تفسير قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ..}

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:75- 76].

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ بأنَّ منهم الْخَوَنَةَ، وَيُحَذِّرُ الْمُؤْمِنِينَ مِن الِاغْتِرَارِ بِهِمْ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ أَيْ: مِنَ الْمَالِ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ أَيْ: وَمَا دُونَهُ بِطَرِيقِ الأولى أن يُؤدّيه إليه، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا أَيْ: بِالْمُطَالَبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ وَالْإِلْحَاحِ فِي اسْتِخْلَاصِ حَقِّكَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا صَنِيعهُ فِي الدِّينَارِ فَمَا فَوْقَهُ أولى ألّا يُؤدّيه إليه.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْقِنْطَارِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَأَمَّا الدِّينَارُ فَمَعْرُوفٌ.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ: حدَّثنا بقية، عن زياد بن الهيثم: حدَّثنا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الدِّينَارُ لأنَّه دينٌ ونارٌ. وقيل: معناه مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ فَهُوَ دِينُهُ، وَمَنْ أَخَذَهُ بغير حقِّه فله النَّار.

الشيخ: هذا الكلام في معنى الدِّينار ليس بشيءٍ، كلام يتخرّصه المتخرِّصون، أما الدِّينار فاسم العملة المعروفة من الذَّهب، والدِّرهم كذلك اسم العملة من الفضّة، والناس لهم في تسمية العملات اصطلاحات فيما بينهم، يُسمّونها بما يشتهر بينهم، وبما يُعرف بينهم، سواء كان ذهبًا أو فضَّةً، لكن المقصود أنَّ اليهود قسمان:

قسم يُؤدي الأمانة: قليلةً أو كثيرةً، المؤمن منهم، لا كلامَ فيه، مَن كان مؤمنًا بالله وباليوم الآخر ومُصدِّقًا لمحمدٍ عليه الصلاة والسلام، فهذا إيمانه يحمله على ذلك، تقواه لله تحمله على ذلك. ومنهم مَن عنده إيمانٌ بكتبه السَّابقة وبالتّوراة، ويحمله إيمانُه الذي عنده على أداء الأمانة وإن كان كافرًا بمحمدٍ ﷺ وبعيسى عليه الصلاة والسلام.

ومنهم مَن هو خبيث العقيدة، خائنٌ، لا يُؤدّي: لا قليلًا، ولا كثيرًا؛ لكفره وعدم إيمانه.

والمقصود من هذا تحذير الأمّة المحمدية أن تشبّه بهؤلاء الخونة، وأن تكون مثلهم، وأنَّ الواجبَ على المؤمن أن يُؤدي الأمانة: قليلها وكثيرها، وألا يتشبّه بأعداء الله من اليهود الخائنين المعرِضين عن الحقِّ، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]، هذا من أوصاف المؤمنين، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، هذا يعمّ أمانة الدِّين وأمانات الدّنيا.

أمانة الدِّين: بأن يُحافظ على ما أوجب اللهُ عليه من توحيده والإخلاص له، ومن أداء الصَّلاة كما شرع الله، والزكاة كما شرع الله، والصيام كما شرع الله، والحجّ كما شرع الله، إلى غير ذلك. هذه أمانةٌ عظمى.

وأمانة الناس كذلك، وودائعهم، ورهونهم، وعواريهم، وغير ذلك، وديونهم، يجب أن تُؤدّى في غاية الأمانة، وغاية الصِّدق، والاحتياط.

وأهل الكتاب فيهم المؤمن -وهم القليل- وفيهم الكافر -وهم الكثير- قال تعالى في كتابه العظيم: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ أي: طائفة يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران:113- 115]، فيهم هؤلاء الأخيار، فيهم أهل الإيمان، ومنهم مَن أدرك النبيّ ﷺ: كعبدالله بن سلام فأسلم.

فالحاصل أنَّ اليهود والنَّصارى فيهم الطوائف المؤمنة، وفيهم الكافرة، وقد افترقوا على إحدى وسبعين فرقة: اليهود، والنصارى ثنتان وسبعين فرقة، فرقة ناجية، والأكثر هالكة، وهكذا هذه الأمّة افترقت على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وإذا كان الأكثرُ هالكين والنَّاجون هم القليل كان هذا مما يُحفز المؤمن والمؤمنة على الحذر، إذا كان الهالكُ هم الأكثر، والنَّاجون هم الأقلّ، فهذا يُوجب على المؤمن وعلى ذي العقل أن يهتمّ بالأمر، وأن يحذر أن يكون مع الهالكين، وأن يُحاسِب نفسَه دائمًا لعله ينجو، لعله يستقيم؛ حتى يكون من الطائفة النَّاجية السَّليمة، في أي مكانٍ، وفي أي عصرٍ، لا يغفل، ولا يتساهل، ولا يأخذه تيار الضَّلالة، تيار الفسق، تيار الهوى، تيار حبّ الدنيا، فليحذر التيارات الكثيرة، بل الغالبة، فإنها مُهلكة، وليحرص على التَّخلق بأخلاق أهل الإيمان، والاستقامة على صفاتهم الحميدة حتى يلقى ربَّه، ومنها أداء الأمانة، من صفات المؤمنين: التقوى، وأداء الأمانة الدِّينية والدّنيوية، هذه من صفاتهم العظيمة: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8].

