تفسير قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا..}

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ۝ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:109- 110].

يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ أنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ أَيْ: حَلَفُوا أَيْمَانًا مُؤَكَّدَةً، لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ أي: مُعجزة وخارقة لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا أَيْ: لَيُصَدِّقُنَّهَا، قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ أي: قل يا محمَّد لهؤلاء الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا، لَا عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى وَالِاسْتِرْشَادِ: إِنَّمَا مَرْجِعُ هَذِهِ الآيات إلى الله؛ إن شاء جاءكم بها، وإن شاء ترككم.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قريشًا، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَهُ عَصًا يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ ثَمُودَ كَانَتْ لَهُمْ نَاقَةٌ، فَأْتِنَا مِنَ الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أيُّ شَيْءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ؟ قَالُوا: تَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا. فَقَالَ لَهُمْ: فَإِنْ فَعَلْتُ تُصدِّقوني؟ قالوا: نعم، والله لئن فعلتَ لنتبعنَّك أجمعون. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُو، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: مَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا ذَهَبًا، وَلَئِنْ أَرْسَلَ آيَةً فَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَيُعَذِّبَنَّهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بل يتوب تائبُهم، فأنزل الله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إلى قوله تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:109- 111].

وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ.

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ الآية [الإسراء:59].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ.

الشيخ: وهذا من تعنُّت أهل الشِّرك، هذا من تعنُّتهم، واستبعادهم للحقِّ، واستكبارهم عن اتِّباعه، وإلا فقد رأوا من الآيات ما فيه الكفاية: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، فانشقاق القمر من الآيات العظيمات لو كانوا يعقلون، ولكنَّ الكبرَ وتقليدَ الآباء والاستكبار أن يتَّبعوا واحدًا منهم -كما فعل مَن قبلهم- حملهم على التَّكذيب، ومَن هداه الله عرف من الآيات ما فيه العِظَةُ والذِّكْرَى والحجَّة القائمة على صدقه، وأنه رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسلام، وأنَّ شمائله وخصالَه الحميدة كلّها دالّة على أنه أصدق الناس، وأنه لا يُقدم على الكذب.

ثم أيَّده اللهُ بهذا القرآن العظيم، المعجزة العظيمة التي تحدَّاهم بها سبحانه، وهكذا انشقاق القمر، كل هذا بمكة، مع الآيات الأخرى التي أنزلها اللهُ وأيَّده بها في مواضع كثيرةٍ بعد الهجرة: من نبوع الماء من بين أصابعه، ومن تكثير الطعام مرةً بعد مرةٍ، ومن نصر الله له يوم بدرٍ على قلَّتهم، إلى غير هذا من الآيات.

وقد أيَّده سبحانه بأنواع من التَّأييد، ونفس ما دعاهم إليه حُجَّة عظيمة على أنَّه رسول الله حقًّا، فإنَّه لم يدعهم على أن يُملِّكوه عليهم، ولا إلى أن يُعطوه أموالهم، ولا إلى أن يدفعوا عنه كذا، وإنما دعاهم إلى شيءٍ فيه صلاحهم؛ دعاهم إلى شيءٍ تشهد الفِطَرُ السَّليمةُ والعقولُ الصَّحيحة بأنَّه حقٌّ، وبأنَّه خيرٌ، وأنه هدى، دعاهم إلى توحيد ربهم والإخلاص له، وإلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، أعمال طيبة، وخصال حميدة، وحذَّرهم من أشياء تضرّهم، فنفس دعوته ونفس ما دعا إليه من الأدلة القاطعة على صدقه، وأنَّه رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسلام، سوى ما جاء به من الآيات الأخرى: من القرآن العظيم، ومن انشقاق القمر، ومن غير هذا من الآيات، نعم.

قيل: المخاطَب بـمَا يُشْعِرُكُمْ المشركون. وإليه ذهب مجاهد، وكأنَّه يَقُولُ لَهُمْ: وَمَا يُدْرِيكُمْ بِصِدْقِكُمْ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ الَّتِي تُقْسِمُونَ بِهَا؟ وَعَلَى هَذَا فَالْقِرَاءَةُ: إِنَّها إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ بِكَسْرِ "إِنَّهَا" على استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان عند مجيء الآيات التي طلبوها.

وقرأ بَعْضُهمْ: أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا تُؤْمِنُونَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْق.

