تفسير قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}

وَقَدْ روى الحاكمُ في "مستدركه": أنبأنا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ بِمِصْرَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخرِّجاه.

وكذا رَوَاهُ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وكانا حواريّي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَوَزِيرَيْهِ، وَأَبَوَيِ الْمُسْلِمِينَ.

الشيخ: حطّ نسخة: محمد بن أحمد، والآية تعمّ الصَّحابة جميعًا؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا قال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159]، هذا يعمّ الصحابة جميعًا، ولكن أبو بكر وعمر هما أخصّ الصحابة، وهما أفضل الصَّحابة، وهما كانا جليسيه غالبًا وكثيرًا، ويُشاورهما كثيرًا عليه الصلاة والسلام، وكان يقول كثيرًا: كنتُ أنا وأبو بكر وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر، وجئتُ أنا وأبو بكر وعمر، المقصود أنَّهما كانا مُلازمين له عليه الصلاة والسلام، فكان يُشاورهما كثيرًا، ويتحدّث معهما كثيرًا، فهما الخلاصة في القمّة من الصحابة، هما أفضل الصَّحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا، وهما أفضل الخلفاء الأربعة، وهما اللَّذان قال فيهما النبيُّ ﷺ: اقتدوا باللَّذين من بعدي: أبو بكر وعمر، قد أعطاهما اللهُ من العلم والفضل والحكمة والحلم والبصيرة والسياسة الشَّرعية ما لم يُعْطِ غيرَهما، فلهما مزية عظيمة في علمِهما وفضلِهما وبصيرتهما وصدقهما رضي الله عن الجميع وأرضاهم.

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُالْحَمِيدِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ: أَنَّ رسولَ الله ﷺ قال لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: لَوِ اجْتَمَعْنَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا.

الشيخ: وهذا وإن كان فيه شهر، شهر فيه ضعف، وله أوهام، وكذلك ما تقدم من رواية ابن عباس: أن المراد ..... عن الصّديق وعمر، المقصود بيان مزيّتهما وخصوصيّتهما وفضلهما، والمشاورة تكون في الأمور التي ليس فيها نصٌّ، أمَّا ما كان فيه نصٌّ فليس فيه مُشاورة، ليس فيه إلا التَّنفيذ، إلا أن تكون مُشاورة فيما يتعلّق بكيفية التَّنفيذ، وما قد يترتب على بعض الكيفيات من الأمور التي قد يُخشى منها، فهذا محل المشاورة، وإلا فالأمر الواجب والأمر المعروف الذي لا شكَّ فيه ليس فيه مُشاورة، ليس هناك مشاورة في: هل يُصلي أو ما يُصلي؟ هل يصوم رمضان أو ما يصوم؟ هل يحجّ إن كان مُستطيعًا أم لا؟ لكن قد تكون مُشاورة في الكيفية: هل يُعجّلها هذا اليوم أو يُؤجّلها؟ لشدة الحرّ، أو لأنَّه ليس هناك .....، أو مُشاورة فيما يتعلّق بصيام رمضان فيما يتعلق بشخصٍ: هل مثله يصلح أن يُقبل قوله في الرّؤية، أو في الدّخول، أو في الخروج؟ وهل مثله –يعني- عدالته واضحة؟ المقصود مثل الأشياء التي يكون لها تعلّق بالعبادة، لكن ليس مُشاورة في أصل العبادة، بل في شيءٍ يتعلّق بها، جاء الشرعُ بالتَّثبت فيه، والنظر فيه من جهة المشاورة، نعم.

وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بن أبي طالبٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عن العزم، فقال: مُشَاوَرَةُ أَهْلِ الرَّأْيِ ثُمَّ اتِّبَاعُهُمْ.

الشيخ: يعني في قوله تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159] يعني: العزم والحزم كونه يُشاور في الأشياء المشتبهة، يُشاور أهلَ الرأي والبصيرة، كما جرى يوم بدر وفي غيره، ويوم أحد، فإذا أشاروا واتَّضح له وجهُ الصواب شمَّر ونفذ، هكذا يكون أهلُ الحزم وأهلُ البصيرة وأهلُ الجدّ في الأمور والصّدق؛ يُشاورون فيما يشتبه، فإذا اتَّضح الأمرُ جدّوا وشمَّروا ونفذوا ما تقتضي المصلحةُ تنفيذه من فعلٍ أو تركٍ.

