تفسير قوله تعالى: {..وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}

وقوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَيْ وَمَنْ جَحَدَ فَرِيضَةَ الْحَجِّ فَقَدْ كَفَرَ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ. قَالَ اللَّهُ فَأَخْصَمَهُمْ فَحَجَّهُمْ. يَعْنِي: فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَقَالُوا: لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا. وَأَبَوْا أَنْ يحجّوا، قال الله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُالله بن جعفر: حدَّثنا إسماعيلُ بن عبدالله بن مسعود: حدَّثنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَشَاذُّ بْنُ فَيَّاضٍ، قَالَا: حدَّثنا هلال أبو هاشم الخراساني: حدَّثنا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَن مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلَمْ يَحُجَّ بَيْتَ اللَّهِ فَلَا يَضُرُّهُ مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا؛ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].

وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ: حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ فَيَّاضٍ: حَدَّثَنَا هِلَالٌ أَبُو هَاشِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ. فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ.

الشيخ: وهذا ضعيفٌ عن عليٍّ؛ لأنَّ الحارث لا يُحتجّ به، ولو صحَّ فالمعنى أنه وسيلة للكفر، ترك الحجِّ وسيلة للكفر؛ ولهذا تقدّم عن ابن عباسٍ وجماعة أنَّ المراد بمَن كفر يعني: جحد الحجَّ وأنكره، أمَّا مَن يُؤمن به ويعلم أنَّه حقٌّ، ولكنه قد تساهل فلم يُبادر؛ فإنَّه لا يكفر، ولكن يكون عاصيًا إذا كان مُستطيعًا ولم يُبادر، هذا هو الصَّواب.

والمقصود من قوله: وَمَنْ كَفَرَ يعني: جحد الحجَّ، الكفر: السَّتر والجحد، مَن جحد وجوبه كان كافرًا؛ ولهذا اليهود لما جحدوا نبوةَ محمدٍ ﷺ ولم يُؤمنوا بما جاء به صاروا كفَّارًا، ولو آمنوا بجميع الرسل، كما أنهم كفروا أيضًا بإنكار نبوة عيسى عليه الصلاة والسلام، اليهود كفروا بإنكارهم نبوة عيسى، وكفروا أيضًا بإنكارهم نبوة محمدٍ عليه الصلاة والسلام وما جاء به.

فمَن أنكر شيئًا مما ثبت أنَّ الرسول جاء به عليه الصلاة والسلام بالثّبوت القطعي بالأدلة القاطعة والإجماع القاطع كفر، والحجّ من الفرائض المجمع عليها، والتي دلَّ عليها نصُّ القرآن والأحاديث الصَّحيحة المستفيضة المتواترة عن النبي ﷺ، فمَن جحده كفر، أما التِّرك عن تساهلٍ وكسلٍ فهو عند أهل العلم من أهل السّنة والجماعة معصية، خلافًا للخوارج، نعم.

س: هذا يشمل الصَّلاة؟

ج: الصَّلاة لها خصوصية، تركها كفرٌ أكبر، أما ترك الزكاة والصّيام والحجّ مع الإيمان فهذا كفرٌ أصغر، معصية، إذا كان مؤمنًا بذلك؛ يعلم أنَّ الحجَّ فرضٌ، وأنَّ الزكاة فرضٌ، وأنَّ الصوم فرضٌ، ولكن تساهل: أفطر في رمضان بغير عذرٍ يكون عاصيًا، أو أخَّر الزكاةَ، أو لم يزكِّ يكون عاصيًا، له الوعيد الشَّديد، نسأل الله العافية .....، وهكذا مَن تساهل في الحجِّ وهو قادرٌ على أدائه، مُستطيعٌ، يكون عاصيًا، لا كافرًا كفرًا أكبر عند أهل السّنة والجماعة، أما الصّلاة لا، فهي عمود الإسلام، لها خصوصية؛ مَن تركها كفر -نسأل الله العافية- على الصَّحيح، ولو كان مؤمنًا بوجوبها، أمَّا إذا جحد وجوبَها كفر عند الجميع، وهكذا لو جحد وجوبَ الزكاة، أو جحد وجوب صيام رمضان، أو جحد وجوب الحجِّ؛ هذا يكفر عند الجميع، نسأل الله العافية.