س: إسناد حديث سعيد بن عمرو السّكوتي، بالتاء؟

ج: السّكوني بالنون، السّكوني.

ومناسب أن يذكر هَاهُنَا الْحَدِيثَ الَّذِي رواه الْبُخَارِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ "صَحِيحِهِ"، وَمِنْ أَحْسَنِهَا سِيَاقُهُ فِي كِتَابِ "الْكَفَالَةِ" حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: ائْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا. قَالَ: صَدَقْتَ. فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثم التمس مركبًا يركبها ليقدم عليها في الأجل الذي أجّله، فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أني استسلفتُ فلانًا ألف دينارٍ، فسألني شهيدًا فقلتُ: كفى بالله شهيدًا، وسألني كَفِيلًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِك، وَإِنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ.

فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ لينظر لَعَلَّ مَرْكَبًا يَجِيئُهُ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ.

ثُمَّ قَدِمَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ، فَأَتَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا؟! قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا.

هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي موضعٍ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، وَأَسْنَدَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنَ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ صَالِحٍ -كَاتِبِ اللَّيْثِ- عَنْهُ.

وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ" هَكَذَا مُطَوَّلًا عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ، عَنِ اللَّيْثِ بِهِ.

وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي "مُسْنَدِهِ" عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عُمَرَ ابْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِنَحْوِهِ. ثُمَّ قَالَ: لَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. كَذَا قَالَ، وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا تَقَدَّمَ.

الشيخ: وهذه من آيات الله، هذا الرجل من القسم الذي قال اللهُ فيه: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75]، هذا منهم، من بني إسرائيل الأمناء الأخيار، الذين عمرت قلوبُهم بالإيمان وبالأمانة، هذا من حرصه على أداء الأمانة والوفاء بالوعد وضع الدَّنانير في الخشبة، وزجّج عليها، ومعها الصَّحيفة، وهو ما يظنّها تصل؛ ولهذا قال: "ألم أقل لك إني ما وجدتُ مركبًا؟!"، هذا مما في قلبه من الحرص على أداء الأمانة والوفاء بالوعد وضع هذه الخشبة، ووضع فيها الدَّنانير، ووضع فيها الصَّحيفة من شدّة ما في قلبه من الحرص على أداء الحقِّ، فالله جلَّ وعلا ساقها إليه في البحر حتى وصلت إلى محلِّ الرجل.

هذا الرجل اقترض ألف دينارٍ مثلما سمعتُم، ألف دينارٍ من شخصٍ فيمَن قبلنا، حكاه الرسولُ ﷺ لنا للعبرة والعِظَة والذِّكْرى، في أخبار بني إسرائيل عِظَة، ويحكيها النبيُّ ﷺ لما فيها من العِظَات والذِّكْرَى؛ رجلٌ احتاج إلى ألف دينارٍ، فجاء إلى صاحبٍ له وقال: سلفني ألف دينارٍ. فقال: هاتِ الشّهود. فقال: كفى بالله شهيدًا. هاتِ كفيلًا. قال: كفى بالله كفيلًا. يعني: إن شاء الله أُؤدِّيها لك، ما يحتاج ..... كفى بالله. فأعطاه الألفَ، واتَّفق معه على أجلٍ يُحضرها فيه، فسافر الرجلُ، فلما قرب الأجلُ التمس مركبًا، وما وجد مركبًا حتى يرجع إلى بلده يُؤدِّي الألف، فمما في نفسه من الحرص والرَّغبة في أداء الحقِّ أخذ خشبةً ونقرها، وجعل فيها ألفَ دينارٍ، وجعل فيها صحيفةً: من فلانٍ إلى فلانٍ، هذه دنانيرك. وزجَّج عليها، يعني: لحم عليها بلحامٍ قويٍّ حتى لا يدخلها الماءُ، ثم طرحها في البحر وقال: اللهم إني اقترضتُ من فلانٍ كذا، وطلب شهودًا فقلتُ: كفى بالله شهيدًا، وطلب كفيلًا فقلتُ: كفى بالله كفيلًا، وإني أستودعك إيَّاها. فألقاها والله ساقها إلى صاحبها، خرج صاحبُه ذات يومٍ يلتمس حطبًا لأهله، فوجد الخشبةَ في الميناء، فأخذها وكسرها فوجد الصَّحيفةَ والمال.

