تفسير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ..} (1)

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ۝ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [الأنعام:91- 92].

يقول اللهُ تَعَالَى: وَمَا عَظَّمُوا اللَّهَ حَقَّ تَعْظِيمِهِ إِذْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ إِلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: فِي فِنْحَاصَ، رَجُلٌ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ. قالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.

وَالْأَوَّلُ أصحّ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَالْيَهُودُ لَا يُنْكِرُونَ إِنْزَالَ الْكُتُبِ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُرَيْشٌ وَالْعَرَبُ قَاطِبَةً كَانُوا يُنكرون إرسالَ محمدٍ ﷺ؛ لأنَّه من البشر، كما قال تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس:2]، وكقوله تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ۝ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء:94- 95]، وَقَالَ هَاهُنَا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.

الشيخ: والمعنى أنَّ هؤلاء المشركين من قريش وغيرهم، كلّ مَن كذَّب الرسل وكذَّب بالكتب هو داخلٌ في الآية من جميع الوثنيين والدَّهريين وجميع مَن أنكر الرِّسالات، كلهم ما عظَّموا الله حقَّ تعظيمه إِذْ قَالُوا يعني: حين قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ؛ لأنَّه تنقّصٌ لله أنَّه أهمل الناس، معنى هذا الكلام أنَّه سبحانه أهمل العباد، وأهمل الأمم، لم يُنذرهم، ولم يُنزل عليهم كتابًا يُقيم به الحجّة، هذا ذمٌّ وتنقُّصٌ لله ؛ ولهذا أنكر عليهم بقوله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حين قالوا هذه المقالة الشَّنيعة، والحقّ أنَّه سبحانه أنزل الكتابَ، وأرسل الرسل، وأقام الحجج، وأعذر إلى عباده، فما أهلك قومًا إلا وقد أعذرهم من أنفسهم.

فالواجب على ذي اللُّبِّ أن ينتبه لهذا الأمر، وأن يتعقَّل ما أنزل اللهُ على رسله، ويستفيد من ذلك، وأن يصدّق الحقّ، ويستقيم عليه، ويحذر الباطل ويبتعد عنه، وألا يغترّ بهؤلاء الهالكين الضَّالين الذين كذَّبوا الرسل، وأنكروا الرِّسالات جهلًا وضلالًا، أو عنادًا وبغيًا، نسأل الله العافية.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِإِنْزَالِ شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي جَوَابِ سَلْبِهِمُ الْعَامِّ بِإِثْبَاتِ قَضِيَّةٍ جُزْئِيَّةٍ مُوجِبَةٍ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى وهو التَّوْرَاةُ الَّتِي عَلِمْتُمْ وَكُلُّ أَحَدٍ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَهَا عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ، أَيْ: لِيُسْتَضَاءَ بِهَا فِي كَشْفِ الْمُشْكِلَاتِ، وَيُهْتَدَى بِهَا مِنْ ظُلَمِ الشُّبُهَاتِ.

وَقَوْلُهُ: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا أَيْ: تجعلون جُملتها قراطيس.

الشيخ: وهذا يدل على أنَّ اليهود داخلون في هذا، وأنَّ منهم مَن أنكر تنزيل الكتب؛ ولهذا قال: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ قل لهؤلاء الظَّالمين مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ داخلون في هذا المعنى؛ لإنكارهم ما جاء به النبيُّ ﷺ، وإنكارهم تنزيل القرآن، وتكذيبهم للحقِّ، وهذا إنما يُراد به مَن كذَّب منهم وأنكر منهم، لا مَن صدَّق؛ ولهذا ذمَّهم وعابهم في تحريف التَّوراة وجعلها قراطيس يُبدونها ويُخفون كثيرًا؛ لظُلمهم وعُدوانهم وكتمهم الحقّ، فيُخفون شيئًا، ويُبدون شيئًا.

أي: قِطَعًا تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم، وتحرفون منها ما تحرفون، وتُبدلون وتتأوَّلون، وتقولون: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:79] أَيْ: فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:78]؛ وَلِهَذَا قَالَ: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا.

