تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ}

طَرِيقٌ أُخْرَى رَوَاهَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ بَعْدَمَا مَضَى لَيْلٌ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ شِمَالِي نُورًا، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيَّ نُورًا، وَمِنْ خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، وأَعْظِم لِي نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَهَذَا الدُّعَاءُ ثَابِتٌ فِي بَعْضِ طُرُقِ الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ كُريبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما.

ثُمَّ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ ابْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَتْ قُرَيْشٌ الْيَهُودَ، فَقَالُوا: بِمَ جَاءَكُمْ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ؟ قَالُوا: عَصَاهُ وَيَدُهُ الْبَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ. وَأَتَوُا النَّصَارَى فَقَالُوا: كَيْفَ كَانَ عِيسَى فِيكُمْ؟ قَالُوا: كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِيَ الْمَوْتَى. فَأَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا. فَدَعَا رَبَّهُ ، فَنَزَلَتْ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، قَالَ: فَلْيَتَفَكَّرُوا فِيهَا. لفظ ابن مردويه.

وقد تقدَّم هذا الحديثُ من رواية الطَّبراني فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ مَكِّيَّةً، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَدَلِيلُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ، قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بنُ عليِّ بن إسماعيل: حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَرَّانِيُّ: حَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ أَشْرَسَ: حَدَّثَنَا حَشْرَجُ بْنُ نَبَاتَةَ الْوَاسِطِيُّ: حدَّثنا أَبُو مكرم، عن الكلبيِّ -وهو أبو جناب.

الشيخ: كذا عندكم؟

طالب: في نسخة الشّعب: الكلبي هو أَبو جناب.

الطالب: .....، وهو أَبو حباب.

الشيخ: لا، الأقرب أنَّه أَبو جناب –بالجيم- حدَّثنا أَبو مكرم .....

الطالب: عَنِ الْكَلْبِيِّ -هُوَ ابن جَنَاب. علَّق عليه في الحاشية.

الشيخ: إيه.

الطالب: قال: والصَّواب أَبو جناب.

الشيخ: هذا المعروف، المعروف أَبو جناب -بالجيم والنون- عندكم حباب؟

............

س: أبو أو ابن؟

ج: أبو جناب.

عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ وعُبَيدُ بْنُ عُمَيرٍ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حِجَابٌ، فَقَالَتْ: يَا عُبَيْدُ، مَا يَمْنَعُكَ مِنْ زِيَارَتِنَا؟ قَالَ: قَوْلُ الشَّاعِرِ: (زُر غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا).

فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: ذَرِينَا، أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَبَكَتْ وَقَالَتْ: كُلُّ أَمْرِهِ كَانَ عَجَبًا، أَتَانِي فِي لَيْلَتِي حَتَّى مَسَّ جِلْدُهُ جِلْدِي، ثُمَّ قال: ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ لِرَبِّي ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَعَبَّدَ لِرَبِّكَ. فَقَامَ إِلَى الْقِرْبَةِ فَتَوَضَّأَ وَلَمْ يُكْثِرْ صَبَّ الْمَاءِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ سَجَدَ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى جَنْبِهِ فَبَكَى، حَتَّى إِذَا أَتَى بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ. قَالَتْ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُبْكِيكَ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا بِلَالُ! وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَبْكِيَ وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ؟ ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا.

وَقَدْ رواهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي "تَفْسِيرِهِ" عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ الْكَلْبِيِّ.

الشيخ: أَو عن الكلبي.

الطالب: في نسخة الشّعب: عن جعفر بن عونٍ.

الشيخ: ابن عونٍ نعم عن الكلبي.

الطالب: عندي تعليق، يقول: الصواب ابن عون، عَنْ أَبِي جَنَاب. عندنا سيأتي: عَنْ أَبِي الحباب.

الشيخ: المقصود ابن عون، عن الكلبي. ابن عون ما هو الكلبي، عن جعفر بن عون، أَيش بعده؟

الطالب: عن جعفر بن عون الكلبي.

الشيخ: عن الكلبي، يعني: أَبا جنابٍ، ساقطة، عن أَيش عندكم؟ أَنتم ماذا عندكم؟

الطالب: جعفر بن عون، عن أَبي جَنَابٍ الْكَلْبِيِّ.

الشيخ: طيب، أَبو جناب هو الكلبي، عن الكلبي ما يُخالف، هو أَبو جناب، السَّاقطة "عن".

س: ابن عوف أو ابن عون؟

ج: بالنون.

الطالب: عن جعفر بن عون، عن الكلبي أَبي جناب، عَنْ عَطَاءٍ.

الشيخ: وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ.

وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ في "تفسيره" عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، عن الكلبيِّ أَبِي جَنَابٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ عمر وعبيدُ بن عُمير على أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في خِدْرِها، فسلّمنا عليها، فقالت: مَن هؤلاء؟ قال: فقلنا: هذا عبدُالله بن عمر وعُبيد بن عمير. قالت: يا عُبيدَ بن عُمير، ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: ما قال الأوَّلُ: (زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا). قالت: إنَّا لنُحبّ زيارتك وغشيانك.

قال عبدُالله بن عمر: دعينا من بطالتِكما هذه، أخبرينا بأعجبَ ما رَأَيْتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. قال: فبكتْ، ثم قالت: كُلُّ أَمْرِهِ كَانَ عَجَبًا، أَتَانِي فِي لَيْلَتِي حتى دخل معي في فراشي، حتى لصق جلدُه بجلدي، ثم قال: يا عائشةُ، ائذني لي أتعبَّد لربي، قالت: إني لأحبّ قُرْبَك، وأُحبّ هواك. قالت: فقام إلى قربةٍ في البيت، فما أكثر صبِّ الماء، ثم قام فقرأ القرآنَ، ثم بكى حتى رأيتُ أنَّ دموعَه قد بلغت حقويه. قالت: ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم بكى حتى رأيتُ دموعه بلغت حجره. قالت: ثم اتَّكأ على جنبه الأيمن، ووضع يدَه تحت خدِّه. قالت: ثم بكى حتى رأيتُ دموعه قد بلغت الأرضَ، فدخل عليه بلالٌ فآذنه بصلاة الفجر، ثم قال: الصَّلاة يا رسول الله. فلما رآه بلالٌ يبكي قال: يا رسول الله، تبكي وقد غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخَّر؟! فقال: يا بلالُ، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟! وما لي لا أبكي وقد نزل عليَّ اللَّيْلَة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ إلى قوله: سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190- 191]؟ ثم قال: ويلٌ لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكَّر فيها.

وهكذا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ" عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عُثْمَانَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُوَيْدٍ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ ابْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: دخلتُ أنا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ.

الطالب: في نسخة الشّعب يقول: وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حاتم ابن حِبَّانَ في "صحيحه".

الشيخ: وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حاتم.

الطالب: ابن حبان في "صحيحه".

وهكذا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ" عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عُثْمَانَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُوَيْدٍ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ ابْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: دخلتُ أنا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ "التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ" عَنْ شُجاع بن أشرس بِهِ.

ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِيَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: سَمِعْتُ سُنَيْدًا يَذْكُرُ عَنْ سُفْيَانَ -هُوَ الثَّوْرِيُّ- رَفَعَهُ، قَالَ: مَنْ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَان فلم يتفكَّر فيها وَيْلَهُ، يَعُدُّ بِأَصَابِعِهِ عَشْرًا.

قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ بْنُ السَّائِبِ قَالَ: قِيلَ لِلْأَوْزَاعِيِّ: مَا غَايَةُ التَّفَكُّرِ فِيهِنَّ؟ قَالَ: يَقْرَؤُهُنَّ وَهُوَ يَعْقِلُهُنَّ.

قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: وَحَدَّثَنِي قَاسِمُ بْنُ هَاشِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَأَلْتُ الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ أَدْنَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُتَعَلِّقُ مِنَ الْفِكْرِ فِيهِنَّ، وَمَا يُنْجِيهِ مِنْ هَذَا الْوَيْلِ؟ فَأَطْرَقَ هُنَيَّةً ثُمَّ قَالَ: يَقْرَؤُهُنَّ وَهُوَ يَعْقِلُهُنَّ.

الشيخ: والمقصود أنَّ المشروعَ للمؤمن في تلاوة القرآن أن يتفكَّر، ليس في هذه الآيات، بل في جميع القرآن، قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، وقال سبحانه: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، والربّ ذكر في هذه الآية قال: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].

هذه الطّرق الأخيرة غالبها ضعيفٌ: ما بين أبي جناب، أو مرسل، أو مُعضل، والمحفوظ فيها هو ما ثبت في الصَّحيح: أنَّ النبي ﷺ لما استيقظ في الليل -وكان عنده ابن عباسٍ- تلا هذه الآية، نظر إلى السَّماء وتلا هذه الآيات عند استيقاظه عليه الصلاة والسلام في الليلة التي نام عنده ابن عباس.

أمَّا التَّفكر والتَّدبر فهذا مطلوبٌ في جميع القرآن، وفي جميع المخلوقات، يتدبر في هذه الآيات العظيمة من أول القرآن إلى آخره؛ لأنَّه أُنزل للعلم والعمل، لا لمجرد التِّلاوة، بل أُنزل هذا القرآن للعلم بأحكامه وما فيها من الخير، وللعمل بما فيه من الأوامر، وترك النَّواهي، ولا سبيل إلى هذا إلا بالتَّدبر والعقل والفهم والقصد الصَّالح.