فلما قدم جاءه بالألف، قال: هل بعثت إليَّ بشيءٍ؟ فقال: ألم أقل لك أنّي ما وجدتُ مركبًا؟! قال: إنَّ الله قد أدَّى عنك الذي بعثتَ إليَّ، ارجع بألفك.

هذا فيه بيان أنَّ الله جلَّ وعلا قد يحفظ على إنسانٍ ماله، وقد يُؤدِّي عنه بطرقٍ غريبةٍ وخطيرةٍ؛ وذلك لما في قلبه من الخير والحرص على الخير، وفي شريعتنا ما يجوز التَّفريط في هذا، لا يُلقي في البحر شيئًا، لكن هذا أخبر به النبيُّ ﷺ لبيان أنَّ مَن رُزِقَ الحرص على الأمانة ومَن أُعِينَ عليها ومَن اجتهد في أدائها يُعينه الله، ويُسهل اللهُ عليه الأداء.

وهذا من جنس الحديث الذي رواه البخاري في "الصحيح": يقول ﷺ: مَن أخذ أموالَ الناس يُريد أداءها أدَّى اللهُ عنه، ومَن أخذها يُريد إتلافَها أتلفه اللهُ، فهذا أخذها يريد أداءها فأدَّى اللهُ عنه.

فليحذر المؤمنُ من الخيانة أو العزم عليها وإرادتها، وليحرص على الأمانة وعلى أدائها بكل وسيلةٍ يستطيعها بما أباح الله، والله يُؤدِّي عنه، والدُّيون من ذلك.

س: .............؟

ج: هو بالخيار: إن فعلها فلا بأس، إن طلب الشهودَ فلا بأس، وإن وثق به فلا بأس، مثلما قال جلَّ وعلا: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283]، إذا رضي بالأمانة لا بأس.

س: .............؟

ج: داخلٌ فيه المكاتب وغير المكاتب، المستدين والمقترض والمكاتب وغيرهم، مَن أخذ أموالَ الناس يُريد أداءَها -عازمٌ بنيّته على الوفاء- فالله يُعينه ويُوفي عنه ، حتى في الآخرة إذا عجز في الدنيا أوفى اللهُ عنه في الآخرة.

وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أَيْ: إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى جُحُودِ الْحَقِّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي دِينِنَا حَرَجٌ فِي أَكْلِ أَمْوَالِ الْأُمِّيِّينَ -وَهُمُ الْعَرَبُ- فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّهَا لَنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَيْ: وَقَدِ اخْتَلَقُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَائْتَفَكُوا بِهَذِهِ الضَّلَالَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ الْأَمْوَالِ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَإِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ بُهْتٌ.

الشيخ: يعني يقول هذه المقالة الطَّائفة التي تستحلّ، وهي الطَّائفة الأولى، يقول هذه المقالة الذين إن تأمنهم بدينارٍ لا يُؤدُّونه، هم الذين يقولون: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، نسأل الله العافية، يعني أنهم ليسوا بشيءٍ، نحن أهل علمٍ، ونحن أهل دينٍ، هؤلاء أمّيون جهلة، ما علينا بأسٌ أن نأخذ أموالهم ونأكلها، هكذا يقولون ويفترون على الله الكذبَ؛ لظلمهم وخُبثهم وانحرافهم عن الهُدى.

س: لا زلنا أمّة أميّة؟

ج: لا زلنا أمّة أميّة نعم، القارئون هم الأقلّ، ونبيّنا أمّي عليه الصلاة والسَّلام.

س: ............؟

ج: الله أعلم، الله أعلم، المعروف عنهم الشَّر الآن، ولكن لا يمنع أن يكون فيهم مَن عنده أمانة في دينه، وقد لبس عليه ولم يهتدِ لدِين محمدٍ عليه الصلاة والسلام.

س: المقصود بالأُمِّيين العرب أم المسلمين أم جميع الأمم؟

ج: المراد هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، الأُمّيون، والمعروف عندهم هم العرب، الأُمّي الذي لا يكتب ولا يقرأ الكتابة.

قَالَ عَبْدُالرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أبي إسحاق الهمداني، عن أبي صَعْصَعَةَ ابْنِ يَزِيدَ.