..........

وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْقُطَعِيِّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيِّ بِهِ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَهِلَالٌ مَجْهُولٌ، وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هِلَالٌ هَذَا مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.

وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَافِظُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِاللَّهِ ابْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ: حَدَّثَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ غنْمٍ: أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: مَنْ أَطَاقَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ يَهُودِيًّا مَاتَ أَوْ نَصْرَانِيًّا. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى عُمَرَ .

وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي "سُنَنِهِ" عَنِ الْحَسَنِ البصري قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ جَدَّةٌ فَلَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بمُسلمين، ما هم بمُسلمين.

الشيخ: هذا منقطعٌ عن عمر؛ لأنَّ الحسن ما أدرك عمر، والأول من باب الوعيد، من باب التَّحذير، من باب التَّشديد والتَّحذير والوعيد إذا سلم من إسماعيل هذا، إذا سلم سندُه.

مداخلة: إسماعيل بن عبيدالله ابن أبي المهاجر، المخزومي مولاهم، الدّمشقي، أبو عبدالحميد، ثقة، من الرابعة، مات سنة إحدى وثلاثين، وله سبعون سنة. (خ، م، د، س، ق).

الشيخ: صلّحها: ابن عبيدالله.

والقاعدة أنَّ المعاصي بريد الكفر، نسأل الله العافية، كما أنَّ المرضَ إذا اشتدَّ بريد الموت، فالمعاصي إذا لم يتب منها العبدُ ولم يُقلع منها ولم يحذرها قد تجرّه إلى الكفر بالله، نسأل الله العافية؛ ولهذا الواجب الحذر منها، فالإصرار عليها والاستمرار فيها وسيلة إلى موت القلب، والوقوع في الكفر، نسأل الله العافية، فهكذا ترك الحجّ مع القُدرة وسيلة إلى الكفر بالله -نسأل الله العافية- إلى أن يموت قلبُه ويكفر؛ لأنها معصية عظيمة، نسأل الله العافية.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ۝ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [آل عمران:98- 99].

هَذَا تَعْنِيفٌ من الله تعالى للكفرة أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عِنَادِهِمْ لِلْحَقِّ، وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ الله، وصدِّهم عن سبيل الله مَنْ أَرَادَهُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِجُهْدِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ وَالسَّادَةِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَمَا بَشَّرُوا بِهِ وَنَوَّهُوا به من ذكر النبي الْأُمِّيِّ الْهَاشِمِيِّ الْعَرَبِيِّ الْمَكِّيِّ، سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ، وَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَرَسُولِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَقَدْ توعَّدهم اللهُ على ذلك، وأخبر بِأَنَّهُ شَهِيدٌ عَلَى صَنِيعِهِمْ ذَلِكَ بِمَا خَالَفُوا ما بأيديهم عن الأنبياء، ومُعاملتهم الرسول المبشَّر به بالتَّكذيب والجحود والعناد، فأخبر تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ، أَيْ: وسيجزيهم على ذلك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.

الشيخ: اليهود وأشباه اليهود كفرهم ظاهر من أجل الحقد والحسد والبغي: فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]، نسأل الله العافية، وهكذا أشباههم ممن قبلهم من آل فرعون وغيرهم: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، وهكذا أشباههم من كفار العرب، كما قال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، يعرفون أنَّه صادقٌ في قلوبهم، ويُسمّونه: الأمين، ولكن الحسد والبغي حملهم على التَّكذيب، نسأل الله العافية، وهكذا أتباعهم إلى يوم القيامة يحملهم الحسد والبغي وإيثار العاجلة على التَّكذيب، وهم يعلمون أنَّهم كاذبون هم.