والمخلوقات فيها عِبَر، يتفكر في خلقه: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، في السماء، في الأرض، في النبات، في الحيوانات، هذه الآيات كلها عِبَر، مخلوقات ..... آيات عِبَر: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ۝ وَفِي أَنْفُسِكُمْ [الذاريات:20- 21]، فالله جلَّ وعلا جعل هذه المخلوقات آيات على عظمته واستحقاقه العبادة، وأنه ربّ العالمين، فإذا فكَّر فيها عرف الأمر العظيم، عرف ذلك من أدلة إيمانه بالله وتعظيمه: في الأرض، في السماء، في الحيوانات المعروفة، في الحياة الصَّغيرة من الذّباب والبعوض والنَّمل، وغير ذلك، كلّها فيها عِبَر، كلها فيها آيات.

ثم التَّفكر يُكْسِب قلبَه خوفًا من الله، وتعظيمًا له، وخشيةً له سبحانه، وإنابةً إليه، وبكاءً من خشيته، وهكذا؛ ولهذا كان ﷺ -وهو أفضل الخلق ومغفورٌ له- يُسْمَع لصدره أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء عند القراءة، وكان الصّديقُ -وهو أفضل الأُمَّة بعد محمدٍ ﷺ- ما كان يُسْمِعُ الناسَ إذا قرأ من بكائه، إذا قرأ القرآن .

المقصود أنَّ المؤمن إذا قرأ القرآنَ يكون عنده عناية وتدبّر وتعقّل، سواء في الصلاة، أو في خارج الصلاة؛ ليستفيد ويعلم من أحكام القرآن وما دلَّ عليه من العِظَات والذِّكْرَى، وتعظيم الربّ، وبيان صفاته العظيمة ما يجعل قلبَه يمتلئ حُبًّا وتعظيمًا وخشيةً لله .

س: أغلب القُرَّاء في المساجد اليوم يقرؤون بينهم وبين أنفسهم، فإذا دخلت المسجدَ تقول: هذا ما فيه أحدٌ؟

ج: على كل حالٍ هذا فيه تفصيلٌ: إن كان حوله مُصلّون أو قُرَّاء لا يُسمعهم ..... لا يُشوش عليهم، أما إن كان الناسُ يسمعون له يرفع الصَّوت، أمَّا إذا كان لا، ما يسمعون، مشغولون؛ هذا يقرأ، وهذا يُصلي، فلا يشغلهم، النبي ﷺ جاء المسجدَ والناس فيه يقرؤون فقال: كلُّكم يُناجي ربَّه، فلا يُؤذِي بعضُكم بعضًا، فلا يجهر بعضُكم على بعضٍ، فالقُرَّاء يختلفون، فإذا كان القارئُ عند ناسٍ يستمعون يرفع صوته؛ حتى يُفيدهم، وإذا كانوا يقرؤون لا يُشوش عليهم، أو يُصلّون لا يُشوش عليهم.

حَدِيثٌ آخَرُ فِيهِ غَرَابَةٌ: قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بن بشير بن نمير: حدَّثنا إسحاقُ بن إبراهيم البُستي. (ح) قال: وحدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زَيْدٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن عمرو قال: أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الزُّهْرِيُّ: أَنْبَأَنَا مظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ الْمَخْزُومِيُّ: أَنْبَأَنَا سَعِيدُ ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ كُلَّ لَيْلَةٍ.

مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ ضَعِيفٌ.

الشيخ: الحديث ثابتٌ من حديث ابن عباسٍ، معروفٌ قراءته لها إذا استيقظ عليه الصلاة والسلام، هذا معروفٌ، نعم.

س: إبراهيم بن زيد؟

ج: مُظَاهِرُ بن أسلم.

الطالب: قَالَ: حدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زَيْدٍ.

الشيخ: أيش عندك: إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ.

الطالب: ابن زيد.

الشيخ: ابن زيد.

الطالب: نعم.

الشيخ: نعم.

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:195].

يَقُولُ تَعَالَى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَيْ: فأجابهم ربّهم، كما قال الشاعر: [الطويل]

وداعٍ دَعَا: يَا مَن يُجِيبُ إِلَى النِّدَى فَلم يَسْتَجِبْهُ عنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ

قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ -رَجُل مِنْ آلِ أُمِّ سَلَمَةَ- قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا نَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الهجرة بشيءٍ! فأنزل اللهُ تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.

وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: هِيَ أَوَّلُ ظَعِينَةٍ قَدِمَتْ عَلَيْنَا.

وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي "مُسْتَدْرَكِهِ" مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

الشيخ: وهكذا في الآيات الأحكام مُعلَّقة بالرجال والنِّساء، مَن أصلح وأحسن فله الأجر العظيم، كما في هذه الآية: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ إلى آخر الآية، وقال جلَّ وعلا: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، والله جلَّ وعلا خلق الجميعَ لعبادته، رجالًا ونساءً، جنًّا وإنسًا، ومَن أحسن منهم واستقام فله الجنّة والكرامة، من ذكرٍ أو أنثى، من جنٍّ وإنسٍ، ومَن أساء فعليه إثم ذلك.

س: هل الإيمانُ شرطٌ في العمل؟

ج: هو الأصل، هو أساس الدِّين، الإيمان هو الأساس؛ ولهذا قال: وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، والإيمان معناه: الإيمان بأنَّ الله ربَّه وإلهه ومعبوده الحقّ، والإيمان بكلِّ ما أخبر الله به ورسوله: من الجنة والنار، والبعث والنشور، وغير هذا، ثم العمل داخلٌ في الإيمان.

وَقَدْ روى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ سلمة قالت: آخر آيةٍ نزلت هَذِهِ الْآيَةُ: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ إِلَى آخِرِهَا. رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ ذَوِي الألباب لما سألوا ما سَأَلُوا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ؛ عَقَّبَ ذَلِكَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186- 187].

وقوله تعالى: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْإِجَابَةِ، أَيْ قَالَ لَهُمْ مُجِيبًا لَهُمْ: أَنَّهُ لَا يَضِيعُ عَمَلُ عَامِلٍ لَدَيْهِ، بَلْ يُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ بِقِسْطِ عَمَلِهِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى.

وَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أَيْ: جَمِيعُكُمْ فِي ثَوَابِي سَوَاءٌ.

فَالَّذِينَ هَاجَرُوا أَيْ: تَرَكُوا دَارَ الشِّرْكِ وأتوا إلى دار الإيمان، وفارقوا الأحبابَ والإخوان والخلَّان وَالْجِيرَانَ، وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ أَيْ: ضَايَقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بالأذى حتى ألجؤوهم إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أَيْ: إِنَّمَا كَانَ ذَنْبُهُمْ إِلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة:1]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].

وقوله تعالى: وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا وَهَذَا أَعْلَى الْمَقَامَاتِ: أَنْ يُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُعْقَرَ جَوَادُهُ، وَيُعَفَّرَ وَجْهُهُ بدمه وتُرابه.

وقد ثبت في "الصَّحيحين" أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا، مُحْتَسِبًا، مُقْبِلًا، غَيْرَ مُدْبِرٍ، أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَا قَالَ، فَقَالَ: نَعَمْ، إِلَّا الدَّيْنَ، قَالَهُ لِي جِبْرِيلُ آنِفًا.

الشيخ: يعني: لا يضيع، يبقى لصاحبه حتى يوفى حقَّه.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أَيْ: تَجْرِي فِي خِلَالِهَا الْأَنْهَارُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشَارِبِ: مِنْ لَبَنٍ، وَعَسَلٍ، وَخَمْرٍ، وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.

وَقَوْلُهُ: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَضَافَهُ إِلَيْهِ وَنَسَبَهُ إِلَيْهِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّ الْعَظِيمَ الْكَرِيمَ لَا يُعْطِي إِلَّا جَزِيلًا كَثِيرًا، كما قال الشاعر: [الخفيف]

إِنْ يُعَذّب يَكُن غَرامًا وَإِنْ يُعْـ طِ جَزيلًا فإِنَّه لَا يُبَالي

وقوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ أَيْ: عِنْدَهُ حُسْنُ الْجَزَاءِ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا.

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ دُحَيم بْنِ إِبْرَاهِيمَ.

الشيخ: دحيم، عبدالرحمن بن إبراهيم يقال له: دُحيم.

قال: قال الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: أَخْبَرَنِي جرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ: أَنَّ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ كَانَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَّهِمُوا اللَّهَ فِي قَضَائِهِ، فإنَّه لا يبغي على مؤمنٍ، فإذا أُنْزِلَ بِأَحَدِكُمْ شَيْءٌ مِمَّا يُحِبُّ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَإِذَا أُنْزِلَ بِهِ شَيْءٌ مِمَّا يَكْرَهُ فَلْيَصْبِرْ وَلْيَحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللهَ عنده حُسْنُ الثَّوَابِ.

الطالب: في نسخة الشَّعب: حريز بن عثمان.

الشيخ: أَيش عندكم؟

الطالب: جرير.

الشيخ: حدَّثنا.

الطالب: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ دُحَيم بْنِ إِبْرَاهِيمَ قال: قال الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: أَخْبَرَنِي جرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ.

الشيخ: لا، حريز –بالزاي.