تفسير قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ..} (1)

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ۝ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ۝ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:80- 83].

يقول تعالى مُخبرًا عن خليله إبراهيم حين جادله قَوْمُهُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَنَاظَرُوهُ بشُبَهٍ من القولِ أنَّه: قَالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ أَيْ: تُجَادِلُونَنِي فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَقَدْ بَصَّرَنِي وَهَدَانِي إِلَى الْحَقِّ، وَأَنَا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ، فَكَيْفَ أَلْتَفِتُ إِلَى أَقْوَالِكُمُ الْفَاسِدَةِ وَشُبَهِكُمُ الْبَاطِلَةِ؟!

وَقَوْلُهُ: وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا أَيْ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِكُمْ فِيمَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ: أَنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا لَا تُؤَثِّرُ شَيْئًا، وَأَنَا لَا أَخَافُهَا، ولا أُباليها، فإن كان لها كيدٌ فكيدوني بها، ولا تُنظرون، بل عاجلوني بذلك.

وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ إِلَّا اللَّهُ ، وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أي: أحاط علمُه بجميع الأشياء، فلا يخفى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَيْ: فِيمَا بَيَّنْتُهُ لكم أفلا تعتبرون أنَّ هذه الآلهة باطلة فتنزجروا عَنْ عِبَادَتِهَا؟

وَهَذِهِ الْحُجَّةُ نَظِيرُ مَا احْتَجَّ بها نَبِيُّ اللَّهِ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى قَوْمِهِ عَادٍ فِيمَا قَصَّ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ، حَيْثُ يَقُولُ: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ۝ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ۝ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ۝ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا الآية [هود:53- 56].

الشيخ: وهذا واضحٌ في إبطال الشِّرك، والدلالة على أنَّ أهله ليسوا على شيءٍ، وأنهم يتعلَّقون بما لا يُجدي ولا ينفع ولا يُغني عنهم من الله شيئًا، فإنَّ حُجج التوحيد واضحة، بينة لمن هداه الله وألهمه رشده، أمَّا مَن سبقت له الشَّقاوة فإنها لا تزيده الحُجج إلا ضلالًا وبُعْدًا عن الهدى، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

فقد بيَّن لهم عليه الصلاة والسلام أنَّ الله جلَّ وعلا هو المستحقّ للعبادة، وأنه الخلَّاق العليم، وأنَّ هذه الآلهة التي يعبدونها لا تُغني من الله شيئًا، وأنَّه لا يخافها ولا يُبالي بها، فلو كان فيها شيءٌ من القُدرة لانتقمت لنفسها، ولكنَّها ما بين جمادٍ -وهو الصنم- وما بين ميتٍ لا إحساسَ له ولا شعور، وما بين مخلوقٍ حيٍّ مشغولٍ بما خُلق له، ليس له قُدرة إلا بإذن الله؛ ولهذا بيَّن لهم ما هو عليه من الحقِّ: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ أي: وكيف تُحاجّوني في الله وقد هداني إلى التوحيد والإيمان، وأوضح لي سبيل الرَّشاد، وأنتم على الضَّلالة والغواية، ثم بيَّن لهم أنَّه لا يخاف آلهتهم، لكن ما شاءه الله نافذٌ، ما شاء الله نافذٌ، لا رادَّ له، ما شاء الله كان.

الحاصل أنَّ الواجبَ على العاقل أن ينظر ويتأمّل في الأدلة، ويحكم عقله دون تقليد الآباء والأسلاف، أن يحكم عقله وينظر بعلمٍ وبصيرةٍ: ماذا تُجدي عليه آلهتهم؟ وماذا يُجدي عليه قوله الباطل، وإصراره على الباطل، وتقليده الأعمى لغيره؟ وقد أعطاه الله عقلًا وسمعًا وبصرًا: يعقل به، ويسمع به، ويُبْصِر به؛ ولهذا عاب اللهُ على المشركين قولهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23]، فما بال القرون الأولى؟! الله أعطاها عقلًا، انظر ولا تهلك مع مَن هلك.

ويقول سبحانه: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، نسأل الله العافية.

كثيرٌ من الناس شابَهَ هؤلاء في الأحكام الأخرى؛ فعطَّل عقله، وعطَّل ما أعطاه الله من البصيرة، واكتفى بأن يتبع فلانًا وفلانًا، ويُقلِّد فلانًا وفلانًا، ويُعْرِض عن الحُجَّة والدَّليل والبرهان، وهذا مُشابهة لأعداء الله من المشركين: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].