الشيخ: انظر "التقريب": أبو صعصعة، أو صعصعة.

أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عباسٍ فقال: إِنَّا نُصِيبُ فِي الْغَزْوِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّجَاجَةَ وَالشَّاةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَقُولُونَ مَاذَا؟ قَالَ: نَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ بَأْسٌ. قَالَ: هَذَا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، إِنَّهُمْ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ لَمْ تَحِلَّ لَكُمْ أَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ. وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِنَحْوِهِ.

الشيخ: هذا هو الصّواب: إذا كانوا عندنا مُؤتمنين بالأمان، أو بالجزية، أو المعاهدة ما تحلّ لنا أموالهم إلا عن طيب نفسٍ، أو بعقدٍ شرعيٍّ، وليس لنا أن نسرق أموالهم، ولا أن نأخذ ما خفي عليهم منها، بل يجب أن نُؤدّي الأمانة، ولا نأخذ من أموالهم إلا بحقٍّ، أمَّا إذا كان بيننا وبينهم الحربُ والجهادُ فلنا أن نغتنم أموالهم، ونقتل أنفسهم، أمَّا إذا تمَّ بيننا وبينهم صلحٌ، أو عهدٌ وذمَّةٌ، أو جزيةٌ، أو دخلوا في الأمان، فنفوسهم محرّمة، وأموالهم كذلك، هم وغيرهم: اليهود والنَّصارى وغيرهم.

س: والذي بيننا وبينهم الآن هل هو سلمٌ أو حربٌ؟

ج: المعروف الآن أنَّه حربٌ بيننا وبين اليهود؛ لأنَّهم الآن ما تمّ بينهم وبين المسلمين صلحٌ، ما بيننا وبينهم الآن إلا الحرب.

س: .............؟

ج: هذا يرجع إلى ما يرى وليُّ الأمر؛ إن رأى قبولَ مُسالمتهم بدون جزيةٍ سالمهم بدون جزيةٍ، كما جرى في عهد النبي ﷺ في المدينة، وإن استطاع أن يأخذ الجزيةَ أخذ الجزية.

س: مَن أخذ أموالَ يهوديٍّ الآن؟

ج: إذا كان بيننا وبينهم حربٌ مثل: الفلسطيني ومَن معه، أما إذا جاءوا إلى دولةٍ أمَّنتهم لا ما يجوز أخذ شيءٍ، إذا دخل يهوديٌّ أمَّنوه: رسولٌ أو بيَّاعٌ، هذا ما يُؤخذ منه شيءٌ؛ لأنه مُؤمّن.

س: .............؟

ج: هذا يرجع إلى ولي الأمر، ولي الأمر المسلم إذا رأى المصلحةَ في مُهادنتهم وهادنهم إلى وقتٍ ما، والذي ينبغي أن يكون مدّة معلومة، مثلما هادن النبيُّ قريشًا عشر سنين، لكن إذا رأى أقلّ من ذلك أو أكثر من ذلك لا بأس، الله يقول: وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال:61]، إذا كان يُراعي المصلحة، ما هو الدنيا، مصلحة المسلمين، نعم.

س: أليس في ذلك تعطيلٌ للجهاد؟

ج: إذا قوي على الجهاد نبذ إليهم عهدَهم، إذا قوي على الجهاد ولم يُؤدُّوا الجزيةَ التي صُولحوا عليها، الربّ جلَّ وعلا ما حدَّ في هذا حدًّا، قال: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، والرسول ﷺ صالحهم على عشر سنين، ولم يقل: لا يجوز أكثر، لو رأى عشرين سنةً أو ثلاثين سنةً، على حسب قوّة المسلمين وضعفهم.

س: لكن عند القُدرة على الجهاد ينبذ إليهم عهدَهم بدون سببٍ؟

ج: لا، لا بدَّ من مراعاة الأسباب حتى تتم المدّة، أمَّا إذا كان ما في مدّة لا بدَّ أن ينظر في المصلحة؛ لأنَّ الموقّت يستطيع كلٌّ منهما أن يتشاورا في التَّحديد.

س: ..... يلزمه الجزية منهم؟

ج: إن استطاع المسلمون أخذوا الجزية، وإن لم يستطيعوا قاتلوا إن استطاعوا، فإن استطاعوا سالموا بدون جزيةٍ ولا قتالٍ، الأحوال مع أهل الكتاب ثلاثة أقسام: القسم الأول: دعوتهم إلى الإسلام، فإن أبوا يُدعون إلى الجزية، فإن أبوا فالأمر الثالث هو القتال.

