تفسير قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ..}

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ۝ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:114- 115].

يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا أَيْ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا أَيْ: مُبَيَّنًا، وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ أَيْ: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ أَيْ: بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ بِكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [يونس:94]، وَهَذَا شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ.

الشيخ: وفي هذا بيان أنَّ كتابَ الله جلَّ وعلا هو الحكم للناس، وهو الفاصل الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه؛ لكونه تنزيلًا من حكيمٍ حميدٍ؛ ولهذا قال : أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا يعني: قل لهم: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا، وهو جلَّ وعلا القائل: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57]، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88]، فهو الحاكم بين عباده في هذه الدار بما أنزل، وفي الآخرة بحكمه العدل بذاته سبحانه، ويفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، وقد أنزل كتابًا مُفصَّلًا، فيه البيان والهدى والإرشاد إلى الخير، والتَّحذير من الشَّر، وهو مُفصّل مُبين، آياته واضحات، ليس فيها اشتباه ولا التباس، ولا سيما فيما يتعلّق بتوحيد الله والإخلاص له، وقد أوضح من أوَّله إلى آخره أنه سبحانه هو المستحقّ للعبادة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:2]، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرات الدالّة على بطلان ما هم عليه من الشِّرك، وعلى وجوب إخلاص العبادة لله وحده، واتِّباع شريعته.

وأهل الكتاب عُلماؤهم يعرفون ذلك، وهم الذين آتاهم اللهُ الكتابَ، يعني: علماء اليهود والنَّصارى يعلمون أنَّ ما جاء به محمدٌ هو الحقّ، ولكن الحسد والبغي والتَّقليد الأعمى للأسلاف حملهم على جحد الحقِّ وإنكاره، كما حمل كبار المشركين وسادات المشركين تعظيمهم لآبائهم واستكبارهم عن اتِّباع الحقِّ حملهم على أن كذّبوا، وهم يعلمون أنَّ محمدًا من أصدق الناس، وأنه ليس بكذابٍ، كما قال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] الحقَّ تكبرًا وتقليدًا للأسلاف وتعظيمًا لهم.

فلا يليق بالمؤمن والمؤمنة التَّشبه بهؤلاء والحيدة عن الحقِّ؛ تقليدًا لزيدٍ أو لعمرٍو أو للأسلاف والأكابر، أو تكبرًا عن اتِّباع الحقّ، بل يجب الخضوع للحقِّ وقبوله ممن جاء به، وإن خالف أباك وأسلافك وهواك، فالحقّ أحقّ بالاتِّباع، وأحقّ بالتَّقديم؛ ولهذا قال : فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة:147] يعني: من الشَّاكين الحائرين، وهو ﷺ قد مَنَّ اللهُ عليه بالعلم والبصيرة والثَّبات على الحقِّ؛ ولهذا صبر وثبت على ما أصابه من قومه ومن اليهود حتى أظهره الله، وحتى أرغم أنوفَ أعدائه، وحتى ساد الحقُّ وبطل ما سواه بحمد الله وإحسانه وتوفيقه وإعانته وتسديده .

وَقَوْلُهُ تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115].

قَالَ قَتَادَةُ: صِدْقًا فِيمَا قَالَ، وَعَدْلًا فِيمَا حَكَمَ.

يَقُولُ: صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الطَّلَبِ، فَكُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ فَحَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ فَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا عَدْلَ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ فَبَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَا يَنْهَى إِلَّا عن مَفْسَدَةٍ، كما قَالَ تَعَالَى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ إلى آخر الآية [الأعراف:157].

الشيخ: والمعنى أنه جاء بالصّدق والعدل في إخباره عن الله، وعن الرسل الماضين والأمم، كله صدقٌ، أخبارٌ صادقةٌ، وبالعدل بالشَّرائع التي جاء بها، كل الشَّرائع التي جاء بها، والأحكام التي جاء بها، كلها عدلٌ، كلها محض العدل والإحسان، ليس فيها جورٌ ولا ظلمٌ، وهو صادقٌ في أخباره، عادلٌ، مُوفَّقٌ فيما جاء به من الشرع؛ لأنَّه من حكيمٍ عليمٍ، يعلم مصالح عباده، ويعلم ما ينفعهم، ويعلم ما يضرّهم، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة:33]، بالهدى: العلم النافع، ودين الحقّ: الشَّرائع المستقيمة، والأحكام العادلة، وكل ما جاء به هدى وحقّ وعدل وصدق، ليس بكذبٍ، ولا ضلالٍ، ولا جورٍ، ولا ظلمٍ، بل كله حقٌّ وعدلٌ.

لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ أَيْ: لَيْسَ أَحَدٌ يُعقِّبُ حُكْمَهُ تَعَالَى: لَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ، الْعَلِيمُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، الَّذِي يُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ۝ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [الأنعام:116- 117].

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ الضَّلَالُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات:71]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ، وَحُسْبَانٍ بَاطِلٍ.

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فَإِنَّ الْخَرْصَ هُوَ الْحَزْرُ، وَمِنْهُ خَرْصُ النَّخْلِ، وَهُوَ حَزْرُ مَا عليها من التَّمر، وذلك كلّه عن قدر الله ومشيئته.

هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ فَيُيَسِّرُهُ لِذَلِكَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَيُيَسِّرُهُمْ لِذَلِكَ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له.

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام:118].

الشيخ: وهذا يُوجب الحذر: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يُوجب الحذر، وأنَّ أكثر الخلق ليسوا على هدى، فإياك أن تُقلد أكثر الخلق، أو تقبل من غيرك إلا بدليلٍ وحُجَّةٍ: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].

فالعاقل والموفّق لا يقول: هذا الذي عليه الناس ويكفي. بل يسأل عن الحجّة والدَّليل؛ حتى يطمئنّ أنه أصاب الحقَّ، والعالم مُكلَّف بطلب الحقِّ، والعامّي يسأل أهلَ الحقّ، ولا يغترّ بالأكثر: لا من أسلافه، ولا من أهل قريته، ولا من قبيلته، وإنما يسأل عن الحقِّ، ويطلب الحقَّ بكل وسعه حتى يُصيبه، حتى يلتزمه؛ لأنَّ أكثر الخلق يتَّبعون الظنَّ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، كما قال جلَّ وعلا في أهل الشِّرك، عُبَّاد اللَّات والعُزَّى ومناة: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ يعني: ما يتَّبعون إلا الظنّ، وهو عدم العلم، وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23]، فالظنّ ليس بعلمٍ، والخرص ليس بعلمٍ، وإنما العلم التَّيقن بما قاله الله ورسوله، وما شرعه الله لعباده عن دليلٍ وحُجَّةٍ.