تفسير قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ..} (2)

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ: أَخْبَرَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: كان أبو بكر إِذَا ذَكَرَ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ كُلُّهُ لِطَلْحَةَ، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ قَالَ: كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا يُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ دُونَهُ -وَأُرَاهُ قَالَ: حَمِيَّةً- فَقَالَ: فَقُلْتُ: كن طَلْحَةَ، حَيْثُ فَاتَنِي مَا فَاتَنِي، فَقُلْتُ: يَكُونُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي أَحَبُّ إِلَيَّ، وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ لَا أَعْرِفُهُ، وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَى رسولِ الله ﷺ منه، وَهُوَ يَخْطِفُ الْمَشْيَ خَطْفًا لَا أَحْفَظُهُ، فَإِذَا هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ ابْنُ الْجَرَّاحِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى رسولِ الله ﷺ وقد كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، وَقَدْ دَخَلَ في وجنتِه حلقتان من حِلَقِ المغفر، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَلَيْكُمَا صَاحِبَكُمَا، يُرِيدُ طَلْحَةَ، وَقَدْ نَزَفَ، فَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ.

قَالَ: وَذَهَبْتُ لِأَنْ أَنْزِعَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهِهِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي لَمَا تَرَكْتَنِي. فَتَرَكْتُهُ، فَكَرِهَ أَنْ يتناولها بيده فيُؤذي رسولَ الله ﷺ، فأزمَّ عليه بِفِيهِ فَاسْتَخْرَجَ إِحْدَى الْحَلْقَتَيْنِ، وَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ مَعَ الحلقة، وذهبتُ لِأَصْنَعَ مَا صَنَعَ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي لَمَا تَرَكْتَنِي. قَالَ: فَفَعَلَ مِثْلَمَا فَعَلَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ الْأُخْرَى مَعَ الحلقة، فكان أبو عبيدة أَحْسَنَ النَّاسِ هَتْمًا، فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ أَتَيْنَا طَلْحَةَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْجِفَارِ، فَإِذَا بِهِ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ وَضَرْبَةٍ، وَإِذَا قَدْ قُطِعَتْ إِصْبَعُهُ، فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِهِ.

وَرَوَاهُ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بِهِ.

وعند الهيثم: فقال أبو عبيدة: أنشدك الله يَا أَبَا بَكْرٍ إِلَّا تَرَكْتَنِي؟ فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ السَّهْمَ بِفِيهِ، فَجَعَلَ يُنَضْنِضُهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْذِيَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ اسْتَلَّ السَّهْمَ بِفِيهِ فَبَدَرَتْ ثَنِيَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَذَكَرَ تَمَامَهُ، وَاخْتَارَهُ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ.

وَقَدْ ضَعَّفَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ جِهَةِ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى هَذَا؛ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ القطان، وأحمد، ويحيى بن معين، والبخاري، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.

الشيخ: انظر "التقريب": إسحاق بن يحيى.

اللهم صلِّ وسلم على رسول الله، أمَّا ما أصاب النبيَّ فهو ثابتٌ من جراحٍ وكسر الرّباعية، وما حصل من كسر البيضة على رأسه، هذه أمور معروفة، والرسل يُبتلون، وهكذا أتباعهم من أهل الخير يُبتلون بالشّدة والضَّراء، ثم تكون لهم العاقبة الحميدة، كما جرى لنبيِّنا عليه الصلاة والسلام ولأصحابه؛ فإنَّهم أُصيبوا يوم أحدٍ بما أُصيبوا من الشّدة والجراح والقتل لجماعةٍ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، والله سبحانه هو الحكيم العليم، وقال جلَّ وعلا: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، ويقول سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:165- 167] الآية.

وما في هذا الأثر من إقسام أبي عبيدة بحقِّه على أبي بكر هذا لو صحَّ لكان هذا قبل النَّهي عن الحلف بغير الله؛ لأنَّ النَّهي عن الحلف بغير الله تأخّر، كانوا يحلفون بآبائهم وأُمَّهاتهم ورُؤسائهم والأمانة، وبحقِّ فلان، إلى غير ذلك، ثم نُسخ ذلك، وأخبرهم النبيُّ ﷺ أنَّ الحلفَ لا يكون إلا بالله وحده، قال: فمَن كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله أو ليصمت، وقال: لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأُمَّهاتكم، ولا بالأنداد، وقال: مَن حلف بشيءٍ دون الله فقد أشرك، فاستقرَّت الشريعةُ على تحريم الحلف بغير الله، كائنًا مَن كان، وأنَّ اليمين تكون بالله وحده .

