تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ..} (1)

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۝ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ۝ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام:95- 97].

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، أَيْ: يَشُقُّهُ فِي الثَّرَى، فَتَنْبُتُ منه الزُّرُوعُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارُ على اختلاف ألوانها وأشكالها وَطُعُومِهَا مِنَ النَّوَى؛ وَلِهَذَا فَسَّرَ قَوْلَهُ: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى بِقَوْلِهِ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ أَيْ: يُخْرِجُ النَّبَاتَ الْحَيَّ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى الذي هو كالجماد الميِّت، كَقَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ إلى قوله: وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس:33- 36].

وَقَوْلُهُ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ مَعْطُوفٌ عَلَى فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، ثُمَّ فَسَّرَهُ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ.

وَقَدْ عَبَّرُوا عَنْ هَذَا وَهَذَا بِعِبَارَاتٍ كُلّهَا مُتَقَارِبَةٌ مُؤَدِّيَةٌ لِلْمَعْنَى: فَمِنْ قَائِلٍ: يُخْرِجُ الدَّجَاجَةَ مِنَ الْبَيْضَةِ، وعكسه. ومن قائلٍ: يُخرج الولدَ الصَّالح من الفاجر، وعكسه. وَغَيْر ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَنْتَظِمُهَا الْآيَةُ وتشملها.

ثم قال تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ أي: فاعل هذا هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَيْ: كيف تُصْرَفون عن الحقِّ وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون معه غيره.

الشيخ: وهذا من الدَّلائل على أنَّه سبحانه المستحقّ للعبادة، وهو جلَّ وعلا يحتجّ على أهل الشِّرك على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، لما أقرّوا به وعلموا به من توحيد الرّبوبية وتنويع الخلق وتصريفهم، وأنَّه سبحانه هو الخلَّاق العليم، خالق الخلائق، ومُنوّع الخلائق، ومُخرج الحيّ من الميت، والميت من الحيّ، الذين يُشاهدون ذلك ويرونه في أنفسهم وفي غيرهم، فهذا الذي يخلق الخلائق كلّها، وهم من جملة ذلك، ويُخرج الحيّ من الميت على ما جاء في التفسير في إخراج الدَّجاجة -وهي حيوان حيّ- من البيضة، وهي في حكم الجماد الميت، ويُخرج البيضة أيضًا من الدَّجاجة، والدَّجاجة حيّة، والبيضة في حكم الجماد الميت، ويُخرج المسلمَ من الكافر، والكافرَ من المسلم حياةً معنويةً، وغير هذا مما يقع: كإخراج النَّبات الحيّ المهتزّ ..... الزّروع والنَّخيل والأشجار من هذه الأرض الميتة إذا أنزل عليها الماءَ اهتزّت وربت، وكلما يخرج الحيوانُ الميت من رحم الحيوان الحيّ، وهذا كلّه من الشواهد على قُدرته العظيمة، وأنه ربّ العالمين، وأنه الخلّاق العليم، وأنّه الذي يستحقّ أن يُعبد بصرف العبادة له وحده: من دعاءٍ، وخوفٍ، ورجاءٍ، وذبحٍ، ونذرٍ، وصلاةٍ، وصومٍ، وغير ذلك، كما أنه المستحقّ لأن يُشهد له بتوحيد الربوبية، وأنه الخلّاق العليم، لا شريكَ له في ذلك، فيجب أيضًا الإقرار والاعتراف بأنّه المستحقّ للعبادة دون كلِّ ما سواه، والالتزام بذلك، وعدم صرف العبادة لغيره كائنًا مَن كان.

وقوله: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا أَيْ: خَالِقُ الضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] أي: فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَفْلِقُ ظَلَامَ اللَّيْلِ عَنْ غُرَّةِ الصَّبَاحِ، فَيُضِيءُ الْوُجُودَ، وَيَسْتَنِيرُ الْأُفُقُ، وَيَضْمَحِلُّ الظَّلَامُ، ويذهب الليلُ بسواده وظلام رواقه، ويجيء النَّهارُ بضيائه وإشراقه، كَقَوْلِهِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [الأعراف:54].

