تفسير قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ..}

فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَوْمَ أُحُدٍ خَلْفَ الْمُسْلِمِينَ يُجْهِزْنَ عَلَى جَرْحَى الْمُشْرِكِينَ، فَلَوْ حَلَفْتُ يَوْمَئِذٍ رَجَوْتُ أَنْ أَبَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ منا أحدٌ يُريد الدنيا، حتى أنزل اللهُ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152]، فَلَمَّا خَالَفَ أصحابُ رسولِ الله ﷺ، وعصوا ما أُمِرُوا به، أُفْرِدَ النبيُّ ﷺ فِي تِسْعَةٍ: سَبْعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُوَ عَاشِرُهُمْ ﷺ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا رَدَّهُمْ عَنَّا، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ سَاعَةً حَتَّى قُتِلَ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ أَيْضًا قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا رَدَّهُمْ عَنَّا، فَلَمْ يَزَلْ يقول ذلك حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِصَاحِبَيْهِ: مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا.

فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: اعْلُ هُبَلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، فَقَالُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى، وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا، وَالْكَافِرُونَ لَا مَوْلَى لهم. فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدرٍ:

فَيَوْمٌ عَلَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرُّ

حَنْظَلَةُ بِحَنْظَلَةَ، وَفُلَانٌ بِفُلَانٍ، وَفُلَانٌ بِفُلَانٍ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا سَوَاء؛ أَمَّا قَتْلَانَا فَأَحْيَاءٌ يُرْزَقُون، وأمَّا قتلاكم ففي النَّارِ يُعَذَّبون.

فقال أبو سفيان: لقد كان في القوم مثلة، وإن كان لَعَنْ غَيْرِ مَلَإٍ مِنَّا، مَا أَمَرْتُ وَلَا نَهَيْتُ، وَلَا أَحْبَبْتُ وَلَا كَرِهْتُ، وَلَا سَاءَنِي وَلَا سَرَّنِي.

الشيخ: يعني ..... "عن غير ملإٍ" يعني: ما تشاوروا فيها، فعلها بعضُ الناس، تمثيلٌ: قطع الأنف، أو الأذن، أو نحو ذلك، هذا وقعٌ في يوم أحدٍ من المشركين؛ مثَّلوا ببعض الصحابة، فيقول لهم: ليس عن ملأ منا، أو عن مشورةٍ، أو عن اتفاقٍ، ولكن وقع من شدّة البُغض والكُره.

قَالَ: فَنَظَرُوا فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ، وَأَخَذَتْ هِنْدُ كَبِدَهُ فَلَاكَتْهَا.

الشيخ: هند بنت عتبة، امرأة أبي سفيان؛ لكونه قتل شيبة بن ربيعة –عمّها- يوم بدر.

فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَأْكُلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَكَلَتْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ.

الشيخ: والسَّند هذا فيه انقطاعٌ؛ لأنَّ الشَّعبي ما أدرك ابن مسعودٍ، وحماد هو الأظهر: حماد بن سلمة، وسماعه من عطاء بن السَّائب وقع قبل الاختلاط وبعده، لكن ما حصل معروفٌ يوم أحد من البلاء العظيم والمصيبة العظيمة، أمره معروف، نعم.

س: .............؟

ج: الظاهر والله أعلم أنَّه حماد بن سلمة يروي عن عفان، وحماد بن زيد سمع منه قبل الاختلاط، وحماد بن سلمة سمع قبله وبعده، لكن فيه انقطاعٌ؛ الشَّعبي ما أدرك ابن مسعودٍ.

قَالَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَجِيءَ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَوُضِعَ إِلَى جَنْبِهِ فصلَّى عليه، فرُفِعَ الأنصاريُّ وتُرِكَ حمزةُ حتى جيء بآخرَ فوُضِعَ إِلَى جَنْبِ حَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ رُفِعَ وَتُرِكَ حَمْزَةُ، حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ صَلَاةً. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا.

الشيخ: وهذا أيضًا من مناكير المتن؛ لأنَّ النبي ﷺ ما صلَّى على قتلى أحدٍ، وهذا يُبين ضعفَ هذه الرِّواية وعدم صحّتها، وقد ثبت في البخاري رحمه الله وغيره من حديث جابرٍ: أنَّه ﷺ لم يُصلِّ على قتلى أحدٍ ولم يغسّلهم، بل دفنهم في ثيابهم ودمائهم، وهذا هو المعروف المحفوظ، وأما هذه الرِّواية فضعيفة جدًّا من جهة ما ذُكِرَ فيها من الصَّلاة على القتلى، ومن جهة الأمور الأخرى: من جهة خبر هند وأخذها كبد حمزة، ومن جهة القتلى السّبعة، نعم.