الطالب: إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيدالله التَّيمي، ضعيف، من الخامسة. (الترمذي، وابن ماجه).

الشيخ: نعم.

س: أحسن الله إليك، أيضًا ورد عن عائشةَ أنها قالت لفاطمة بعد موت النبي ﷺ: أقسمتُ عليك بما لي عليك من الحقِّ أن تُخبريني. حينما ذكرتْ لها أنها رأتها ضحكت، ثم رأتها بعد ذلك بكت؟

ج: هذا إن صحَّ عنها بهذا اللَّفظ تكون قد نسيت الأمر، قد يكون مما وقع من النِّسيان؛ نسيان ما حدث من تحريم الحلف بغير الله.

س: وهل هذا من باب ما ينقلونه عن سعيد بن ميناء: أنَّ رجلًا قال له: قد آن لك أن تستريح في الليل، فلما دخل وسمعه الذي يحرس مكانه، سمعه وهو يقول: لا، لا، أهلي. وهو يصيح، ثم دخل عليه، قال مالك: قال: أسمعتَ عني شيئًا؟ قال: نعم. قال: فاكتم عليَّ. قال: أخبرني بحقِّ الصُّحبة، بحقِّ الأُخوة. هل يكون من هذا الباب: من الإقسام بغير الله؟

ج: لا، قد يكون هذا من باب التَّوسل، يعني: بصُحبتي لك. إن صحَّ هذا من أخبار التَّابعين، من أمور التابعين، إن صحَّ فهو من باب التوسل، مثلما قال عبدُالله بن جعفر لعليٍّ: أسألك بحقِّ جعفر عليك. لعله أراد التَّوسل بهذا، نعم، إن صحَّ، ثم لا يخفى أنَّه لا حُجَّةَ في كلام أحدٍ بعد رسول الله ﷺ، إذا غلط الناسُ ما يكون حُجَّة على الشَّريعة، إذا غلط بعضُ الناس أو جهل أو نسي ما يكون كلامُه حُجَّةً، الحجَّة فيما قال الله ورسوله.

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ السَّائِبِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ مَالِكًا -أَبَا أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- لَمَّا جُرِحَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ مَصَّ الْجُرْحَ حَتَّى أَنْقَاهُ وَلَاحَ أَبْيَضَ، فَقِيلَ لَهُ: مُجَّهُ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمُجُّهُ أَبَدًا. ثُمَّ أَدْبَرَ يُقَاتِلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا، فَاسْتُشْهِدَ.

الشيخ: هذا ضعيفٌ، بلاغات ليست بصحيحةٍ، لو صحَّ لكان خاصًّا به ﷺ؛ لأنَّ الدَّم نجسٌ لا يجوز شربه، لكن لو صحَّ لكان من الخصائص، لكنه غير صحيحٍ؛ لأنَّ البلاغات هذه ما يُعتمد عليها.

س: بعضهم ألَّف في الخصائص يذكر أنَّ بولَه عليه الصلاة والسلام ..؟

ج: هذا لو صحَّ يكون من الخصائص، لكن لم يصحّ في هذا شيءٌ فيما نعلم.

س: الأصل أنَّه كالبشر في هذا؟

ج: نعم، هذا هو الأصل؛ ولهذا كان يستنجي من بوله، ويغسل ما أصابه.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ طَرِيقِ عَبْدِالْعَزِيزِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: جُرِحَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكُسِرَتْ رباعيته، وهشمت البيضةُ على رأسه ﷺ، فَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَغْسِلُ الدَّمَ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَسْكُبُ عليه الماء بالمجنِّ، فلما رأت فاطمةُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً أخذت قطعةً من حصيرٍ فأحرقتْهَا حتى إذا صارت رمادًا ألصقته بالجرح فاستمسك الدَّمُ.

وقوله تعالى: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153] أي: فجزاكم غَمًّا عَلَى غَمٍّ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: نَزَلْتُ ببني فلان، ونزلت على بني فلان.

وقال ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَذَا قَوْلُهُ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] أَيْ: عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ بِسَبَبِ الْهَزِيمَةِ، وَحِينَ قِيلَ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَالثَّانِي حِينَ عَلَاهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَوْقَ الْجَبَلِ، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اللَّهُمَّ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا.

وَعَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ بِسَبَبِ الْهَزِيمَةِ، وَالثَّانِي حِينَ قِيلَ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ ﷺ، كان ذلك عندهم أشدّ وأعظم مِنَ الْهَزِيمَةِ. رَوَاهُمَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَحْوُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَ ذَلِكَ أَيْضًا.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ بِسَبَبِ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَتْحِ، وَالثَّانِي بِإِشْرَافِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أَيْ: كَرْبًا بَعْدَ كَرْبٍ: قَتْلُ مَنْ قُتِلَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَعُلُوُّ عَدُوِّكُمْ عَلَيْكُمْ، وَمَا وَقَعَ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: قُتِلَ نَبِيُّكُمْ. فَكَانَ ذَلِكَ مُتَتَابِعًا عَلَيْكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ سَمَاعُهُمْ قَتْلَ مُحَمَّدٍ، وَالثَّانِي مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ.

وَعَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَكْسُهُ.

وَعَنِ السُّدِّيِّ: الْأَوَّلُ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ، وَالثَّانِي إِشْرَافُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا القولُ عَنِ السُّدِّيِّ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ، فَأَثَابَكُمْ بِغَمِّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِحِرْمَانِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ غَنِيمَةَ الْمُشْرِكِينَ وَالظَّفَرَ بِهِمْ وَالنَّصْرَ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ يَوْمَئِذٍ -بَعْدَ الذي كان قد أَرَاكُمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا تُحِبُّونَ- بِمَعْصِيَتِكُمْ أمر ربِّكم، وخلافكم أمر نبيِّكم ﷺ، غَمَّ ظَنِّكُمْ أَنَّ نبيَّكم قد قُتِلَ وميل العدو عليكم بعد فلولكم منهم.

الطالب: هناك حاشية عليها: أي بعد هزيمتكم وفراركم منه. ينظر: "تفسير الطبري" المجلد السَّابع.

الشيخ: المقصود من هذا كلّه أنَّ الله جلَّ وعلا ابتلاهم بالهزيمة بالجراح وما حصل من إرادة المشركين العلو عليهم في الجبل، كل ذلك من أجل ما فعلوا، أثابكم: جازاكم، لما رأوا ما يُحبون، يعني: الهزيمة للعدو، وسقوط رايتهم، ثم حصل ما حصل من الرُّماة من الفشل والنِّزاع وترك الميدان للأعداء؛ أصابتهم المصيبةُ التي منها الهزيمة والقتل والجراح، غمٌّ بغَمٍّ يعني: غمّ بعد غمٍّ، مُتتابع، عُقوبة على ما حصل من الفشل والنِّزاع والإخلال بالموقف.

ولله في ذلك الحكمة البالغة، والحجّة الدَّامغة، وليعلم العباد أنَّ النصر بيده، وأنه ليس بالكثرة، ولا بالقوة، ولكنه بتأييده سبحانه ونصره، كما جرى يوم بدر، وهذا يُوجب الضَّراعة إلى الله، والاعتماد عليه، والانكسار بين يديه، وألا يعجب الناس بالكثرة، ولا بالقوة، بل يسألونه النصر، ويستمدّونه العون، ويعلمون أنَّه الناصر مع القلّة والكثرة.

فالحاصل أنَّ الواجبَ على المؤمنين الاعتماد عليه ، والاعتصام به، وألا يُعجبوا بكثرةٍ ولا قوةٍ، وألا يفشلوا ويتنازعوا، بل يكون عندهم الصّمود والقوة والثَّبات والعزم الصَّادق دائمًا ضدّ عدوهم، هذه هي وسائل النصر، وضدّها وسائل الهزيمة والتَّنازع والفشل والعُجْب بالكثرة أو بالقوة، هذه أسباب الهزيمة، كما قال يوم حنين: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25]، فليس النَّصر بالقوة ولا بالكثرة؛ ولهذا يقول في الآية الأخرى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ يعني: المدد إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، فالمدد بالملائكة وبالقوة وبالسّلاح وبغير هذا من أسباب النصر كلها بشرى، كلها عون، والنصر من عنده سبحانه، إذا أراد ذلك تمّ النصرُ ولو مع القلّة، وإذا أراد الهزيمةَ تمَّت الهزيمةُ ولو مع الكثرة.