فَبَيَّنَ تَعَالَى قُدْرَتَهُ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَضَادَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ عَظَمَتِهِ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، فَذَكَرَ أنَّه فالق الإصباح، وقابل ذلك بقوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا أي: ساجيًا مُظْلِمًا؛ لتسكُن فِيهِ الْأَشْيَاءُ، كَمَا قَالَ: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1- 2]، وَقَالَ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ۝ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1- 2]، وَقَالَ: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس:3- 4].

وَقَالَ صُهَيْبٌ الرُّومِيُّ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ عَاتَبَتْهُ فِي كَثْرَةِ سَهَرِهِ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا إِلَّا لِصُهَيْبٍ، إِنَّ صُهَيْبًا إِذَا ذَكَرَ الْجَنَّةَ طَالَ شَوْقُهُ، وَإِذَا ذَكَرَ النَّارَ طَارَ نَوْمُهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

الشيخ: وصهيب هو صهيب بن سنان الرّومي، الصَّحابي الجليل ، وهذا إن صحَّ عنه فهو من اجتهاده ، وإلا فالمشروع أن يقوم بعضَ الليل وينام ولا يسهر، مثلما أنكر النبيُّ ﷺ على عبدالله بن عمرو وقال: صم وأفطر، ونم وقم، وكان ﷺ -وهو أعبد الناس، وأفضل الناس، وأكمل الناس في العبادة- يقوم بعضَ الليل وينام، مثلما قال: ولكني أُصلّي وأنام، وأصوم وأُفطر.

لا شكَّ أنَّ ذكر النار يطير النوم لمن عقلها وآمن بها، ولا شك أنَّ الجنة ونعيمها مما يُطير النوم شوقًا إليها، ولكن مهما كان الشوقُ، ومهما كان الخوفُ، فإنَّ له حدودًا، لا بدَّ أن يتحدد بما شرع الله، فلا يحمله الشوقُ على خلاف الشرع، ولا يحمله الخوفُ على خلاف الشرع، بل يجب أن يكون شوقُه وخوفُه مقيدين بالشرع المطهر في نومه ويقظته، وفي صومه وإفطاره، وفي جميع أحواله.

س: فعل صهيب هذا اجتهادٌ منه؟

ج: نعم، إن صحَّ عنه.

س: خارج عن الإرادة؟

ج: ولو، ما يخرج عن الإرادة، لا بدَّ أن يُعالج ولا يسهر، مثلما أمر النبيُّ عبدَالله أن يُعالج؛ لأنَّ لأهله حقًّا، ولنفسه حقًّا، وليس له أن يُهمل أهلَه ويسهر.

وَقَوْلُهُ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [الأنعام:96] أَيْ: يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ مُقَنَّنٍ مُقَدَّرٍ، لَا يتغير، ولا يضطرب، بل لكلٍّ منهما مَنَازِلُ يَسْلُكُهَا فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ طُولًا وَقِصَرًا، كَمَا قَالَ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ الآية [يونس:5]، وَكَمَا قَالَ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، وَقَالَ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف:54].

وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام:96] أَيِ: الْجَمِيعُ جَارٍ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ، الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.

الشيخ: وذلك من أعظم الآيات؛ هذا اللَّيل بظلامه، والنهار بضيائه، حال على دورانه الأعوام الكثيرة، مئات الأعوام، وآلاف الأعوام، وهو هكذا مُنتظمٌ في أنحاء الدّنيا، يطول مساره، ويقصر أخرى، في منطقةٍ يكون الليلُ كذا، والنَّهار كذا، وفي منطقةٍ كذا وكذا، هذا الاختلاف العظيم والحسبان المتقن من أعظم الأدلة على قُدرة الخالق سبحانه وتعالى، فإنه جلَّ وعلا خلق كل شيءٍ وقدَّره تقديرًا، هذا الليل الذي يغشى الناس، وهو حسابٌ مُتقنٌ، الليل في شتائه وصيفه وفي سائر الأقطار، والنَّهار كذلك في سائر الأقطار، وفي بعض الجهات يطول الليلُ كثيرًا، ويقلّ النَّهار، وفي بعضها العكس، وفي بعضها يبقى الليلُ شهورًا، والنَّهارُ شهورًا، كل ذلك من تقديره سبحانه وعنايته بخلقه، فلا إلهَ غيره، ولا ربَّ سواه سبحانه.

وَكَثِيرًا مَا إِذَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَخْتِمُ الْكَلَامَ بِالْعِزَّةِ وَالْعِلْمِ.

