلى الخيرات، الحذرين من السّيئات، المبادرين بالتوبة وعدم الإصرار، هذا جزاؤهم: المغفرة والجنّة والنَّجاة من النار، جعلنا الله وإيَّاكم منهم.

س: الشِّرك الأصغر داخلٌ في عموم قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]؟

ج: فيه خلافٌ بين العلماء: منهم مَن يُدخله، ومنهم مَن لا يُدخله، وأنَّه لا يُغفر، ولكن لا بدَّ أن يُعذّب، إلا أن ترجح الحسنات، فلو رجحت الحسنات وثقل ميزانه دخل الجنة ..... وقال آخرون: يدخل في وَيَغْفِرُ، وأنَّ حكمه حكمُ الكبائر. والأقرب عدم دخوله؛ لأنَّ الشِّرك ..... إذا رجح ميزانُ الحسنات التي معه سقط حكمُه.

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:84- 90].

يذكر تَعَالَى أَنَّهُ وَهَبَ لِإِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقَ بَعْدَ أَنْ طَعَنَ فِي السِّنِّ، وَأَيِسَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ سَارَةُ مِنَ الْوَلَدِ، فَجَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ ذَاهِبُونَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، فَبَشَّرُوهُمَا بِإِسْحَاقَ، فَتَعَجَّبَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ذلك و قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ۝ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:72- 73]، فبشَّروهما مَعَ وُجُودِهِ بِنُبُوَّتِهِ، وَبِأَنَّ لَهُ نَسْلًا وَعَقِبًا، كما قال تعالى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:112]، وَهَذَا أَكْمَلُ فِي الْبِشَارَةِ وَأَعْظَمُ فِي النِّعْمَةِ، وَقَالَ: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] أَيْ: وَيُولَدُ لِهَذَا الْمَوْلُودِ وَلَدٌ فِي حَيَاتِكُمَا، فَتَقَرُّ أَعْيُنُكُمَا بِهِ، كَمَا قَرَّتْ بِوَالِدِهِ، فَإِنَّ الْفَرَحَ بِوَلَدِ الْوَلَدِ شَدِيدٌ؛ لِبَقَاءِ النَّسْلِ وَالْعَقِبِ، وَلَمَّا كَانَ وَلَدُ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَعْقُبُ لِضَعْفِهِ وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ وَبِوَلَدِهِ باسمِ يَعْقُوبَ الَّذِي فِيهِ اشْتِقَاقُ الْعَقِبِ وَالذُّرِّيَّةِ.

وَكَانَ هَذَا مُجَازَاةً لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ اعْتَزَلَ قَوْمَهُ وَتَرَكَهُمْ وَنَزَحَ عَنْهُمْ، وَهَاجَرَ مِنْ بِلَادِهِمْ ذَاهِبًا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَعَوَّضَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ بِأَوْلَادٍ صَالِحِينَ مِنْ صُلْبِهِ عَلَى دِينِهِ؛ لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:49]، وَقَالَ هَاهُنَا: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا.

وَقَوْلُهُ: وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِهِ هَدَيْنَاهُ كَمَا هَدَيْنَاهُ، وَوَهَبْنَا لَهُ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ خُصُوصِيَّةٌ عَظِيمَةٌ؛ أَمَّا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوهُ فِي السَّفِينَةِ، جَعَلَ اللَّهُ ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ، فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ ذُريته.

وأمَّا الخليلُ إبراهيم عليه السلام فلم يَبْعَثِ اللَّهُ بَعْدَهُ نَبِيًّا إِلَّا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ الآية [العنكبوت:27]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد:26]، وَقَالَ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58].

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ الْآيَةَ، وعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى نُوحٍ لِأَنَّهُ أقرب المذكورين ظاهر، لا إشكالَ فيه، وهو اختيار ابن جريرٍ. وعوده إلى إبراهيم لأنَّه الذي سيق الكلامُ من أجله حسنٌ، لكن يُشكل عليه لُوطٌ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، بَلْ هو ابن أخيه هاران ابْنِ آزَرَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ دخل في الذُّرية تغليبًا.

الشيخ: لأنَّ العمَّ أبٌ؛ فلهذا دخل فيهم، كما قال ﷺ في العباس: إنَّ عمَّ الرجل صنو أبيه، وهكذا قوله جلَّ وعلا: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ الآية، يعني: من ذُرية إبراهيم، دخل تغليبًا، أمَّا إذا قيل: من ذُرية نوح، فلا إشكالَ، نعم.

وكما قال في قوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، فإسماعيل عمّه دخل فِي آبَائِهِ تَغْلِيبًا، وَكَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ۝ إِلَّا إِبْلِيسَ [الحجر:30- 31]، فَدَخَلَ إِبْلِيسُ فِي أَمْرِ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ، وَذُمَّ على المخالفة؛ لأنَّه كان في تَشَبُّهٍ بِهِمْ، فَعُومِلَ مُعَامَلَتَهُمْ، وَدَخَلَ مَعَهُمْ تَغْلِيبًا، وإلا فهو كان من الجنِّ، وطبيعته من النَّار، وَالْمَلَائِكَةُ مِنَ النُّورِ.

وَفِي ذِكْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ نُوحٍ -عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ- دَلَالَةٌ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ البنات في ذُرية الرجل؛ لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُمِّهِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَا أَبَ لَهُ.

س: صنو أبيه؟

ج: قرين أبيه.