تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا..}

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۝ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ۝ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:156- 158].

يَنْهَى تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ فِي اعْتِقَادِهِمُ الْفَاسِدِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ عَنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْأَسْفَارِ والحروبِ: لَوْ كَانُوا تَرَكُوا ذَلِكَ لَمَا أَصَابَهُمْ مَا أصابهم، فقال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} أَيْ: عَنْ إِخْوَانِهِمْ {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَيْ: سَافَرُوا لِلتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا أَوْ كَانُوا غُزًّى أي: كانوا فِي الْغَزْوِ لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا أَيْ: فِي الْبَلَدِ مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا أَيْ: مَا ماتوا في السَّفر، وما قُتِلُوا في الغزو.

وقوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أَيْ: خَلَقَ هَذَا الِاعْتِقَادَ فِي نُفُوسِهِمْ لِيَزْدَادُوا حَسْرَةً عَلَى مَوْتِهِمْ وَقَتْلِهِمْ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أَيْ: بِيَدِهِ الْخَلْقُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْأَمْرُ، وَلَا يَحْيَا أَحَدٌ وَلَا يموت أحدٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدرته، وَلَا يُزَادُ فِي عُمُرِ أحدٍ ولا يُنقص منه شيءٌ إِلَّا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.

الشيخ: والمقصود من هذا الإيضاح للعباد أنَّه جلَّ وعلا هو المتصرف في عباده، وأنَّ الموت والحياة بيده ؛ ليزداد المؤمنون إيمانًا وثباتًا فيما يقع من الأقدار، وأنَّ العبد يموت بأجله، سافر أو أقام، غزا أو لم يغزُ، فالآجال مضروبة ومحدودة، فلا ينبغي للعاقل أن يتأخّر عمَّا شرع اللهُ، أو عن طلب الرزق خوفًا من كذا، أو خوفًا من كذا، فالأرزاق بيد الله، والآجال بيد الله، وأنت مأمورٌ بالعمل الصَّالح، مأمورٌ بالجهاد، مأمورٌ بطلب الرزق، ومتى نزل الأجلُ نفذ القدر، سواء كنت غازيًا أو مُسافرًا أو بين أهلك، ولكنَّ الكفّارَ لمرض قلوبهم وموتها بالكفر يظنون هذه الظنون الفاسدة، وأنَّ أبناءهم وإخوانهم لو كانوا عندهم ما ماتوا وما قُتلوا، لو ما سافروا ما قُتلوا، ما ماتوا لو ما غزوا، كلّ هذا من تزيين الشيطان ووساوسه؛ ليجعل اللهُ ذلك حسرةً في قلوبهم؛ ليزدادوا عذابًا مع عذابهم، وتعبًا مع تعبهم في هذه الظنون الفاسدة والاعتقادات الباطلة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145]، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

الآجال محدودة، ومتى جاء الأجلُ لم يمنعه شيء، سواء كان مسافرًا أو مُقِيمًا، غازيًا أو بين أهله، مريضًا أو صحيحًا، فالآجال كلها محدودة ومكتوبة، فالعاقل يصبر ويحتسب ويعمل بشرع الله فيما ينزل به: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155- 157].

ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزنَّ، وإن أصابك شيءٌ يعني: مما تكره فلا تقل: لو أني فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل يعني: هذا قدر الله، وما شاء الله فعل، فإنَّ "لو" تفتح عمل الشَّيطان، هذا قول الكفرة، أطاعوا الشَّيطان، لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا هذا من تزيينه وتلبيسه.

فالمؤمن عليه التَّشمير والجدّ في صالح الأعمال، وفي طلب الرزق الحلال، وفي الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدَّعوة إلى الله ، ولا يقل ما يقوله الشيطان وإخوان الشياطين: لو كان، لو كان، بل يعمل في المزرعة .....، ويجتهد في أسباب الرزق على الوجه الذي شرعه الله، وما قدّره الله لا رادَّ له.

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: علمه وَبَصَرُهُ نَافِذٌ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ، لَا يَخْفَى عليه من أمورهم شيءٌ.

وقوله تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157]، تَضَمَّنَ هَذَا أَنَّ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَوْتَ أَيْضًا وَسِيلَةٌ إِلَى نَيْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنيا وجمع حطامها الفاني.

