وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59].
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].
وفي حديث عمر: أَنَّ جِبْرِيلَ حِينَ تَبَدَّى لَهُ فِي صُورَةِ أعرابيٍّ، فسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ فيما قاله لَهُ: خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:59] أَيْ: محيطٌ عِلْمُهُ الْكَرِيمُ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ: بَرِّيِّهَا وَبَحْرِيِّهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَا مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَمَا أحسن ما قال الصّرصري: [الوافر]
فَلا يَخْفَى عَلَيْهِ الذَّرُّ إمَّا | تَرَاءَى لِلنَّوَاظِرِ أَوْ تَوَارَى |
وَقَوْلُهُ: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا [الأنعام:59] أَيْ: وَيَعْلَمُ الْحَرَكَاتِ حَتَّى مِنَ الْجَمَادَاتِ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْحَيَوَانَاتِ، وَلَا سِيَّمَا الْمُكَلَّفُونَ مِنْهُمْ مِنْ جِنِّهِمْ وَإِنْسِهِمْ؟! كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سعيد بن مسروقٍ: حدَّثنا حَسَّانُ النَّمَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا [الأنعام:59] قَالَ: مَا مِنْ شَجَرَةٍ فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ إِلَّا وَمَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهَا، يَكْتُبُ مَا يَسْقُطُ منها. رواه ابنُ أبي حاتم.
وَقَوْلُهُ: وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ يَزِيدَ ابْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ من شجرةٍ ولا مغرز إبرةٍ إلا وعليها مَلَكٌ مُوَكَّلٌ يَأْتِي اللَّهَ بِعِلْمِهَا: رُطُوبَتِهَا إِذَا رطبت، ويبوستِها إِذَا يَبِسَتْ.
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ زِيَادِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ الْحَسَّانِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ سُعَيْرٍ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ النُّونَ -وَهِيَ الدَّوَاةُ- وَخَلَقَ الْأَلْوَاحَ، فَكَتَبَ فِيهَا أَمْرَ الدُّنْيَا حَتَّى يَنْقَضِيَ مَا كَانَ مِنْ خَلْقٍ مَخْلُوقٍ، أَوْ رِزْقٍ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، أَوْ عَمَلِ بِرٍّ أَوْ فُجُورٍ. وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ يَحْيَى بْنِ النَّضْرِ، عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: إِنَّ تَحْتَ الْأَرْضِ الثَّالِثَةِ وَفَوْقَ الرَّابِعَةِ مِنَ الْجِنِّ مَا لَوْ أَنَّهُمْ ظَهَرُوا -يَعْنِي لَكُمْ- لَمْ تَرَوْا مَعَهُمْ نُورًا، عَلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْأَرْضِ خَاتَمٌ مِنْ خَوَاتِيمِ اللَّهِ ، عَلَى كُلِّ خَاتَمٍ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَلَكًا من عنده: أن احتفظ بما عندك.
الشيخ: وهذا الأثر الأخير من أخبار بني إسرائيل؛ لأنَّ عبدالله بن عمرو بن العاص عنده زاملتان تلقَّاهما من أخبار أهل الكتاب يوم اليرموك، فصار يُحدِّث منهما من أخبار بني إسرائيل.
والمقصود من هذه الآية بيان إحاطة علم الله بكل شيءٍ، وأنه يعلم كلَّ شيءٍ، ولا تخفى عليه خافيةٌ: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ، وهي خمسٌ لا يعلمهنَّ إلا الله، وهو العالم بكلِّ ما في الوجود، وبكل ما يأتي في آخر الزمان، وكل ما يأتي بعد ذلك، كما قال جلَّ وعلا: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، وقال جلَّ وعلا: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231]، وقال: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، وهو سبحانه قد أحاط علمُه بكل شيءٍ من الحيوانات والجمادات، وما هو موجود، وما هو غائب، وما سيكون إلى يوم القيامة، إلى غير ذلك، فالعلم محيطٌ بكل شيءٍ.
فالواجب على المكلَّف أن يحذر إقدامه على ما حرَّم الله، أو تفريطه فيما أوجب الله، فإنَّ الله جلَّ وعلا يُحصي عليه أعماله وأقواله وجميع ما يصدر منه، فيُجازيه على ذلك: إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، كما قال جلَّ وعلا في كتابه العظيم: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7- 8]، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، ويقول سبحانه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا يعني: قليلًا ولا كثيرًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
هذا يدل على سعة العلم: أنَّه لا تخفى عليه خافية من أعمالك وغير ذلك، فعليك أن تُؤمن بالله، وأن تعمل على مُقتضى هذا العمل بالمسابقة إلى الخيرات، والحذر من السّيئات، والثَّبات على الحقِّ، والتَّعاون على البرِّ والتَّقوى.
وقوله: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ يعني: ما يكون في الأرحام من الأجنة، لا يعلم ما يقع في الرحم سواه ، لكن متى تخلّقت في الرحم قد يعلم الإنسانُ بواسطة الأجهزة والآلات التي هداهم الله لها، قد يعلم ما هناك من وراء الحائل، وأما أصل ما في الرحم فلا يعلمه إلا الله ؛ ولهذا قال: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ.
وهكذا نزول الغيث لا يعلمه إلا هو سبحانه، فإذا انعقدت أسبابه وظهرت علاماته استدلّ بذلك مَن يخبره ويتبعه على ما قد يقع، وقد يُصيب، وقد يُخطئ، قد يُصيب بظهور العلامات، وقد يُخطئ فلا يقع ما ظنَّ، وهكذا مَن ينظر في الأرحام بعد وجود الأجنة من الأطباء قد يُخطئون، وقد يُصيبون فيما يتعلق بالأجهزة التي يستعملونها، أمَّا قبل التَّخليق فلا يعلم ما يقع في الأرحام من هذه النُّطَف والعلقات، ما يعلم ما تصل إليه إلا هو .