س: هل الشّورى مُلزمة؟

ج: الذي يظهر والله أعلم أنها مُلزمة ما لم يتَّضح للمُستشير ما هو أولى بالأدلّة.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حدَّثنا يحيى بن بُكَيْرٍ.

الطالب: يحيى ابن أبي بُكير.

الشيخ: يُقال كذا وكذا، هو يحيى بن عبدالله بن بُكير، يُنسب إلى جدِّه فيُقال: يحيى بن بُكير، ويُنسب إلى أبيه فيُقال: يحيى ابن أبي بكير، كلاهما صحيح.

عَنْ سفيان.

الطالب: في رواية البخاري في "الأدب": عن شيبان -هو أبو معاوية- عن عبدالملك بن عُمير.

الشيخ: أبو معاوية هو عبدالملك بن عُمير، ما هو شيبان، حطّ عليه نسخة، ويُراجع ابن ماجه.

عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قال: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ.

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بأبسط من هذا.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ شَرِيكٍ.

الشيخ: عن شريك: أنَّ المستشارَ مُؤتمن، كما في الحديث العظيم، يعني: يجب عليه أن يتَّقي الله، وأن ينصح، يعني: قد استنصحه أخوه واستشاره، فالواجب أن ينصحه في المشورة؛ ولهذا في الحديث الصَّحيح: وإذا استنصحك فانصح له، رواه مسلمٌ.

والمقصود من الشّورى صدق المشورة، والنّصح فيها، وعدم الغشّ، فإذا أشار عليه بما يعلم أنَّه خلاف الصّواب، أو يعتقد أنه خلاف الصّواب فقد غشَّ وخان الأمانة.

عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيباني، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

الطالب: في نسخة الشّعب: عن أبي مسعودٍ.

الشيخ: الظَّاهر أنه ابن مسعود، أبو عمرو هذا صاحب ابن مسعودٍ.

الطالب: هو أشار إلى أنَّ التَّصحيح قال في المخطوطة: ابن مسعود، وينظر "سنن ابن ماجه".

الشيخ: يُراجع، ولكن المعروف أنَّ أبا عمرو الشَّيباني هو صاحب ابن مسعودٍ .....

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ. تَفَرَّدَ به.

وقال أيضًا: حدَّثنا أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ وَعَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا اسْتَشَارَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُشِرْ عَلَيْهِ. تفرَّد به أيضًا.

وقوله تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أَيْ: إِذَا شَاوَرْتَهُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَزَمْتَ عَلَيْهِ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159].

الشيخ: وفي هذا المعنى سرٌّ عظيمٌ، وهو أنَّك مع الاستشارة والحزم والعناية توكّل على الله في الأمور، فوّض إليه، والجأ إليه في نجاح الأمور وسدادها وإصابتها، لا تظنّ أنَّ هذه الاستشارة وهذا العزم تنجح به الأمور، لا، توكّل على الله في نجاحها، أنت عليك الأسباب، وقد أخذت بالأسباب، فحينئذٍ توكّل على الله في النّجاح وتيسير الأمور، واعتمد عليه سبحانه، وأنه يُيسّر الأمور، ليس جهدك ومُشاورتك هي التي يحصل بها المقصود وحدها، بل هي من الأسباب، من أسباب النجاح، والنجاح بيده، والتوفيق بيده جلَّ وعلا، فتوكّل عليه، يعني: فوّض إليه أمرك، وأحسن به الظنّ، واسأله العون والتّوفيق.

س: ..............؟

ج: كل مقامٍ له مقال، إذا كان الأمرُ يتعلّق بالأحكام الشَّرعية فالعلماء، وإن كان شيئًا يتعلّق بالسياسة؛ له تعلّق بمَن يرى أنهم من أهل السياسة والبصيرة، وإذا كان يتعلّق بأهله وطعامهم وشرابهم مع أهله وأولاده، هكذا كل شيءٍ له ما يُناسبه.

وَقَوْلُهُ تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، وهذه الآية كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.