س: كذلك قوله: ما كان اللهُ ليُدْخِلَ شيئًا .....؟

ج: كذلك هذه؛ لأنَّ هند أسلمت رضي الله عنها، المقصود أنَّ المتنَ فيه نكارة من وجوهٍ، وهو ضعيفٌ جدًّا، ومُنكر المتن، وكان اللائقُ بالمؤلف أن يُنبّه على ذلك رحمه الله، نبَّه في الحاشية على أنَّه ضعيفٌ، ومتنه منكر، والمحفوظ أنه ﷺ لم يُصلِّ على القتلى، لم يُغسِّلهم، ولم يُصلِّ عليهم.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَقِينَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ ﷺ جَيْشًا مِنَ الرُّمَاةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَالله بنَ جُبَيْرٍ، وَقَالَ: لَا تَبْرَحُوا، إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَبْرَحُوا، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فلا تُعِينونا، فلمَّا لقيناهم هربوا حتى رأيتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الْجَبَلِ رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ، قد بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ، فَأَخَذُوا يَقُولُونَ: الْغَنِيمَةَ، الْغَنِيمَةَ. فَقَالَ عبدُالله بن جُبير: عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ ألَّا تَبْرَحُوا. فَأَبَوْا، فَلَمَّا أَبَوْا صَرَفَ وُجُوهَهُمْ، فَأُصِيبَ سَبْعُونَ قَتِيلًا، فَأَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ: لَا تُجِيبُوهُ، فَقَالَ: أَفِي القوم ابنُ أبي قُحافة؟ قال: لَا تُجِيبُوهُ، فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ قُتِلُوا، فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءَ لَأَجَابُوا. فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ له: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، قَدْ أَبْقَى اللَّهُ عليك ما يُحزنك.

قال أَبُو سُفْيَانَ: اعْلُ هُبَلُ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَجِيبُوهُ، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجلّ.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى، وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَجِيبُوهُ، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، وَتَجِدُونَ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بِنَحْوِهِ، وَسَيَأْتِي بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ، فَصَرَخَ إِبْلِيسُ: أَيْ عِبَاد الله، أُخراكم. فرجعت أُولاهم فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ، فَبَصُرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ الْيَمَانِ، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ، أَبِي، أبي. قال: قالت: فوالله مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللهُ لكم.

قال عروةُ: فوالله مَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لحق بالله .

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ.

الشيخ: يعني: عن أبيه عباد، عن جدِّه عبدالله بن الزُّبير.

أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ هِنْدَ وَصَوَاحِبَاتِهَا مُشَمِّرَاتٍ هَوَارِبَ، مَا دُونُ أَخْذِهِنَّ كَثِيرٌ وَلَا قَلِيلٌ، وَمَالَتِ الرُّمَاةُ إِلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفْنَا الْقَوْمَ عَنْهُ يُرِيدُونَ النَّهْبَ، وَخَلَّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ، فَأَتَتْنَا مِنْ أَدْبَارِنَا.

الشيخ: يعني لما أخلَّ الرماةُ بالموقف دخلت الخيلُ على المسلمين من خلفهم، وصارت المصيبةُ، وهذا الذي خشيه النبيُّ ﷺ، لكن المقدّر ما قدَّره اللهُ، فهو كائنٌ، النبي خاف من هذا وقال: الزموا مكانَكم ولو رأيتُمونا نُصرنا أو غير منصورين الزموا. لله الحكمة ، أمرٌ قضاه الله.

مداخلة: ............

الشيخ: الكلمة الطيبة –يعني- وهي خيرٌ عظيمٌ، وهذا من الخير الكثير: كونه سامحهم، قتلوا أباه غلطًا وسامحهم.

وَصَرَخَ صَارِخٌ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. فَانْكَفَأْنَا وَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ، حَتَّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمْ يَزَلْ لِوَاءُ الْمُشْرِكِينَ صَرِيعًا حَتَّى أَخَذَتْهُ عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةُ فَدَفَعَتْهُ لِقُرَيْشٍ فَلَاثُوا بِهَا.

مداخلة: في نسخة الشعب: فلاثوا به.

الشيخ: ..... به، نعم، وبها يعني: الراية على المعنى، يعني به أولى؛ لظاهر اللَّفظ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عن عليِّ بن عبدِالله بن مسعودٍ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُ الدُّنيا حتى نزل فِينَا مَا نَزَلَ يَوْمَ أُحُدٍ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152].

الشيخ: محتمل أن يكون عن عليٍّ وعبدالله، يعني: علي بن أبي طالب وعبدالله. أيش عندك يا شيخ سلطان؟

الطالب: قال السّدي: عن عبد خيرٍ قال: قال عبدُالله بن مسعودٍ.

الشيخ: ما في عليٍّ؟

الطالب: ما في عليّ، وفي الحاشية قال: مكانه في المخطوط: عند جواب. يُنظر "تفسير الطبري" المجلد السابع (ص295).

مداخلة: في ..... ابن أبي حاتم من طريق السُّدي، يقول: حدَّثنا ..... عن السُّدي، عن عبد خيرٍ قال: قال عبدالله بن مسعودٍ.

