تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا..}

وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:139].

قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ: عَنْ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا الْآيَةَ، قَالَ: اللَّبَنُ.

وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا فَهُوَ اللَّبَنُ، كَانُوا يُحَرِّمُونَهُ عَلَى إِنَاثِهِمْ، وَيَشْرَبُهُ ذُكْرَانُهُمْ، وَكَانَتِ الشَّاةُ إِذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ، وَكَانَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تُرِكَتْ فَلَمْ تُذْبَحْ، وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الْبَحِيرَةُ لَا يَأْكُلُ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا الرِّجَالُ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهَا شَيْءٌ أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا قَالَ: هِيَ السَّائِبَةُ وَالْبَحِيرَةُ.

وَقَالَ أَبُو العالية ومجاهد وقتادة في قول الله: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أَيْ: قَوْلَهُمُ الْكَذِبَ فِي ذَلِكَ -يعني- كقوله تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ۝ مَتَاعٌ الآية [النحل:116- 117].

إِنَّهُ حَكِيمٌ أَيْ: فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، عَلِيمٌ بِأَعْمَالِ عِبَادِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وسيجزيهم عليها أتمَّ الجزاء.

الشيخ: وهذه الأشياء التي ذكرها اللهُ عن الكفار تُبين لنا سخافة عقول الكفرة وتناقُضهم، وأنَّهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويفترون على الله الكذب فيما يُحِلُّون ويُحَرِّمون، وفي غير ذلك، وأعظم ذلك زعمهم أنَّهم على هدى، وأنَّ ما عليه آباءهم هو الحقّ، وعبادة غيره، وبعث اللهُ الرسلَ لبيان الحقِّ الذي يجب اتِّباعه والتَّمسك به، ولبيان الباطل الذي افتراه المشركون والمجرمون والجاحدون.

فالواجب على ذوي العقول السَّليمة، على أهل التَّكليف أن يستقيموا على ما شرع الله ورسوله، وأن يستقيموا على ما دلَّ عليه الكتابُ والسنة، وأن يحذروا الخُرافات التي كان عليها الكفرة من الملاحدة وعُبَّاد الأوثان وغيرهم، وأنَّ هذه السَّخافات التي يعتقدونها ويقولونها يجب على ذوي العقول السَّليمة والفِطَر السَّليمة الصَّحيحة الحذر منها، وأن يكون هدفُهم التَّمسك بما قاله الله ورسوله، والحذر مما نهى اللهُ عنه ورسوله، وألا يغترّوا بما عليه الآباء أو القبيلة أو جنسٌ من الناس، فإنَّ هذا يقع فيه الشَّر والباطل والكذب والتقليد الأعمى، فلا يليق بعاقلٍ أن يغترَّ بذلك، وإنما يأخذ الأحكام من معدنها، من أساسها، من كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ حتى يسير إلى الله على بصيرةٍ، وحتى يعبده على علمٍ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصَّحيح: مَن يُرد اللهُ به خيرًا يُفقّهه في الدِّين، ويقول ﷺ: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا إلى الجنة، ويعيب الكفرة فيقول عنهم أنَّهم قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، ويقول فيهم: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] كالبهائم، نسأل الله العافية.

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام:140].

يَقُولُ تعالى: قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَخَسِرُوا أَوْلَادَهُمْ بِقَتْلِهِمْ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ فَحَرَّمُوا أَشْيَاءَ ابْتَدَعُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا فِي الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ۝ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:69- 70].

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَالْمِئَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا فِي كِتَابِ "مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ" مِنْ "صَحِيحِهِ" عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ عَارِمٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ –وَاسْمُهُ: الْوَضَّاحُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ الْيَشْكُرِيُّ- عَنْ أَبِي بِشْرٍ –وَاسْمُهُ: جَعْفَرُ ابْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ إياس- به.

الشيخ: أبو وحشية كنية: إياس. "التقريب" حاضر.

الطالب: جعفر بن إياس، أبو بشر ابن أبي وحشية .....