وَقِيلَ: الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ المؤمنون، يقول: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ؟ وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ في قوله: أَنَّهَا الْكَسْرُ كَالْأَوَّلِ، وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولُ يُشْعِرُكُمْ، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ "لَا" فِي قَوْلِهِ: أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ صلة، كقوله: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف:12]، وَقَوْله: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95] أَيْ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟ وَحَرَامٌ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ.

وَتَقْدِيرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ تَوَدُّونَ لَهُمْ ذَلِكَ حِرْصًا عَلَى إِيمَانِهِمْ، أَنَّهَا إذا جاءتهم الآيات يُؤمنون؟

قال بَعْضُهُمْ: "أَنَّهَا" بِمَعْنَى: لَعَلَّهَا.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَكَرُوا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.

قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْعَرَبِ سماعًا: اذهب إلى السوق أنَّك تشتري لنا شَيْئًا. بِمَعْنَى: لَعَلَّكَ تَشْتَرِي.

قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ الْعَبَّادِيِّ مِنْ هذا: [الطويل]

أَعَاذِلُ مَا يُدْرِيكَ أَنَّ مَنِيَّتِي إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ

وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَذَكَرَ عَلَيْهِ شواهد من أشعار العرب، والله أَعْلَمُ.

الشيخ: السِّياق ظاهر، الآية: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، وما يُشعركم إيمانهم؟ وما يُعلمكم إيمانهم؟ أنَّ وما بعدها مصدر: وما يُعلمكم إيمانهم؟ يعني: إذا جاءتهم الآيات. ومؤكّدة بقوله: لَا يُؤْمِنُونَ، ويحتمل أنَّ "لا" ليست صلة، وما يُشعركم إيمانهم إذا جاءتهم لا يؤمنون.

فالحاصل أنَّ إقسامَهم وحلفَهم ليس يطمئن إلى صدقهم فيه، فقد يقولون ذلك من غير صدقٍ، بل لإقامة حُجَّةٍ على النبي ﷺ، ولإظهار شيءٍ من التَّعلقات التي يزعمون أنها تنفعهم، وما يُشعركم أنها إذا جاءت الآيات لا يُؤمنون، فهم على باطلهم وتقليد آبائهم ولو جاءتهم كلّ آيةٍ لا يؤمنون.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَمَّا جَحَدَ الْمُشْرِكُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَمْ تَثْبُتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَرُدَّتْ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ.

وقال مجاهد في قوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ: وَنَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ، وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فَلَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.

الشيخ: يعني: عقوبةً لهم لما كفروا وأنكروا الحقَّ واستمرُّوا في الباطل، من عقوبتهم أنَّها تُقلّب أفئدتهم وأبصارهم بسبب عدم إيمانهم به أول مرةٍ، ويُتركون في طُغيانهم عقوبةً، كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، يعني: لما أقدموا على الباطل عمدًا وعاندوا واستكبروا عُوقِبوا بألَّا يُوفَّقوا لها بعد ذلك، ويقول جلَّ وعلا: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ إذا سبق فيهم علمُ الله في جحدهم وكفرهم لَا يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس:96- 97]، وحقَّت كلمته بزيغهم وإضلالهم بسبب عدم إيمانهم به أول مرةٍ، وبسبب زيغ قلوبهم وعنادهم وتكذيبهم مضى فيهم أمرُ الله بعدم الإيمان، نسأل الله العافية.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ مَا الْعِبَادُ قَائِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوهُ، وَعَمَلَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ، وَقَالَ: وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14] جلَّ وعلا، وقال: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ إلى قوله: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:56- 58]، فأخبر الله سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْهُدَى، وَقَالَ: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، وقال تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110]، وقال: ولو رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى، كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا.

وَقَوْلُهُ: وَنَذَرُهُمْ أَيْ: نَتْرُكُهُمْ.

فِي طُغْيَانِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: فِي كُفْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ: فِي ضَلَالِهِمْ.

يَعْمَهُونَ قَالَ الْأَعْمَشُ: يَلْعَبُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ، وَأَبُو مالكٍ، وغيره: في كفرهم يتردَّدون.