وقوله تعالى: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ أَيْ: وَمَنْ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الَّذِي عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ خَبَرِ مَا سَبَقَ وَنَبَأ مَا يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك، لا أنتم، ولا آباؤكم.

وقد قَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هذه للمُسلمين.

قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ قَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ: قُلِ اللَّهُ أَنْزَلَهُ.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى قُلِ اللَّهُ أي: لا يكون خطابُك لَهُمْ إِلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةَ؛ كَلِمَةَ "اللَّهُ". وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ يَكُونُ أَمْرًا بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَرْكِيبٍ، وَالْإِتْيَانُ بِكَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ لَا يُفِيدُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ فَائِدَةً يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا.

الشيخ: وهذا من جنس ما يقوله بعضُ الصُّوفية في التَّعبد بالله: الله، هو، هو، هذا باطلٌ، ليس هذا للعبادة، قول "الله" قولًا مُجرَّدًا ما يأتي بشيءٍ، لا بدَّ من تتمَّةٍ: الله أكبر، أو الله العظيم، أو الله الخلَّاق، أو الله مُنزل التَّوراة والإنجيل، لا بدَّ من خبرٍ لهذه الكلمة، والتَّعبد بالله إنما هو من دين الخُرافيين، أهل البدع من أهل التَّصوف، وإنما الحقّ جملة كاملة: الله أكبر، أو لا إله إلا الله، أو اللهم مُنزل التوراة والإنجيل، الله مُنزل الكتب، الله خالق الخلق، الله خالق كل شيءٍ. هكذا تكون جملة.

والسياق يدل على أنَّ قل الله مُنزلها: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى إلى آخره، قل الله، أو الله الذي نزل الكتاب، هذا فاعل أنزل، قل الله الذي أنزل هذه الكتب، هو الذي أنزل التوراة، وأنزل الإنجيل، وأنزل القرآن، وأنزل الزبور، وأنزل ما قبلها من الكتب. فالله مبتدأ، وخبره محذوف: قل الله الذي أنزله.

وَقَوْلُهُ: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ أَيْ: ثُمَّ دَعْهُمْ فِي جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ يَلْعَبُونَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْيَقِينُ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَلَهُمُ الْعَاقِبَةُ أَمْ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؟

وَقَوْلُهُ: وَهَذَا كِتَابٌ يَعْنِي: الْقُرْآنَ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى يَعْنِي: مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، ومن سائر طوائف بني آدم، ومن عَرَبٍ وَعَجَمٍ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وَقَالَ: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، وَقَالَ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17].

الشيخ: والمعنى أنَّ الله جلَّ وعلا جعل القرآن نذيرًا للجميع، جعل محمدًا نذيرًا للجميع عليه الصلاة والسلام، فهو رسول الله إلى جميع الثَّقلين، فهو يُنذر بالقرآن جميع الثَّقلين، كما قال تعالى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ [إبراهيم:44]، وقال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ يُنذر قريشًا ونحوهم، ومَن بلغهم القرآن، وقال تعالى: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إبراهيم:52]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، وهو رسول الجميع، وإن كان بُعث في قريشٍ وفي العرب، فصاروا هم أول مَن تلقَّى الرسالة، لكنَّه رسول الجميع.

وَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، وَقَالَ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20].

وَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، وَذَكَرَ منهن: وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ أَيْ: كُلُّ مَنْ آمن بالله واليوم الآخر يؤمن بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [الأنعام:92] أي: يقومون بما فرض عليهم من أداء الصَّلوات في أوقاتها.

س: في بعض المحلّات يشترون ذهبًا مصوغًا بعملةٍ ورقيةٍ دَينًا، هل يجوز هذا، أو يشمله حديث: إذا اختلفت الأجناسُ فبيعوا كيف شئتُم إذا كان يدًا بيدٍ؟

ج: شراء حُلية الذَّهب بالعملة الورقية دَينًا هذا من الربا، فلا يجوز، لا بدَّ أن يكون يدًا بيدٍ كالنُّقود.