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ۝ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأنعام:141- 142].

يَقُولُ تَعَالَى مُبَيِّنًا أنَّه الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَنْعَامِ التي تصرَّف فيها هؤلاء الْمُشْرِكُونَ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَقَسَّمُوهَا وَجَزَّؤُوهَا، فَجَعَلُوا مِنْهَا حَرَامًا وَحَلَالًا، فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ.

قَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَعْرُوشَاتٍ: مَسْمُوكَاتٍ.

وَفِي روايةٍ: فالمعروشات: مَا عَرَّشَ النَّاسُ. وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ: مَا خَرَجَ فِي الْبَرِّ وَالْجِبَالِ مِنَ الثَّمَرَاتِ.

وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَعْرُوشَاتٍ: مَا عَرَّشَ مِنَ الْكَرْمِ. وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ: مَا لَمْ يُعَرِّشْ مِنَ الْكَرْمِ. وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ.

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ قَالَ: مُتَشَابِهًا فِي المنظر، وغير مُتشابهٍ في المطعم.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ قَالَ: مِنْ رُطَبِهِ وَعِنَبِهِ.

الشيخ: وهذه من آيات الله العظيمة، هذه الأشياء التي خلقها جلَّ وعلا من الجنَّات المتنوعة: أشجارها، ومزارعها، كلها من آياته الدَّالة على قُدرته العظيمة، هذا معروشٌ له حال في الثِّمار التي تخرج منه، وهذا على وجه الأرض غير معروشٍ، وهذا نخل، وهذا زرع، وهذا نوعٌ آخر من الأشجار: هذا رمان، هذا تفاح، هذه أنواع أخرى، نوَّعها لعباده ، مُشتبهة في أحجامها، وفي صورها، وفي صفاتها، وغير مُتشابهٍ، منه مشتبهٌ، ومنه غير مُشتبهٍ، منوَّعة لهؤلاء العباد، وللإحسان إليهم، فيعبدونه ويأكلون من رزقه .

كل واحدةٍ من هذه الأشياء آية من الآيات العظيمة الدالة على أنه الخلَّاق العليم، وأنه المستحقّ للعبادة، فهذا التمر بأنواعه وما فيه من الفوائد العظيمة، وهذه الخلقة العظيمة باختلاف أحجامها وألوانها وطعومها، وما جعل فيه من هذا النَّوى، رطبة لينة، ونواة كالحصاة، والأقماع التي ..... الماء إلى التّمرة، وهذه الثِّمار الأخرى ..... الماء بصورةٍ دقيقةٍ من العنب والرمان وسائر أنواع الفاكهة، وهذه الحبوب المتنوعة وما فيها من المنافع، والذرة، والدخن، والحنطة، والأرز، وغيرها من أنواع الحبوب.

إذا تأمّل العاقلُ هذه الأمور عرف قُدرته العظيمة، وحكمته العظيمة، وأنه الخلَّاق العليم، الذي يقول للشيء: كن، فيكون ، والحيوانات على اختلافها، وبنو آدم أنفسهم هم آية: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]؛ اختلاف عقولهم، وصفاتهم، وألوانهم، وأحجامهم، ومقاصدهم، إلى غير ذلك، وسائر الحيوانات الأخرى، في كل شيءٍ له آية، كما قال الشَّاعر:

فواعجبًا كيف يُعْصَى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ
وفي كل شيءٍ له آية تدلّ على أنه الواحدُ

وآخر يقول:

تَأمَّل فِي نَبَات الأَرْضِ وَانْظُر إِلَى آثَارِ مَا صنع المليكُ
عُيُون من لجينٍ شاخصات بأحداق كَمَا الذَّهَب السَّبيكُ
على قضب الزَّبرجد شاهدات بِأَنَّ الله لَيْسَ لَهُ شريكُ

المقصود أنَّ هذه النَّباتات المتنوعة والحيوانات المتنوعة والمخلوقات الأخرى كلها دلائل على عظمة خالقها وبارئها ، وأنه المستحقّ لأن يُعبَد ويُعظَّم: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الأنعام:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21- 22].