الشيخ: وهذه بشارةٌ للمؤمن، فقتله في سبيل الله أو موته في سبيل الله وسيلةٌ للرحمة والمغفرة، وخيرٌ مما يجمعه الناس من الدنيا، خيرٌ مما على ظهرها، فلتطب نفسُه، وليطمئنّ، وليَمْضِ في سبيل الله، فإن مات فهو على خيرٍ، وإن قُتِلَ فهو على خيرٍ ما دام في سبيل الله.

ثم أخبر تعالى بِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَمَصِيرُهُ وَمَرْجِعُهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَجْزِيهِ بِعَمَلِهِ؛ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، فَقَالَ تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:158].

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ۝ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ۝ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ۝ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۝ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ۝ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [آل عمران:159- 164].

يَقُولُ تعالى مخاطبًا رسوله، مُمْتَنًّا عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا أَلَانَ بِهِ قَلْبَهُ عَلَى أُمَّتِهِ الْمُتَّبِعِينَ لِأَمْرِهِ، التَّارِكِينَ لِزَجْرِهِ، وَأَطَابَ لَهُمْ لَفْظَهُ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ جَعَلَكَ لَهُمْ لينًا لولا رحمة الله بك وبهم.

وقال قَتَادَةُ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يقول: فبرحمةٍ من الله لنت لهم، وما صِلَةٌ، وَالْعَرَبُ تَصِلُهَا بِالْمَعْرِفَةِ كَقَوْلِهِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155]، وَبِالنَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ: عَمَّا قَلِيلٍ [المؤمنون:40]، وَهَكَذَا هَاهُنَا قَالَ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أَيْ: بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذَا خُلُقُ مُحَمَّدٍ ﷺ، بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

الشيخ: وهكذا ينبغي لأتباعه وخُلفائه أن يسيروا على نهجه باللِّين والرحمة لإخوانهم، وعدم العنف والشّدة؛ حتى يطمئنّوا، حتى يتفقَّهوا في الدِّين بنفوسٍ طيبةٍ، وصدورٍ مُنشرحةٍ، وحتى يسألوا عمَّا أشكل عليهم.

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يعني: برحمةٍ من الله، يعني: بسبب رحمةٍ من الله، ما صلة، فبسبب رحمةٍ من الله لنت لهم، يعني: بسبب رحمةٍ من ربِّك جعلها في قلبك لنت لهم، صرتَ طيبَ الخلق معهم، لين العريكة، تسمع كلامهم، وتُجيب أسئلتهم، وترحم ضعيفهم، وتُواسي فقيرهم، إلى غير ذلك.

وقال له في الدَّعوة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، هكذا الأنبياء والرسل، وهكذا أتباعهم يتحرّون الرفق والحكمة واللِّين في دعوتهم إلى الله، وإجابتهم عن الأسئلة، وفي أمرهم ونهيهم؛ حتى تطمئنّ القلوب، وتنشرح الصدور، وتقبل الحقّ؛ ولهذا قال بعدها: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] يعني: نفروا.

وفي الصَّحيح يقول صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالرفقِ؛ فإنَّ الرفقَ لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنْزَع من شيءٍ إلا شانه، مَن يُحرم الرِّفق يُحرم الخير كله»، فالدّعاة إلى الله والآمرون بالمعروف والنَّاهون عن المنكر في أشدّ الحاجة إلى هذا الخلق العظيم؛ لأنَّ هذا أعظم وسيلةٍ في قبول الحقِّ والرِّضا به، وفعله وعدم النّفرة من أهله، إلا مَن ظَلَمَ، مَن ظَلَمَ له شأنٌ آخر، قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]، الظالم المعتدي هذا له شأنٌ آخر، نعم.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَيْوَةُ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ: حَدَّثَنِي أبو راشد الحبراني، قال: أخذ بِيَدِي أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ.

الشيخ: انظر "التقريب": أبو راشد.

الطالب: أبو راشد الحبراني -بضم المهملة وسكون الموحدة- الشَّامي، قيل: اسمه أخضر. وقيل: النعمان. ثقة، من الثانية. (البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه).

الشيخ: هناك أبو راشد آخر؟

الطالب: أبو راشد عن عمار، مقبول، من الثالثة. (أبو داود).

الشيخ: نعم.

 

وَقَالَ: أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فقال: «يَا أَبَا أُمَامَةَ، إِنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يلينُ له قلبي». تفرَّد بِهِ أَحْمَدُ.

الشيخ: لا بأس، سنده جيد؛ لأنَّ بقية وإن كان فيه ما فيه لكنه صرَّح بالسَّماع هنا.