وقوله تعالى: لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ أَيْ: عَلَى ما فاتكم من الغنيمة والظَّفر بعدوِّكم، وَلَا مَا أَصَابَكُمْ من الجراح والقتل. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ سبحانه وبحمده، لا إله إلا هو جلَّ وعلا.

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:154- 155].

يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّكِينَةِ وَالْأَمَنَةِ؛ وَهُوَ النُّعَاسُ الَّذِي غَشِيَهُمْ وَهُمْ مُشتملون السِّلَاح فِي حَالِ هَمِّهِمْ وَغَمِّهِمْ، وَالنُّعَاسُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال:11].

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأشجّ: حدَّثنا أبو نعيم وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ مِنَ اللَّهِ، وَفِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ.

وَقَالَ البُخاري: وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: حدَّثنا سعيد، عن قتادة، عن أنسٍ، عن أبي طلحة قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارًا، يَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ. وهكذا رَوَاهُ فِي "الْمَغَازِي" مُعَلَّقًا.

الشيخ: هذا فيه نظر، في تسميته "مُعلَّقًا" نظر؛ لأنَّه قال: وقال لي خليفة. وهو مُسند متَّصل: وقال لي خليفة. عندكم: وقال لي؟

الطالب: نعم.

الشيخ: أمَّا لو قال: وقال خليفة، هذا .....، لكن إذا ثبت في هذا ليس مُعلَّقًا، بل مُسند، لكن يقول بعضُهم: إنَّ هذه في المذاكرة يستعملها البخاري رحمه الله، إذا كان من باب المذاكرة قال: وقال لي. وإذا كان التَّحديث العام قال: حدَّثني. هذا ليس مُعلَّقًا في الحقيقة، بل متَّصل.

وَرَوَاهُ فِي كِتَابِ "التَّفْسِيرِ" مُسْنَدًا عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ. قَالَ: فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ.

وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عن أنسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: رَفَعْتُ رَأْسِي يَوْمَ أُحُدٍ، وَجَعَلْتُ أَنْظُرُ، وَمَا مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إلا يميل تَحْتَ حَجَفَتِهِ مِنَ النُّعَاسِ. لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي قُتَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: كُنْتُ فِيمَنْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ النُّعَاسُ. الْحَدِيثَ.

وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عوفٍ.

الشيخ: أبو قُتيبة في "التقريب" في الكُنى.

الطالب: لعلها: وعن قُتيبة .....؟

الشيخ: لا، بعيد؛ لأنَّ قتيبة أحد شيوخه .....، قُتيبة عمَّن؟

الطالب: عن ابن أبي عديّ.

الشيخ: ورواه النَّسائي؟

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي قُتَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ.

الشيخ: لعله: عن قتيبة، عن ابن أبي عديّ.

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ.

الشيخ: هذا سندٌ عن محمدٍ، عن خالد، وسندٌ آخر عن قُتيبة، يعني: عن شيخه الثاني، الشيخ الأول محمد بن المثنى، والثاني عن قتيبة، شيخ ثانٍ، محمد بن المثنى، عن خالد. وقتيبة، عن ابن أبي عدي، ساقطة الواو.

الطالب: قوله بعده: (كلاهما) يدل على أنَّهما شيخان.

الشيخ: نعم، هذا هو، ورواه أيش؟

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ. وعَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ –كِلَاهُمَا.

الشيخ: نعم، (كلاهما) يعني: ابن أبي عدي وخالد، ساقطة الواو: (وعن قتيبة) الذي عنده: (أبي قتيبة) غلط، (وعن قتيبة).

عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: كُنْتُ فِيمَنْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ النُّعَاسُ. الْحَدِيثَ.

وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عوف.