س: ما يُذكر من أن تعاقب الليل والنَّهار بسبب دوران الأرض، هل له وجهٌ من الصحّة؟

ج: ما أعرف له وجهًا، حساب اللَّيل والنَّهار مُتقن بغير ما يتعلّق بدوران الأرض، الليل والنَّهار يتعلّق بالشمس والقمر، مجيء النَّهار فيه شمسه، وهي آيته، ومجيء الليل فيه آيته وهي القمر، أمّا دوران الأرض فهو محل اختلافٍ بين الحسّابين وبين الرِّياضيين: منهم مَن أثبت ذلك، ومنهم مَن نفاه، مع أنَّ الله جلَّ وعلا أثبتها بالرَّواسي، وجعلها قارَّةً ساكنةً؛ لئلا تميد بالناس، وتضطرب بالناس، وإن أصابتها أدنى زلزلة هلك الناسُ، أدنى زلزلة تُصيب الأرضَ تسقط الأبنية، ويهلك مَن شاء الله من العباد بأسباب ذلك عند أقلّ هزَّةٍ، أما هي فمرساة مضبوطة، قد جعل فيها من الرَّواسي والجبال ما جعلها قارةً ثابتةً، كما قال سبحانه: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل:15]، وقال: وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [النبأ:7].

والناس لا يزالون من قديم الزمان هذا يكتب في إثباتها، وهذا يكتب في دورانها، والحقّ الذي نعتقده أنها ثابتة قارّة، وأنَّ الدَّوران للشَّمس والقمر والنّجوم التي جعلها اللهُ سيَّارةً، فالدّوران لها، والأرض قارّة ثابتة، وقد كتب في هذا بعضُ الناس من سنوات قديمة، وكتبنا فيه ما شاء الله من الردّ، نعم.

س: .............؟

ج: إذا بنوا هذا على الشَّمس، وأنها قارّة؛ صار كفرًا، مَن قال: إنَّ الشمسَ ثابتةٌ، والقمرَ ثابتٌ؛ يكون كفر ردَّةٍ عن الإسلام؛ لأنَّ الله قال جلَّ وعلا: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس:38]، وقال سبحانه: كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى [فاطر:13]، فمَن قال: إنها ثابتة، فقد كذَّب القرآن، وكذَّب السُّنة، لكن هم يقولون، بعضهم يقول: لا نقول أنها ثابتة، ولكن نقول: تجري حول نفسها. يُمَوِّه على الناس بهذا القول: تجري حول نفسها ..... تجري من المشرق إلى المغرب، وهكذا، ثم تطلع من المشرق جريانًا محكمًا مُتقنًا مُشاهدًا، ما فيه شبهة، تأتي من المشرق، وتذهب من المغرب، وفي آخر الزمان إذا أذن اللهُ لها بالطّلوع من مغربها طلعت من مغربها، مُسَيَّرة، والنبي جاء عنه في: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا قال: مُستقرّها تحت العرش.

كَمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ۝ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس:37- 38].

وَلَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ السَّماوات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ فِي أَوَّلِ سُورَةِ "حم" قَالَ: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت:12].

الشيخ: وما ذاك إلا لأنَّ الأمرَ عظيمٌ؛ فلهذا ختمها بالعزّة والعلم: عزيزٌ لا يُغالب ولا يُمانع، عليمٌ بأحوال خلقه، لا يفوته شيءٌ، ولا يُعجزه شيءٌ، فهو عزيزٌ، في عزّته القُدرة الكاملة على كل شيءٍ، في ضمن العزّة أنه القادر على كل شيءٍ، ثم مع القُدرة علمٌ، يضع الأمورَ في مواضعها عن علمٍ، لا عن جهلٍ، ولا عن عبثٍ، ولكن عن علمٍ وحكمةٍ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، عزيز عليم، خلَّاق عليم.