الشيخ: وهذه كلمة جامعة: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ كلمة جامعة، من جوامع الكلم، يعني: متى نصرهم الله، يعني: متى أراد نصرهم سبحانه فلن يخذلهم أبدًا، ولن يستطيع أحدٌ خذلانهم ولو اجتمع أهلُ الدنيا، ومتى أراد هزيمتهم وخذلانهم لن يُنصَروا وإن اجتمع أهلُ الدنيا على نصرهم، إنما عليهم الأسباب، الأخذ بالأسباب التي رتَّب اللهُ عليها النَّصر، والحذر من أسباب الخذلان: من المعاصي، والفشل، والتنازع، فعليهم الأسباب والنَّصر بيد الله، والخذلان بيده ، لكنه بيَّن الأسبابَ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، بيَّن السَّبب قال سبحانه: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:40- 41]، وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ الآية [النور:55]، فأوضح الأسبابَ التي بها النَّصر من عنده جلَّ وعلا، وأبان أنه متى أراد نصرهم بوجود الأسباب المقتضية لذلك لن يُخلف وعده.

وهذا يُعطي المؤمنين الثِّقة العظيمة بربهم، والحساب القوي الشديد لأنفسهم، يُحاسبوها حتى يعملوا بما أمرهم الله، وحتى يستقيموا على الطَّريق الذي رسمه الله، وبهذا يحصل لهم ما وعدهم اللهُ: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر:20] .

س: حديث: لن يُغلب اثنا عشر ألفًا من قلَّةٍ؟

ج: يعني: إذا توافرت الأسباب الأخرى لن يُغلبوا من قلَّةٍ، لكن قد يُغلبوا من أجل عدم تعاونهم ونزاعهم وفشلهم، أو لمعاصيهم الظَّاهرة التي لم يُنكروها، أو لأسبابٍ أخرى خُذِلُوا، وقعت في الحرب -حرب الصَّحابة وحروب بعدها- آيات عجيبة في نصر القليل، وخذلان الكثير، قد يتلاقى خمسون ألفًا مع ألفٍ أو ألفين، فيُهزم الخمسون، ويُنصر الألف والألفان، والتقى يوم بدر ألفٌ أو ما يُقاربهم مع القوة العظيمة مع ثلاثمئة وبضعة عشر مع القوة الضَّعيفة، ومع هذا هزم اللهُ الألفَ وقوّتهم العظيمة.

وقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَ.

الشيخ: يعني لأنَّ الغلول نوعٌ من الخيانة: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ يعني: يغلّ شيئًا من الغنائم، ويخون فيها الرعية، بل عليه أن ينفذ أمرَ الله في أمر الغنائم كما أمر، والأنبياء هم أصدق الناس، وأنصح الناس، وأوفى الناس بالعهود عليهم الصلاة والسلام، وفيهم القُدوة، فهكذا المؤمنون ليس لهم أن يغلّوا، بل عليهم أن يُؤدّوا الحقوقَ، وأن يُؤدّوا ما غنموا لولي الأمر؛ حتى يقسم بينهم الغنائم على الوجه الذي شرعه الله.

والغلول: الخيانة بإخفاء بعض الغنيمة؛ حتى لا تأتي عليها المقاسِم.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا الْمُسَيَّبُ بْنُ وَاضِحٍ: حَدَّثَنَا أبو إسحاق الفزاري، عن سفيان بن خَصِيفٍ.

الشيخ: عن خصيف، يعني: الجزري.

عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَقَدُوا قَطِيفَةً يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالُوا: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَخَذَهَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أَيْ: يخون.

الشيخ: هذا الحديث ضعيفٌ؛ لأنَّ خُصيفًا ضعيفٌ، ولا يُظنّ بالصحابة ذلك، وإن صحَّ كان المعنى: لعله عمل فيها شيئًا رآه مُناسبًا مُوافقًا؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام فيما يبلغه عن الله وفيما يشرعه للناس عن الله معصومٌ في ذلك، فلو صحَّ لكانت القطيفةُ من ..... الذي لا يُخفيه عليهم، يُبيّنه لهم، ما أخذه يُبيّنه لهم، ولا يُخفي عليهم شيئًا عليه الصلاة والسلام، فالحديث بهذا اللَّفظ ليس بجيدٍ، نعم خصيف ليس بشيءٍ.