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:60- 62].
يقول تَعَالَى أَنَّهُ يَتَوَفَّى عِبَادَهُ فِي مَنَامِهِمْ بِاللَّيْلِ، وَهَذَا هُوَ التَّوَفِّي الْأَصْغَرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، وَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَفَاتَيْنِ: الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ حُكْمَ الْوَفَاتَيْنِ: الصُّغْرَى، ثُمَّ الْكُبْرَى، فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ أَيْ: وَيَعْلَمُ مَا كَسَبْتُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالنَّهَارِ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ دَلَّتْ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، في حال سكونهم، وحال حَرَكَتِهِمْ، كَمَا قَالَ: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد:10]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أَيْ: فِي اللَّيْلِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص:73] أَيْ: فِي النَّهَارِ، كَمَا قَالَ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ:10- 11]؛ ولهذا قال تعالى هَاهُنَا: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ أي: ما كسبتم من الأعمال فيه، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [الأنعام:60] فِيهِ أَيْ: فِي النَّهَارِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ والسُّدِّيُّ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ: أَيْ فِي الْمَنَامِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
الشيخ: وهذه الوفاة الصُّغرى من الدَّلائل على الوفاة الكبرى، هذا النوم وفاة وموت، وهو يدل على ما وراءه من الموت الأكبر والوفاة الكبرى التي بها تنتهي حركاته وشعوره بكل شيءٍ، حتى يبعثه الله جلَّ وعلا، وهو خلقه، وهو الذي يُميته ويُحييه.
فالواجب على المكلَّف أن يعدّ العُدّة لهذه الوفاة والوفاة الأخرى، فلا بدَّ من وفاةٍ يُحاسَب بعدها، ويُجزى على أعماله، كما أنه يُشاهد هذه الوفاة الصُّغرى التي هو يشعر بها في نومه في ليله ونهاره، يذهب شعوره، ويكون في عالـمٍ آخر، ثم يردّ اللهُ عليه روحَه، وترجع إليه الحياة، فالذي ذهب بالروح ثم ردَّها في هذه الدَّار بالوفاة الصّغرى هو الذي يذهب بها ويردّها في الوفاة الكبرى، والوفاة الكبرى بعدها الحساب والجزاء في البرزخ، وفي الآخرة بعد البعث والنُّشور.
فما أولاك يا عبدالله بأن تعدّ لهذه الوفاة عدّتها قبل أن تقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24]، يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56]، أنت الآن في دار المهلة، في دار العمل، دار التَّمني، فبادر إلى الإعداد وأخذ الزاد ما دمت في هذه الدار، دار المهلة، ودار العمل، ودار الكسب والجدّ، والموفّق مَن وفَّقه اللهُ، وأغلب الخلق يُفرّط في هذه الحياة، ويُعرض عن الحياة الأخرى، ويُشغل بعاجل حياته من شهواته ولذَّاته حتى لا يفيق إلا وهو في عسكر الموتى، فيتمنى حين لا ينفع التَّمني، ويودّ حين لا تكون هناك قُدرة على العمل.
س: قوله في الأثر: "خاتم من خواتيم الله" ما المقصود به؟
ج: الله أعلم.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدِهِ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَعَ كُلِّ إنسانٍ ملكٌ، إذا نام أخذ نفسَه ويردّه إِلَيْهِ، فَإِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي قَبْضِ رُوحِهِ قَبَضَهُ، وَإِلَّا رُدَّ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام:60].
وَقَوْلُهُ: لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى يَعْنِي بِهِ أَجَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ أَيْ: فَيُخْبِرُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأنعام:60] أَيْ: وَيَجْزِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ: إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
الشيخ: هذه العبارة تجري على الألسنة ..... إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، المعنى: إن كان خيرًا فالجزاء خيرٌ، وإن كان شرًّا فالجزاء شرٌّ، نسأل الله العافية.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:61] أي: وهو الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَضَعَ لِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ كُلُّ شَيْءٍ.
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الأنعام:61] أَيْ: من الملائكة، يحفظون بدن الإنسان، كقوله: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، وَحَفَظَة يَحْفَظُونَ عمله ويُحصونه، كقوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ الآية [الانفطار:10]، وكقوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17- 18]، وقوله: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ الآية [ق:17].
وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أَيِ: احْتَضَرَ وَحَانَ أَجَلُهُ، تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا [الأنعام:61] أَيْ: مَلَائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَعْوَانٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُخْرِجُونَ الرُّوحَ مِنَ الْجَسَدِ فَيَقْبِضُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ إِذَا انْتَهَتْ إِلَى الْحُلْقُومِ.
وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إبراهيم:27] الْأَحَادِيثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذَلِكَ، الشَّاهِدَةُ لِهَذَا الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ بِالصِّحَّةِ.
وَقَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61] أَيْ: فِي حِفْظِ رُوحِ الْمُتَوَفَّى، بَلْ يَحْفَظُونَهَا وَيُنْزِلُونَهَا حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ : إِنْ كَانَ مِنَ الْأَبْرَارِ فَفِي عِلِّيِّينَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْفُجَّارِ فَفِي سِجِّينٍ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام:62] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثُمَّ رُدُّوا يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ.