تفسير قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}

أمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وأبي هريرة، وأنسٍ، وجريرٍ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ: فِي الْعَرَصَاتِ، وَفِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، آمِينَ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله.

أما بعد: فإنَّ رؤيةَ المؤمنين لربهم في الآخرة أمرٌ مجمعٌ عليه بين أهل السّنة والجماعة، وقد دلَّ عليه كتابُ الله الكريم، وقد تواترت به السّنة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد أنكر ذلك مَن حجب اللهُ قلبَه عن الهدى: كالمعتزلة والجهمية ومَن سلك مسلكهم في إنكار رؤية الله ، وهذا من أبطل الباطل، والله جلَّ وعلا يقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22- 23]، ناضرة: جميلة، بهية، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ تنظر إليه ، ويقول جلَّ وعلا: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، ثبت عن رسول الله أنه قال: الحسنى الجنّة، والزيادة النَّظر إلى وجه الله، وقال جلَّ وعلا: عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ [المطففين:23] يعني: إلى ربهم ، وقال سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] يعني: الكفار، فإذا كان الكفّارُ محجوبين عن الله فمَن ينظر؟ هم المؤمنون، حجب الكفَّار دليلٌ على أنَّ أهل الإيمان غير محجوبين؛ ولهذا قال المؤلفُ: وتواترت السّنةُ.

وقد ذكر الحافظُ رحمه الله –المؤلف- في "النهاية" -في كتابه "البداية والنِّهاية"- نحو ثلاثين حديثًا عن النبي ﷺ في إثبات الرّؤية: أنَّ المؤمنين يرون ربهم جلَّ وعلا في عرصات القيامة، وفي الجنة، يرونه سبحانه في العرصات كما يشاء، ويرونه في الجنّة كما يشاء ، وذلك أعلى نعيمهم في الجنة: النَّظر إلى وجه الله .

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام:103] أَيِ: الْعُقُولُ.

رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْفَلَّاسِ، عن ابن مهديٍّ، عن أبي حُصينٍ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ -قَارِئِ أَهْلِ مَكَّةَ- أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَخِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَكَأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ فِي معنى الرُّؤية، والله أَعْلَمُ.

الشيخ: والصواب أنَّ معنى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يعني: لا تراه في الدّنيا، كما قالت عائشةُ رضي الله عنها، أو المعنى: لا تُحيط به، وإن رأته يوم القيامة وفي الجنّة فإنها لا تُحيط به، هذا أصحّ، في معنى ما قيل في الآية معنيان:

أحدهما: أنَّ المراد في الدّنيا، لا تُدركه في الدّنيا –يعني- كما تأوّلت عائشةُ رضي الله عنها ذلك.

والمعنى الثاني: أنها لا تُحيط به وإن رأته، ولكنّها لا تُحيط به، فهو أجلّ وأعظم من أن تُحيط به أبصارُ خلقه، والرّؤية أعمّ من الإدراك، والإدراك أخصّ، فلا يلزم من إثبات الأعمّ إثبات الأخصّ، قال تعالى: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ يعني: جمع بني إسرائيل -جمع موسى- وجمع آل فرعون قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فأخبر سبحانه أنَّ الإدراك غير الرّؤية، غير التَّرائي، كذلك فلما أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يونس:90] يعني: رؤية البحر والتحام البحر عليهم، أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ يعني: قضى عليه واستحوذ عليه الغرقُ، فالإدراك أخصّ من الرؤية، فرُؤيته سبحانه من غير إدراكٍ يعني: لا يُحيطون به ، ولكنَّهم يرون وجهه كما يشاء جلَّ وعلا.

وَقَالَ آخَرُونَ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إِثْبَاتِ الرُّؤيةِ وَنَفْيِ الْإِدْرَاكِ؛ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ أَخَصُّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ انْتِفَاءُ الْأَعَمِّ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الْإِدْرَاكِ الْمَنْفِيِّ مَا هُوَ؟

فَقِيلَ: مَعْرِفَةُ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا أَنَّ مَنْ رَأَى الْقَمَرَ فَإِنَّهُ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَتَهُ وَكُنْهَهُ وَمَاهِيَّتَهُ، فَالْعَظِيمُ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَلَهُ المثلُ الأعلى.

قال ابنُ عُليَّة في الآية: هذا في الدُّنيا. رواه ابنُ أبي حاتمٍ.

وقال آخرون: الإدراك أخصّ من الرُّؤية، وهو الإحاطة، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ عدمُ العلم.

الشيخ: كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدمُ العلم، قال تعالى: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، نحن نعلمه ونُؤمن به، وهو ربنا سبحانه، ولكن لا نُحيط به علمًا؛ ولهذا قال: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255] ، وفي الآية: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا.

قال تعالى: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110].

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ": لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَا يَلْزَمُ منهُ عَدَمُ الثَّنَاءِ، فَكَذَلِكَ هَذَا.

قَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام:103] قَالَ: لَا يُحِيطُ بَصَرُ أَحَدٍ بِالْمَلِكِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادِ بْنِ طَلْحَةَ الْقَنَّادُ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ قَالَ: أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَكُلَّهَا تَرَى؟

وَقَالَ سَعِيدُ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: عَنْ قَتَادَةَ في الْآيَةِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، وهو أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ.

الشيخ: انظر "التقريب": سعد أو سعيد؟

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِالْحَكَمِ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَرْفَجَةَ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22- 23]، قَالَ: هُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ، لَا تُحِيطُ أَبْصَارُهُمْ بِهِ مِنْ عَظَمَتِهِ، وَبَصَرُهُ مُحِيطٌ بِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ.

وورد فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ: حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ السَّهْمِيُّ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ.

مداخلة: سعد بن عبدالله بن سعد الأيلي -بفتح الهمزة بعدها تحتانية ساكنة- أخو الحكم، صدوق، من السادسة. (أبو داود في "المراسيل").

الشيخ: انظر سعيد بن عبدالله بن عبدالحكم.

............

الشيخ: انظر منجاب بن الحارث.

عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ قَالَ: لَوْ أَنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالْمَلَائِكَةَ مُنْذُ خُلِقُوا إِلَى أَنْ فَنَوا صُفُّوا صَفًّا وَاحِدًا مَا أَحَاطُوا بِاللَّهِ أَبَدًا. غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

الشيخ: معناه صحيحٌ، لكنه ضعيفٌ؛ لأنَّ عطية العوفي وبشر بن عمارة كلاهما ضعيفٌ، ولكن معناه صحيحٌ: لا أحد يُحيط به سبحانه: لا جنّهم، ولا إنسهم.

مُداخلة: منجاب -بكسر أوَّله وسكون ثانيه ثم جيم ثم مُوحّدة- ابن الحارث بن عبدالرحمن التَّميمي، أبو محمد، الكوفي، ثقة، من العاشرة، مات سنة إحدى وثلاثين. (مسلم، وابن ماجه .....).

الشيخ: هذا المعروف: التَّميمي، ما هو السّهمي، صلّحها: التَّميمي.

وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ آخَرون في الآيةِ بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "جَامِعِهِ"، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ "السُّنَّةِ" لَهُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي "تَفْسِيرِهِ"، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا، وَالْحَاكِمُ في "مستدركه" من حديث الحكم بن أَبَان، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ الْآيَةَ؟ فَقَالَ لِي: لَا أُمَّ لَكَ! ذَلِكَ نُورُهُ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ لَا يُدْرِكُهُ شَيْءٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ. قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

الشيخ: انظر الحكم بن أبان، وهذا الذي جاء عن ابن عباسٍ جاء عنه بالمطلق هكذا، وجاء عنه التَّقييد: رآه بفؤاده. وبكل حالٍ فهو قولٌ ضعيفٌ، لو صحَّ عن ابن عباسٍ فهو قولٌ ضعيفٌ، والصَّواب أنه لم يرَ ربَّه، وإنما رأى نورًا، وقد سأله أبو ذرٍّ قال: يا رسول الله، رأيتَ ربَّك؟ قال: رأيتُ نورًا، قال: نورٌ أنَّى أراه، وقال ﷺ في الحديث الصَّحيح: واعلموا أنَّه لن يرى أحدٌ منكم ربَّه حتى يموت، أخبر ﷺ أنه لن يرى أحدٌ من النَّاس ربَّه حتى يموت، وهو من الناس، إذا أخبر عن شيءٍ فهو داخلٌ في الخبر عليه الصلاة والسلام إلا بمُخصّصٍ، والدنيا ما هي بدار نعيمٍ، دار ابتلاءٍ وامتحانٍ، دار عملٍ، ورُؤية الله أعظم النَّعيم؛ فلهذا ادَّخرها لأوليائه في الآخرة في الجنة، لا في هذه الدار التي هي دار البلاء، ودار المحنة، ودار الفتنة، وليست دارَ نعيمٍ؛ ولهذا في حديث صهيب: إذا كشف لهم عن وجهه فرأوه جلَّ وعلا لم يكن شيءٌ أحبَّ إليهم من ذلك. وفي اللَّفظ الآخر: فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النَّظر إلى وجهه .

س: نقل بعضُهم الاتِّفاق على عدم الرّؤية؟

ج: ما أتذكر شيئًا، لكن الرِّواية عن ابن عباسٍ هذه فيها بعض ما يخلّ بالاتِّفاق، لكنَّه كالاتفاق، في حكم الاتفاق ..... عن ابن عباسٍ فيها الحكم بن أبان.

مداخلة: الحكم بن أبان العجمي، أبو عيسى، صدوق، عابد، وله أوهام، من السادسة، مات سنة 54، وكان مولده سنة 80. (البخاري في ..... والأربعة).

الشيخ: المقصود أنها لو صحّت فهي رواية شاذّة، والقول مرجوحٌ، وهو كالإجماع من أهل العلم أنَّ الرؤية في الآخرة.

س: ورُؤيا المنام؟

ج: رؤيا المنام غير، ما هي داخلة في هذا، رؤيا المنام ممكن أنه قد رأى النبيُّ ربَّه.

وَفِي مَعْنَى هَذَا الْأَثَرِ مَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مرفوعًا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عملُ النَّهار قبل اللَّيل، وعملُ الليلِ قبل النَّهَارِ، حِجَابُهُ النُّورُ -أَوِ النَّارُ- لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ.

وَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى لَمَّا سَأَلَ الرُّؤْيَةَ: يَا مُوسَى، إِنَّهُ لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ أَيْ: تَدَعْثَرَ، وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143].

وَنَفْيُ هَذَا الْأَثَرِ الْإِدْرَاكَ الْخَاصَّ لَا يَنْفِي الرُّؤْيَةَ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَشَاءُ، فَأَمَّا جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ- فَلَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ.

وَلِهَذَا كَانَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُثْبِتُ الرُّؤْيَةَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَتَنْفِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَتَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، فَالَّذِي نَفَتْهُ الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى: رُؤْيَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِلْبَشَرِ، وَلَا لِلْمَلَائِكَةِ، وَلَا لِشَيْءٍ.

وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام:103] أَيْ: يُحِيطُ بِهَا وَيَعْلَمُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَلَقَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

وَقَدْ يَكُونُ عَبَّرَ بِالْأَبْصَارِ عَنِ الْمُبْصِرِينَ، كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ لَا يَرَاهُ شَيْءٌ، وَهُوَ يَرَى الْخَلَائِقَ.

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ في قوله تعالى: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قال: اللَّطيفُ لاستخراجها، الْخَبِيرُ بِمَكَانِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ لُقْمَانَ فِيمَا وَعَظَ بِهِ ابْنَهُ: يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16].

س: ............؟

ج: يعني في الحقيقة على ما هي عليه، لا يعلم كُنه الربّ جلَّ وعلا وعظمته على الإطلاق إلا هو سبحانه، إنما يرى الناسُ الوجهَ الذي يكشف لهم عن وجهه سبحانه، أمَّا إدراك ماهيّته وكُنهه وعظمته وعامّة ما يتعلّق به فليس للمخلوق في هذا سبيل.

س: ............؟

ج: المقصود أنَّ نفيَ الأخصّ لا ينفي الأعمّ، الأعمّ الرؤيا، والرؤيا أثبتها سبحانه لأوليائه في الدار الآخرة، وأما الإدراك فهو منفيٌّ في الدنيا والآخرة جميعًا.

س: ............؟

ج: هذا ما يُستنكر، كلنا نراه بقلوبنا، نعلمه بقلوبنا، رؤية العلم، يعني: كل مؤمنٍ يعلمه بقلبه.