فهذا الخلق معه حكمة، ومعه علم، بخلاف المخلوق؛ قد يفعل شيئًا ويكون عن غير حكمةٍ: عن عبثٍ، أو عن جهلٍ فيغلط، أما خلقه سبحانه وجميع ما يُوجده في العباد فهو عن علمٍ وحكمةٍ وعزّةٍ، لا عن جهلٍ، ولا عن عجزٍ، ولا عن عبثٍ، ولكن عن قدرةٍ وحكمةٍ وعلمٍ للأشياء كلِّها: السَّماوات خلقها بعلمٍ وعزةٍ وقدرةٍ، وهكذا الأرض، وهكذا كل ما في السَّماوات والأرض، فهو سبحانه الحكيم العليم، وهو العزيز العليم، وهو العزيز الحكيم، وهو القدير الخلَّاق، لا يُعجزه شيءٌ، ومع ذلك تقع الأمورُ عن حكمةٍ، يضع الأشياءَ في مواضعها، وهكذا شأن العليم الحكيم، يضع الأمور في مواضعها؛ لأنَّ الخلل إمَّا أن يقع عن جهلٍ، وإما أن يقع عن سوء بصيرةٍ وعن قلَّة حكمةٍ، وهذا مُنتفٍ في حقِّه جلَّ وعلا، وهو الحكيم، وهو العليم، فلا جهلَ، ولا عبثَ.

وقوله تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:97]، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنِ اعْتَقَدَ فِي هَذِهِ النُّجُومِ غَيْرَ ثَلَاثٍ فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، ويُهتدى بها في ظلمات الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.

وَقَوْلُهُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ أَيْ: قَدْ بَيَّنَّاهَا وَوَضَّحْنَاهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام:97] أَيْ: يَعْقِلُونَ ويعرفون الحقَّ، ويتجنَّبون الباطلَ.

الشيخ: وهذا القول عن قتادة، مشهورٌ عن قتادة: أنَّ الله خلق هذه النّجوم لثلاثٍ: زينةً للسماء، ورجومًا للشَّياطين، وعلامات يُهتدى بها، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك:5]، وقال سبحانه: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16]، وقال هنا في هذه السورة: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:97]، يهتدي بها المسافرون في ظلمات البرِّ والبحر، ويعرفون بها مسالكَهم وجهاتهم.

س: مَن اهتدى بها في مجال العلم والحساب؟

ج: ما لها دخلٌ في غير هذا: في سير الشمس والقمر، سير الشمس والقمر والنجوم كلّها؛ لتعرف الجهات على جهات البلدان والأودية والجبال والمناجم وغير ذلك، إذا رسموها وضبطوها اهتدوا بها، أمَّا أن يتأوّل فيها أنها ..... بنزول المطر، أو في موت فلان، أو حياة فلان، أو موت القبيلة، هذا غلطٌ، ما له أصل.

س: ..............؟

ج: يعني في أوقات الحرث هذه لمن اهتدى: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، هذا من الهداية في أوقات الحرث المناسبة.

س: ..............؟

ج: الذي عندنا مكتوب ومُوزع بارك الله فيك، ما عندنا توقف فيها، عندنا الجزم بأنها ثابتة، نعم، والقول بأنها دائرة غلط، وإذا قال مَن قال أنها دائرة وأنَّ الشمس ثابتة؛ صار كفرًا أكبر، أما القول بدورانها مع الإيمان بأنَّ الشمس والقمر يجريان؛ هذه أمرها سهل، لكنه خلاف ظاهر القرآن والسّنة، لكن إذا زاد على هذا فقال: إنَّ الشمس ثابتة، أو القمر ثابت، والأرض هي التي تجري. هذا كفرٌ، هذا ضدّ القرآن والسّنة، نسأل الله العافية.

س: في الحديث: إنَّ بيت العزّة في السَّماء الدنيا لو سقط لسقط على الكعبة. هل في هذا –يعني- دليلٌ؟

ج: هذا البيت المعمور في السَّماء السَّابعة.

س: نعم البيت المعمور؟

ج: في السماء السابعة، وبيت العزّة في السَّماء الدنيا.

س: هل هذا دليلٌ قاطعٌ عن ثبوت الأرض؟

ج: هذا يستدلّ به على الثبوت .....

س: هل فيه دليلٌ على أنَّ الأرض كروية؟

ج: أجمع العلماءُ على أنها كروية، ذكر غير واحدٍ إجماع أهل العلم على أنها كروية، يعني: مُستديرة، وجعل اللهُ ظاهرَها سكنًا للعباد مسطوحًا؛ ولهذا يختلف الليلُ والنَّهارُ والشمسُ والقمرُ في البلدان بسبب أنها كروية.