الشيخ: إيه، مثلما عندك ..... نسخة الشّعب قال: قال عبدُالله بن مسعود ..... انظر ابن جرير.

الطالب: قال: يُنظر "تفسير الطبري" المجلد السابع (ص295).

الشيخ: وقبل هذا؟

الطالب: قال: مكانه في المخطوط: عند جواب. ينظر "تفسير الطبري" المجلد السابع (ص295).

الشيخ: حطّ علامة على عليّ قال: قال ابنُ مسعودٍ، فقط يكفي، اشطب عليه، قال: قال ابنُ مسعودٍ، علي اشطبه.

عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قال: قال عبدُالله بن مسعودٍ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُ الدُّنيا حتى نزل فِينَا مَا نَزَلَ يَوْمَ أُحُدٍ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ.

وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي طَلْحَةَ. رَوَاهُنَّ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي "تَفْسِيرِهِ".

الشيخ: وفي قصّة أحدٍ من العِبَر ما فيها، ابنُ القيم بسط الكلامَ فيها في "زاد المعاد"، ولكن أهمّ ما فيها أنَّ الأخيارَ يُبتلون ويُنال منهم، فعليهم الصَّبر، إذا كان رسولُ الله ﷺ وهو أفضل الخلق، وهو نبي الله، وخاتم أنبياء الله، ومعه خيرة المؤمنين، وأفضل الناس بعد الأنبياء يُصابون إذا حصل تخليطٌ من بعض الجيش وخللٌ، فغيرهم من باب أولى، فلو أنَّ أحدًا يُنصر لكونه فاضلًا؛ لكونه نبيًّا فقط لم يُهزم النبيُّ ﷺ ولا أصحابه أبدًا، ولكن ليُري اللهُ عبادَه العِبَر، وأنَّه لا بدَّ من الإعداد، لا بدَّ من الحذر، لا بدَّ من الأخذ بالأسباب وعدم الاعتماد على مجرد أنَّك مؤمنٌ، أو أنَّك فاضلٌ، أو أنَّك عالمٌ، أو أنَّك نبيٌّ، لا بدَّ من الأخذ بالأسباب؛ ولهذا قال : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، وقال: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102]، في صلاة الخوف صاروا يُصلون طائفة كذا، وطائفة كذا، كل هذا لأخذ الحذر، كل هذا من الإعداد، ولا يجوز للمسلمين أن يُفرِّطوا لأنهم مسلمون، لا، يجب أن يأخذوا بالأسباب، ويحتاطوا لعدوهم، ويعدّوا العُدّة، ولا يقولوا: هم كفّار، ونحن مسلمون ويكفي. لا، الله ابتلى هؤلاء بهؤلاء، وابتلى هؤلاء بهؤلاء: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7].

فلو كان المؤمنون يُنصرون أبدًا، والكافرون يُخذلون أبدًا؛ ما بقي كافرٌ، دخل الناسُ كلُّهم في دين الله، لكن هذا الابتلاء والامتحان هو الذي جرَّأ الأكثرين على البقاء على باطلهم، بسبب حلم الله وإمهاله وإنظاره: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ۝ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182- 183]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].

فالواجب على المؤمن أن يأخذ حذرَه، ويستقيم على أمر الله، وأن يحذر معصيته، وألا يأمن مكره، وهكذا الجيش كلهم والسَّرايا وجميع المؤمنين، لا بدَّ من أخذ الحذر.

ففي قصّة أحدٍ عبرة وعِظة، وهكذا يوم الأحزاب النبيُّ ﷺ لم يترك الأسبابَ؛ حفر الخندق، وأقام هو والصّحابة مُحاصَرين من أولئك الأعداء ومُصابرين لهم مدّة تقرب من شهرٍ، حتى أيَّدهم اللهُ، وأنزل نصرًا من عنده جلَّ وعلا، وأرسل على أعداء الله الريحَ، حتى كفأت قدورَهم، وقلعت خيامهم، ورجعوا إلى مكة خائبين، فيوم الأحزاب يوم ابتلاء وامتحان، وزُلزل فيه المسلمون زلزالًا، فثبَّتهم الله وصبَّرهم ثم نصرهم .

فالواجب على كل مؤمنٍ أن يأخذ حذره، وأن يستقيم على طاعة الله ورسوله، وأن يبتعد عن أسباب غضب الله وعقابه، وألا يقول: أنا مسلمٌ ويكفي. لا بدَّ من العمل بالأسباب، ولا بدَّ من الأخذ بالحيطة، ولا بدَّ من أخذ الحذر، ولا بدَّ من التَّعاون على الخير، والصِّدق في لقاء أعداء الله، والإعداد لهم، كما جرى يوم بدر، وكما جرى يوم الفتح، وواقعة أحد، وواقعة الخندق، كلها ابتلاء وامتحان وعِظَة.