س: .............؟

ج: هو ثقة، ابن أبي حاتم ثقة، وأبوه ثقة، لكن الكلام في السَّند إذا سلم.

س: المتن مُنكر؟

ج: نعم، ضعيف، منكر المتن، وضعيف السند، لكن لو صحَّ ما معناه أنَّهم اتَّهموه بالغلول، معناه: أنَّه لعله فعل بها شيئًا يراه من الأمور المناسبة، خفي على المتحدِّثين ما فعله عليه الصَّلاة والسَّلام.

وقال ابنُ جريرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِالْمَلِكِ ابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ: حَدَّثَنَا عَبْدُالْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ: حَدَّثَنَا خصيفٌ: حَدَّثَنَا مِقْسَمٌ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ نَزَلَتْ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، فقال بعضُ الناس: لعلَّ رسولَ الله أخذها. فَأَكْثَرُوا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

الشيخ: وهذا مما يُؤيد أنَّه غلط من خصيف؛ لأنَّ القطيفة أمرها بسيط في غنيمةٍ عظيمةٍ يوم بدر، ما لها أهمية ليتحدث عنها الصَّحابة، القطيفة: كساء من عرض الأكسية.

س: ألا يجوز أن يكون القائلُ بعض المنافقين؟

ج: الله أعلم، لكن الحديثَ ضعيفٌ، والنِّفاق إنما نجم بعد أُحُدٍ.

وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِالْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ بِهِ.

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ خصيفٍ، عَنْ مِقْسَمٍ، يَعْنِي: مُرْسَلًا.

وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَمْرِو ابْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اتَّهَمَ الْمُنَافِقُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِشَيْءٍ فُقِدَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ.

الشيخ: هذا مُطلق، هذه الرِّواية ما فيها يوم بدر، ولم يذكر السَّند؛ لأنَّ سندَ ابن مردويه سندٌ طويلٌ، ما يُدرى عن قبول السَّند ورجاله.

وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ ما تقدَّم، وهذا تنزيهٌ له صلوات الله وسلامه عليه من جَمِيعِ وُجُوهِ الْخِيَانَةِ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَقَسْمِ الْغَنِيمَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أَيْ: بِأَنْ يَقْسِمَ لِبَعْضِ السَّرَايَا وَيَتْرُكَ بَعْضًا.

وَكَذَا قال الضَّحاك.

وقال محمدُ بن إسحاق: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ بِأَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ فَلَا يُبَلِّغُهُ أُمَّتَه.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ: يُخَانُ.

وَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ غَلَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ.

رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُمَا، ثُمَّ حَكَى عن بعضِهم أنَّه فسَّر هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بِمَعْنَى: يُتَّهَمُ بِالْخِيَانَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ.

وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ.

س: أحسن الله إليك، قال: (وقد غلَّ بعضُ الصَّحابة) هل يُتصور أنَّ الصَّحابة رضي الله تعالى عنهم يفعلون ذلك؟

ج: الواحد منهم ما هو بمعصومٍ، لكن السَّند في ثبوته مقال، الواحد ما هو بمعصومٍ، لكن انظر الكلمة التي فيها: (وقد غلَّ بعضُ الصَّحابة) أيش؟

الطالب: وَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ غَلَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ.

الشيح: هذا مَن لم يُسمّ أحدًا من الناس، ليس بمُعتمدٍ، والكلام: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الكلام في النبي عليه الصلاة والسلام نفي، المقصود طهارة النبي ﷺ، وبيان عصمته من هذا، ليس الكلامُ في الصَّحابة، هذا التفسير ليس بجيدٍ.

س: صاحب الشَّملة التي غلَّها من الصَّحابة؟

ج: نعم، كان غلامًا للنبي ﷺ، قال: إني رأيتُ الشَّملةَ تشتعل عليه نارًا، المقصود أنَّ الواحد منهم ما هو بمعصومٍ.

س: قوله: رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100] ما يجعل ..؟

ج: الصَّحابة رضي الله عنهم ورضوا عنه بنصِّ القرآن: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ بنصِّ القرآن.

وهكذا كل مؤمنٍ بعدهم الله يرضى عنهم، وهم يرضون عنه ، كما في سورة البينة: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:8].