والمؤمن عليه أن يعبد الله بقلبه ولسانه وجوارحه، فالقلب يعرف هذه الأمور، ويؤمن بأنَّ الله خالقها والمنعم بها سبحانه، ويؤمن بأنَّه المستحقّ لأن يُعبد، ويتكلّم بلسانه شاكرًا مُعظِّمًا، ويعمل بأركانه بطاعة الله وأداء حقّه، ويدع ما نهاه الله عنه شكرًا لله على نعمه وإحسانه، فالقلب يعتقد، واللِّسان ينطق، والجوارح تعمل خاضعةً لله، شاكرةً له، مُؤدِّية حقّه، وهذه هي العبادة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، هذه العبادة: إيمانك بالله، وإخلاصك له، واعتقاد أنَّه رب العالمين، وأنه المستحقّ لأن يُعبد، وإيمانك برسله، وبكل ما أخبر به في كتابه، وما أخبر به رسله، هذه عبادة قلبية، والشَّهادة أنَّه لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، والدَّعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإكثار من ذكر الله، كل هذه عبادات قولية، والصلاة والصوم والحج والجهاد وغير ذلك مما فيه أفعال عبادات فعلية، وضدّها الكفر بالله، هذه عبادة ضدّها الكفر بالله، فيكون بالاعتقاد، ويكون بالقول، ويكون بالعمل، ويكون بالشك أيضًا، كما أنَّ التوحيد يكون بالإيمان والتَّصديق، والقول والعمل، فضدّه يكون بضدِّ ذلك؛ يكون بترك الإيمان، ويكون بالقول، ويكون بالعمل، ويكون باليقين، لا بالشك.

فمَن اعتقد خلاف الحقِّ: كاعتقاده أنه لا جنةَ ولا نار، ولا بعث ولا نشور، هذا تكذيبٌ وكفرٌ، واعتقادٌ كفريٌّ بالقلب، كاعتقاد المنافقين وأشباههم، وكفَّار الجاهلية.

ويكون الكفر بالقول: كالسَّبِّ لله ورسوله، والسَّب للدين، والنُّطق بالشِّرك: كدعوة الأموات، والاستغاثة بالأموات، وبالنجوم، وبالأصنام، كفرٌ قوليٌّ.

ويكون بالعمل: كالسجود لغير الله، والذبح لغير الله، وهو كفرٌ عملي، كفر أكبر، نسأل الله العافية.

ويكون بالشَّك، بأنواع الشك: كالتردد في هل الجنة حقّ أو ما هي بحقٍّ؟ هل التوحيد حقّ أو ما هو بحقٍّ؟ هل الرسول صادق أم ما هو بصادقٍ؟

فنفس الشَّك كفرٌ أكبر، وظلمٌ عظيمٌ؛ ولهذا قال أهلُ العلم: يكون كفرًا بالاعتقاد، وبالقول، وبالعمل، وبالشَّك جميعًا، بهذا وبهذا وبهذا، وبهم جميعًا، ويكون بالترك: كما في الإعراض عن دين الله؛ ترك الإيمان بالكلية، والإعراض عن دين الله، لا يعتقده، ولا يتعلمه، ولا يعمل به، هذا من نواقض الإسلام، مثل: ترك الصلاة، لا يُصلي، ولو قال أنها حقٌّ، ولو زعم أنها واجبةٌ، فترك الصَّلاة كفرٌ مُستقلٌّ عمليٌّ على الصَّحيح، وإن لم يعتقد عدم وجوبها، بل اعتقد وجوبها.

ومَن تأمّل أحوال الكفرة عرف هذه الأمور، وأنَّ منهم مَن جمع هذه الشّرور كلها في ..... والاستكبار عن توحيد الله وطاعته، والشَّك فيما أخبر به الرسل، قد جمع أنواع الكفر كلها، نسأل الله العافية.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ.