والله أوحى إلى أنبيائه جميعًا أن يُبلِّغوا الناس أنَّ إلههم واحدٌ، وأنَّ عليهم طاعة الرسل، وترك الهوى، ونبَّه سبحانه في قوله : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، فنبَّه على وجوب التَّحاكم إلى الكتاب والسُّنة، والحذر من التَّحاكم إلى آراء الرجال المجردة، أو إلى الآباء والأجداد، أو إلى غيرهم من الناس، كما قال جلَّ وعلا: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، هذا هو شأن العُقلاء: ينصاعون للحقِّ، ويأخذون به، وتنفعهم هذه الأدلة، وينفعهم هذا التَّقريع والتَّوبيخ، أمَّا مَن عطَّل عقله وشابه البهائم فإنَّه لا يضرّ إلا نفسه، وسوف يندم في العاقبة، نعم.

وَقَوْلُهُ: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ أَيْ: كَيْفَ أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أيْ حُجَّة. وهذا كقوله تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، وقوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم:23].

وَقَوْلُهُ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: فأي طائفتين أَصْوَبُ: الَّذِي عَبَدَ مَنْ بِيَدِهِ الضُّرّ وَالنَّفْع، أَوِ الَّذِي عَبَدَ مَنْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ بِلَا دَلِيلٍ؟ أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ أَيْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ هُمُ الْآمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمُهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

الشيخ: وهذا حكمٌ من الله، سأل: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، ثم قال: الَّذِينَ آمَنُوا [الأنعام:82]، هؤلاء هم الآمنون، هم المصيبون.

قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟! فَنَزَلَتْ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا الأعمشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذَلِكَ على الناس، فقالوا: يا رسول الله، أيّنا لم يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟! قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؟ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ.

الشيخ: والمعنى أنَّ قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يعني: وحَّدوا الله، وخصّوه بالعبادة، وصدّقوا رسله، ومنهم محمد عليه الصلاة والسلام، وَلَمْ يَلْبِسُوا هذا الإيمان بشركٍ، لم يخلطوه، اللَّبس: الخلط، إِيمَانَهُمْ يعني: توحيدهم لله وإيمانهم به، نزَّهوه عن الشِّرك، وبرَّؤوه من الشِّرك، ولم يخلطوه بشركٍ، لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ، وإن كان عند بعضهم معاصٍ، فالمعصية لا تمنع جنس الأمن وجنس الهداية، وإن كانت المعصيةُ تنقص الأمن وتنقص الهداية، ويكون صاحبُها أمنه غير كاملٍ، وهدايته غير كاملةٍ، لكن له جنس الأمن، وله أصل الأمن، وله أصل الهداية، وهو ناجٍ من النار إن عفا الله عنه، أو من الخلود فيها بكل حالٍ، ليس كالكفّار، فهو آمنٌ من الخلود، وإن كان على خطرٍ من دخولها بمعاصيه، لكن مَن سلم من الظّلم كلّه له الأمن الكامل، مَن سلم من ظلم الشِّرك، وظلم المعاصي، وظلم الناس حصل له الأمن الكامل، والهداية الكاملة، ولكن مَن لم يسلم من ظلم الناس أو ظلم النفس يكون أمنُه فيه نقصٌ، وتكون هدايتُه فيها نقصٌ، لكن جنس الأمن وجنس الهداية حاصلٌ بحمد الله.

س: يُحمل الشِّرك على الشِّرك الأصغر؟

ج: حتى مع الشِّرك الأصغر لا يفوته أصلُ الأمن، ولا يفوته أصل الهداية؛ لأنَّ صاحب الشِّرك الأصغر لا يخلد في النار، إذا دخلها يُعذَّب على قدر شركه، مثل الكبائر، نعم.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وابنُ إدريس، عن الأعمش، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالُوا: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَيْسَ كما تظنون، إنما هي كما قال لقمانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

وَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ تغلب النَّمَرِيُّ.

الشيخ: المعروف: عمرو بن تغلب، أيش عندكم؟

الطلاب: عمر بن شبّة النّمري.

الشيخ: عمر بن شبّة، ما هو بتغلب، هو النّمري، عمرو بن تغلب غير هذا .....، هذا عمر بن شبّة، صاحب "أخبار مكة"، و"أخبار المدينة"، له كتب كثيرة جيدة، نعم.

وَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شبّة النَّمَرِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فنزلت: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. رواه البخاري.

وفي لفظٍ: قالوا: أيُّنا لم يظلم نفسه؟! فقال النبيُّ ﷺ: ليس بالذي تَعْنُونَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؟ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ.

ولابن أبي حاتم عن عبدالله مرفوعًا قال: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ: بِشِرْكٍ.

قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَلْمَانَ، وَحُذَيْفَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، وَأَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، والنَّخَعِيِّ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وغير واحدٍ نَحْوُ ذَلِكَ.

الشيخ: وهذا مثل قوله جلَّ وعلا: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]، فالظلم عند الإطلاق هو الظلم الأكبر والشِّرك الأكبر، نسأل الله العافية، نعم.

وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَدَّادٍ الْمِسْمَعِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قِيلَ لِي: أَنْتَ مِنْهُمْ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَنَابٍ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا بَرَزْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِذَا رَاكِبٌ يُوضِعُ نَحْوَنَا.

الشيخ: يُوضِع يعني: يُسْرِع.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَأَنَّ هَذَا الرَّاكِبَ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ، فَانْتَهَى إِلَيْنَا الرَّجُلُ فَسَلَّمَ، فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِي وَوَلَدِي وَعَشِيرَتِي. قَالَ: فَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ رسولَ الله ﷺ. قال: فَقَدْ أَصَبْتَهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي ما الإيمانُ؟ قال: أن تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيم الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُوم رَمَضَانَ، وَتَحُجّ الْبَيْتَ، قَالَ: قَدْ أَقْرَرْتُ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ بَعِيرَهُ دَخَلَتْ يَدُهُ فِي شبكة جُرْذَانٍ؛ فَهَوَى بَعِيرُهُ، وَهَوَى الرَّجُلُ، فَوَقَعَ عَلَى هامته فمات.

الطالب: في جُحر جرذان، وعنده: في شبكة جُرذان.

الشيخ: مُحتمل، يمكن، يعني: الجحر ملتوٍ، الجحر ملتوٍ على عادته، فصار كالشّبكة، المقصود أنَّ في سنده ضعفًا، وله شاهدٌ من حديث ابن عباس: اللَّحد لنا، والشقّ لغيرنا، كلاهما فيه ضعفٌ؛ لأنَّ أبا جناب يضعف في الحديث، انظر: أبا جناب.

الطالب: أبو جناب يحيى ابن أبي حيلة -بمُهملةٍ وتحتانيَّةٍ- الكلبي، أبو جناب -بجيم ونون ..... موحّدة- مشهور بها، ضعَّفوه لكثرة تدليسه، من السادسة، مات سنة خمسين أو قبلها. (أبو داود، والترمذي، وابن ماجه).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَلَيَّ بِالرَّجُلِ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فَأَقْعَدَاهُ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُبِضَ الرَّجُلُ. قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَمَا رَأَيْتُمَا إِعْرَاضِي عَنِ الرَّجُلِ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ ملكين يَدُسَّانِ فِي فِيهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَاتَ جَائِعًا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَذَا مِنَ الَّذِينَ قال اللهُ فيهم: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ الآية، ثم قال: دونكم أخاكم، فَاحْتَمَلْنَاهُ إِلَى الْمَاءِ، فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ، وَحَمَلْنَاهُ إِلَى الْقَبْرِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى جَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَقَالَ: الْحدُوا وَلَا تَشُقُّوا؛ فَإِنَّ اللَّحْدَ لَنَا، وَالشَّقَّ لِغَيْرِنَا.

ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْوَدَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِالْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْفَرَّاءِ.

الطالب: عَبْدالحميد بْن جَعْفَر بْن عَبْدالله بْن الحَكَم بْن رافع، الأنصاريُّ، صدوقٌ، رُمِيَ بالقدر، وربما وهم، من السادسة.

عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَقَالَ فِيهِ: هَذَا مِمَّنْ عَمِلَ قَلِيلًا، وَأُجِرَ كَثِيرًا.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ: حَدَّثَنَا مِهْرَانُ ابْنُ أَبِي عمر: حدَّثنا علي بن عبدالله، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي مَسِيرٍ سَارَهُ، إِذْ عَرَضَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَقَدْ خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي وَتِلَادِي وَمَالِي لِأَهْتَدِيَ بِهُدَاكَ، وَآخُذَ مِنْ قَوْلِكَ، وَمَا بَلَغْتُكَ حَتَّى مَا لِي طَعَامٌ إِلَّا مِنْ خَضِرِ الْأَرْضِ، فَاعْرِضْ عَلَيَّ. فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَبِلَ، فَازْدَحَمْنَا حَوْلَهُ، فَدَخَلَ خُفُّ بَكْرِهِ فِي بَيْتِ جُرْذَانٍ، فَتَرَدَّى الْأَعْرَابِيُّ فَانْكَسَرَتْ عُنُقُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: صَدَقَ وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، لَقَدْ خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ وَتِلَادِهِ وَمَالِهِ لِيَهْتَدِيَ بِهُدَايَ، وَيَأْخُذَ مِنْ قَوْلِي وَمَا بَلَغَنِي، حَتَّى مَا لَهُ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ خَضِرِ الْأَرْضِ، أَسَمِعْتُمْ بِالَّذِي عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا؟ هَذَا مِنْهُمْ، أَسَمِعْتُمْ بِالَّذِينِ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]؟ فإنَّ هذا منهم. وفي لفظٍ قال: هذا عمل قليلًا وأُجِرَ كثيرًا.

وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يعلى الكوفي -وَكَانَ نَزَلَ الرَّيَّ- حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ سخبرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَمُنِعَ فَصَبَرَ، وَظَلَمَ فاستغفر، وظُلِمَ فغفر وسكت. قال: فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَهُ؟ قَالَ: أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.

س: .............؟

ج: ليُوضّح لهم الحقّ.

س: .............؟

ج: الظاهر أنَّه أولًا كان أراد لإيضاح الأمر، وللاستدلال في هذه المخلوقات على قُدرة الخالق، ثم أوضح لهم بعد ذلك أنَّ هذه الحجّة كافية في إبطال ما هم عليه من الباطل -من الشِّرك- لأنَّ الله هو خالق هذه الأشياء التي ..... بقُدرته العظيمة، فهو يحتمل أن يكون قال ذلك أولًا عن شكٍّ، وعن التماسٍ للدَّليل، ثم ظهر له الدَّليلُ، وهذا على قول مَن قال: مُناظرًا، إمَّا قالها مناظرًا، أو قالها على سبيل إظهار الحجّة لهم، يعني: أهذا ربي؟ أهذا الربّ الذي يفعل كذا وكذا؟ ليس الربّ كذلك.

س: الأقرب من القولين؟

ج: فيه احتمالٌ، وكلام ابن كثير جيد، المراد به المناظرة، وأنه يبعد أن يكون عن شكٍّ منه عليه الصّلاة والسلام؛ لأنَّ الله بعثه، وأخبر أنَّه قال لأبيه ما قال .....، فلا بدَّ أن يكون مناظرة ..... لأبيه قبل ذلك: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [الأنعام:74]، فدلّ على أنها مُناظرة، إنما أرادها لإفهامهم الحقّ، ولإلجامهم ما يمنع استمرارهم في الباطل؛ لأنَّ هذه الكواكب بلا شكّ أنها مخلوقة مربوبة، فيتبين بذلك بطلان ما هم عليه من الأصنام الجامدة التي ليست مثل هذه، فإذا كانت هذه مخلوقة فكيف بالجماد الذين ..... بأيديهم، ويأخذونه من الجبال.

س: ............؟

ج: ..... وقد يُقال: إنَّ الله جلَّ وعلا قال بعد ذلك: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75] أنه .....

س: ............؟

ج: المقصود أنَّ مقام الآية يحتاج لمزيد عنايةٍ، ولا يُكتفى بما ذكره ابنُ كثيرٍ رحمه الله، يحتاج إلى مزيد عنايةٍ في الموضوع، ولعلّ من الصواب أن يُقال: ناظر ومناظر؛ ناظر أولًا، ثم مناظر ثانيًا، ناظر أولًا والله أراد له أن يكون من الموقنين؛ حتى لا يعتريه لبسٌ بعد أن بيّن لقومه بطلان ما هم عليه، ثم أراه الله هذا الملكوت ليزداد يقينًا، ليزداد بصيرةً، ثم ناظرهم بعد ذلك، ناظر قومه بعدما أخبرهم وأخبر أباه أنه يراهم في ضلالٍ مبينٍ.

س: يعني ناظر قبل النّبوة؟

ج: ظاهر قوله: وَكَذَلِكَ يقتضي أنَّه بعد ذلك، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي: ليزداد يقينًا، مثل قوله جلَّ وعلا في آية البقرة: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260] أي: لمزيد إيقانٍ، فإنَّ اليقين يتنوّع، كلما زادت الأدلةُ وزادت الحُجَجُ زاد اليقين، فلا يلزم الشَّك، لكن يلزم من ذلك اليقين، يتضاعف ويزداد بالأدلة والحُجج، فهو على يقينٍ، استحقَّ النبوة، وأوحى الله إليه، وحاجّه قومه، وقال لهم: إنهم في ضلالٍ مبينٍ، ومع هذا أراه اللهُ هذه الآيات ليزداد يقينًا، ويزداد نورًا وبصيرةً.