وهكذا المجوس على هذه الأقسام الثلاثة: أولًا: دعوتهم إلى الإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فالقتال، إلا مع العجز، لا مانع من المصالحة ولو بدون جزيةٍ، مثلما صالحهم النبيُّ ﷺ في أول الإسلام، وبقوا معه في المدينة بدون جزيةٍ.

س: هل يجوز لهم أن يُظهروا عباداتهم في بلاد المسلمين؟

ج: لا، يُمنعون مع القُدرة، يُمنعون.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يحيى: حدَّثنا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا الْأَمَانَةَ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ.

الشيخ: وهذا مُرسلٌ، وشواهده كثيرة في الأمانة، نعم.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى [آل عمران:76] أي: لكن مَن أوفى بعهده واتَّقى مِنْكُمْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، الَّذِي عَاهَدَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ إِذَا بُعِثَ، كَمَا أَخَذَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ بِذَلِكَ، وَاتَّقَى مَحَارِمَ اللَّهِ، وَاتَّبَعَ طَاعَتَهُ وَشَرِيعَتَهُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا خَاتَمَ رسله وسيّدهم: فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.

الشيخ: في هذه الأيام الماضية يخوض الناسُ في مُؤتمر السلام، وهذا الخوضُ ما له محلّ، ينبغي للمؤمن في مثل هذا أن يسأل الله أن يُقدر ما هو الأصلح للمسلمين؛ لأنَّ هذه أمور فيها التباسٌ، ولا يُدرى ما عاقبتها، ولم تتولَّاها دولة إسلامية مستقلّة تستطيع أن تُطالب بحكم الإسلام، فليس في أيدي المسلمين الآن إلا الدّعاء بأن يجعل اللهُ في هذا المؤتمر ما هو الصَّالح للمسلمين، وما هو الخير للمسلمين، ويكفيه هذا؛ لأنَّ المطالبة بشيءٍ من الأمور ما لها محلّ؛ لأنَّ المسألة بين قوّتين: بين قوة الشيوعية، وقوة الرأسمالية، الولايات المتحدة والشيوعيين، ثم تتبعهم الدول الأخرى.

المقصود أنَّ هذا المؤتمر الآن مؤتمر لا يدري ما عاقبته إلا الله ، فالمطلوب من المسلم في مثل هذه الأمور أن يسأل الله الخير للمسلمين والعاقبة الحميدة، والدمار على الكافرين، وأن يكون فيما يتمّ في هذا المؤتمر أن يكون فيه الخير للمسلمين، وأن تكون العاقبةُ حميدةً.

س: لكن أليس من الأفضل أن يكون المسلمون على علمٍ بحقيقته .....؟

ج: ما في أيديهم شيءٌ الآن.

س: معرفة الحقِّ في هذا .....؟

ج: ما في أيديهم شيءٌ، ما في أيديهم إلا الدّعاء أنَّ الله يُوفّق المسلمين ويهديهم ويُصلح حالهم، وأنَّ الله يُقدّر لهم ما هو الأصلح، ليس في أيديهم الآن المساومة على شيءٍ، أو الاتّفاق على شيءٍ، ليس في يد دولة مسلمة مستقلّة أن تقوم بشيءٍ من هذا، ليس في أيدي المسلمين إلا الدّعاء بالتَّوفيق والصَّلاح فقط.

س: لو سلّموا القدس لليهود .....؟

ج: الواجب على المسلمين أن يمتنعوا، وأن يُجاهدوا في سبيل الله إذا تيسر، هذا الواجب عليهم، أسأل الله أن يُقيم لهم دولةً صالحةً تقوم بالواجب؛ لأنَّ الجهاد يحتاج إلى قوةٍ، وإلى اجتماعٍ وتعاونٍ، فإذا وُجدت قوّة تقوى على قتال اليهود، أحسن دولة أعلمها هذه الدولة السّعودية، وهي لا تستطيع الآن أن تُقابل هذه الأمم، فنسأل الله أن يُقوّيها ويُعينها على كل خيرٍ، ويحفظ عليها دينَها، ويجعلها من الهُداة المهتدين.

س: المسلمون إذا دعاهم العلماءُ إلى الجهاد وبيَّنوا لهم الحقّ يستجيبون، وتكون لديهم معرفة الحكم، يتشجَّعون إلى هذا ولو في المستقبل؟

ج: الدّعاء إلى الجهاد طيب، الدّعاء إلى الجهاد وبيان أنه فرضُ كفايةٍ على المسلمين طيب، أسأل الله أن يهديهم.

س: إذا كان من بين المفاوضين الآن نصارى يُمثلون المسلمين؟

ج: هذا تبع الفلسطينيين، تبع أهل البلد.