حَدَّثَنَا عَمْرٌو: حَدَّثَنَا عَبْدُالصَّمَدِ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ دِرْهَمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قَالَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ.

وَقَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ يَعْنِي: الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ يَوْمَ يُكَالُ وَيُعْلَمُ كَيْلُهُ. وَكَذَا قَالَ سعيد بن المسيّب.

وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا زَرَعَ، فَكَانَ يَوْمُ حَصَادِهِ لَمْ يُخْرِجْ مِمَّا حصد شيئًا، فقال الله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ ما كيله وحقّه فيُخرج من كل عشرةٍ واحدًا، وما يَلْقُطُ النَّاسُ مِنْ سُنْبُلِهِ.

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ فِي "سُنَنِهِ" مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ مِنْ كُلِّ جَادٍّ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ بِقِنْوٍ يُعَلَّقُ في المسجد للمساكين.

وهذا إسنادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَقَالَ طَاوُسٌ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: هِيَ الزَّكَاةُ.

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ الصَّدَقَةُ مِنَ الْحَبِّ وَالثِّمَارِ. وكذا قال ابنُ زيد بن أسلم.

وقال آخرون: وهو حَقٌّ آخَرُ سِوَى الزَّكَاةِ.

وَقَالَ أَشْعَثُ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَنَافِع عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قَالَ: كَانُوا يُعْطُونَ شَيْئًا سِوَى الزَّكَاةِ. رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.

وَرَوَى عَبْدُاللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ ابْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءِ ابْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قَالَ: يُعْطِي مَنْ حَضَرَهُ يَوْمَئِذٍ مَا تَيَسَّرَ، وَلَيْسَ بِالزَّكَاةِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا حَضَرَكَ الْمَسَاكِينُ طَرَحْتَ لَهُمْ مِنْهُ.

وَقَالَ عَبْدُالرَّزَّاقِ: عَنِ ابْنِ قتيبة.

مُداخلة: عندنا ابن عُيينة.

الشيخ: حطّها نسخة، يُراجع "المصنف"، حطّ نسخة: ابن قتيبة.

عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قال: عند الزرع يُعطي القبضةَ، وعند الصّرام يُعطي القبضةَ، وَيَتْرُكُهُمْ فَيَتْبَعُونَ آثَارَ الصِّرَامِ.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: يُعْطِي مِثْلَ الضِّغْثِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ، قَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ الزَّكَاةِ، للمساكين القبضة، والضّغث لِعَلْفِ دَابَّتِهِ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ: عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ قَالَ: مَا سَقَطَ مِنَ السُّنْبُلِ. رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: هذا شَيْءٌ كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ بِالْعُشْرِ أو نصف الْعُشْرِ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وعطية العوفي وغيرهم، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.

قُلْتُ: وَفِي تَسْمِيَةِ هَذَا نَسْخًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ شَيْئًا وَاجِبًا فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ فَصَّلَ بَيَانَهُ، وَبَيَّنَ مِقْدَارَ الْمُخْرَجِ وَكِمِّيَّتَهُ. قَالُوا: وَكَانَ هَذَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. فَاللَّهُ أعلم.

الشيخ: وهذا هو المشهور: أنَّ أصلَ الزكاة في مكّة؛ لأنَّ السورة مكيّة على سبيل الإجمال: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ .....، ويُعطى ما تيسر من طعامٍ وغيره، وتمرٍ وغيره، ثم إنَّ الله جلَّ وعلا بيَّن أنصباء الزكاة الواجبة فيها بعد الهجرة في السنة الثانية من الهجرة، فأوجبها مُفصَّلةً كما أوجب صيامَ رمضان، وبيَّن أنصبائها والواجب فيها؛ فنصف العشر إذا سُقي بالنَّضح، والعشر كاملًا إذا سُقي بالأنهار والأمطار، وبيَّن أهل الزكاة في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ [التوبة:60] إلى آخره، وكان أصلُ ذلك في مكة، ثم حُدد وبُيِّن في المدينة.