الشيخ: وهذا يُوجب على العاقل الحذر من التَّساهل في الأمر، فإنَّ التَّساهل في الأمر وردّ الحقّ عنادًا أو استخفافًا به، أو إيثارًا للعجلة عليه؛ قد يكون وسيلةً إلى ألا يُوفّق بعد ذلك، وأن يُحال بينه وبين الهدى، فيجب على العاقل الحذر، وأنَّ الواجبَ عليه البدار إلى الحقِّ، والحرص على قبوله حين يُعرض عليه، وحين يعرفه، فإنَّ ردَّه له، أو استكباره عنه، أو إيثار العاجلة عليه، أو ما أشبه ذلك من أسباب الصَّدِّ والإعراض قد يكون وسيلةً إلى الطَّبْعِ على القلب والزيغ؛ حتى لا يُوفّق بعد ذلك: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ۝ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ۝ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا [الزمر:54- 56]؛ لئلا تقول نفسٌ: يَا حَسْرَتَا، فلا ينفعها التَّمني والتَّحسر، ولكن أنت اليوم في دار العمل، دار يتمنَّاها أهلُ النار، يتمنَّاها أهلُ الموقف يوم القيامة، يتمنون هذه الدار، يتمنون أنهم رُدُّوا إليها، وأنهم صاروا إليها؛ حتى يعملوا، قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28].

فأنت يا عبدالله تذكّر هذا الموقف الذي أخبر اللهُ به عن أولئك، وأنهم يتمنون العودة فلا تحصل، ويقول عن أهل النار: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37]، فماذا ردَّ عليهم؟ قال تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37]، التَّمني بعد البعث والنّشور، والتَّمني وهو في النار، كل هذا ما ينفع، كله حسرات، ولكن الذي ينفع اليوم الرجوع اليوم، والتوبة اليوم، ما دمت حيًّا في دار العمل -دار التَّكليف- ينفعك اليوم أن تُحاسِب نفسك على سيِّئاتك وأغلاطك، وتُبادر بالتوبة قبل أن يهجم الأجلُ، فكم بلغ من إنسانٍ نزلت به مصيبةُ الموت من دون مرضٍ، ومن دون شيءٍ، انقلبت السيارةُ، تصادم مع فلانٍ، أصابته ضربةٌ في القلب، نزلةٌ في الرأس فانتهى في الحال، لم يعد يمكن أن يتدارك شيئًا.

قد وقع الآن الشيء الكثير من التَّنبيهات على أخطار هذه الدار: من إغماءات كثيرة، والنَّوبات التي تعرض للإنسان في قلبه فيموت حالًا من دون مهلةٍ، إلى غير هذا مما يُصيب الناس، حوادث السَّيارات الآن لا تُحصى، يخرج من بيته من أقوى الناس، وأسلم الناس، وأعقل الناس، فلا يرجع إليه.

فالحاصل أنَّ العاقلَ يجب عليه أن يُفكِّر كثيرًا، وأن ينتبه قبل أن يقول: يا ليتني، أو يا حسرتاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:111].

يَقُولُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنَا أَجَبْنَا سُؤَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا، فَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ تُخْبِرُهُمْ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ، كَمَا سَأَلُوا فَقَالُوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء:92]، وقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام:124]، وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان:21].

وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى أَيْ: فَأَخْبَرُوهُمْ بِصِدْقِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، قَرَأَ بَعْضُهُمْ: قِبَلًا بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، مِنَ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَايَنَةِ. وَقَرَأَ آخَرُونَ بِضَمِّهِمَا.

قِيلَ: مَعْنَاهُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَايَنَةِ أَيْضًا، كَمَا رَوَاهُ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قُبُلًا أي: أَفْوَاجًا، قبيلًا، قبيلًا، أَيْ: تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ كُلُّ أمَّةٍ بعد أمَّةٍ، فيُخبرونهم بِصِدْقِ الرُّسُلِ فِيمَا جَاءُوهُمْ بِهِ.

مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَيْ: إِنَّ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ لَا إِلَيْهِمْ، بَلْ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُريد، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]؛ لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَقَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس:96- 97].

س: الآية: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أنَّهم لا يؤمنون، على تقدير: ما يُشعركم، يعني: ما يكون "أنها" إذا جاءت مُستأنفةً: إنها؟

ج: هذا معنى وما يُعلمكم؟ ثم قال: "إنها" ابتدأ الكلام بالكسرة: إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، لكن قراءة: "أنها" كأنها أظهر، وما يُشعركم إيمانهم؟ يعني: وما يُعلمكم إيمانهم إذا جاءت؟ وتصير "لا" صلة.