مُداخلة: في نسخة الشّعب: «مَن يلين لي قلبه».

الشيخ: أيش عندك أنت؟

الطالب: «إنَّ من المؤمنين مَن يلين له قلبي».

الشيخ: هذا الموافق للآية ..... ظاهر سياق الآية الكريمة هو «مَن يلين له قلبي»: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}.

س: "من" هنا بيانية أو تبعيضية: «إنَّ من المؤمنين»؟

ج: محتمل، وإن كان ظاهر السِّياق تبعيض، لكن ظاهر الآية الكريمة التَّعميم للجنس، وإذا أوّلت للبعض فهو يُخرج مَن يتظاهر بالإيمان من أهل النِّفاق فلا يلين له قلبه؛ لشُبهة النِّفاق، نعم.

 

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} والفظّ: الغليظ، والمراد بِهِ هَاهُنَا غَلِيظُ الْكَلَامِ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي: لو كنت سيِّئَ الْكَلَامِ، قَاسِيَ الْقَلْبِ عَلَيْهِمْ؛ لَانْفَضُّوا عَنْكَ وَتَرَكُوكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَمَعَهُمْ عَلَيْكَ، وَأَلَانَ جَانِبَكَ لَهُمْ؛ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عمرو: إني أرى صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو ويصفح.

وقال أَبُو إِسْمَاعِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ.

الشيخ: الذي يُسمونه: الحكيم، غير أبي عيسى، صاحب "النوادر".

أَنْبَأَنَا بِشْرُ بْنُ عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُليكة، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: «إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ، كَمَا أَمَرَنِي بِإِقَامَةِ الفرائض». حديثٌ غريبٌ.

الشيخ: انظر بشر بن عبيد في "التقريب".

والمداراة غير المداهنة، المداراة: الرفق بالناس، مداراة أسباب ..... النّفرة، يتلطّف بالعبارة، ويرفق في الأوامر والنَّواهي؛ استجلابًا لقبولهم الحقّ، وهو بمعنى اللِّين والرِّفق، فالمداراة هي أن يتلطّف بالقول، لا يُداهن، بل يُبين الحقّ ويدعو إليه، لكن بالعبارات المناسبة، المداراة مطلوبة ومشروعة، والمداهنة ممنوعة.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}؛ وَلِذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الأمر إذا حدث تطييبًا لقلوبهم؛ ليكون أنشطَ لهم فيما يفعلونه، كَمَا شَاوَرَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الذَّهَابِ إِلَى الْعِيرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا عُرْضَ الْبَحْرِ لَقَطَعْنَاهُ مَعَكَ، وَلَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغَمَادِ لَسِرْنَا مَعَكَ، وَلَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، وَلَكِنْ نَقُولُ: اذْهَبْ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ مُقَاتِلُونَ.

وَشَاوَرَهُمْ أَيْضًا: أَيْنَ يَكُونُ الْمَنْزِلُ؟ حَتَّى أَشَارَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو الْمُعْنِقُ لِيَمُوتَ بِالتَّقَدُّمِ إِلَى أَمَامِ الْقَوْمِ.

وَشَاوَرَهُمْ فِي أُحُدٍ فِي أَنْ يَقْعُدَ فِي الْمَدِينَةِ أَوْ يَخْرُجَ إِلَى الْعَدُوِّ، فَأَشَارَ جُمْهُورُهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ.

وَشَاوَرَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي مُصَالَحَةِ الْأَحْزَابِ بِثُلُثِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَامَئِذٍ، فأبى ذلك عليه السَّعْدَانِ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَتَرَكَ ذَلِكَ.

وَشَاوَرَهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي أَنْ يَمِيلَ عَلَى ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُ الصِّدِّيقُ: إنَّا لم نجئ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ. فَأَجَابَهُ إِلَى ما قال.

الشيخ: وهذه سنته صلى الله عليه وسلم امتثالًا لأمر الله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} في المسائل التي تحتاج إلى مشورةٍ، وللرأي فيها مجال، يُشاورهم فيها، أمَّا الأمر الذي فيه تحتيم الامتثال، أو تحتيم الامتناع فما هو بمحل شورى، إنما الشُّورى فيما يدخله الرأي من جهة السياسة الشَّرعية في التَّقدم أو التَّأخر أو غير ذلك مما يكون له دخلٌ في الرأي؛ ولهذا شاورهم في هذه الأمور عليه الصلاة والسلام، ومدح المؤمنين بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فما حتم اللهُ فعلَه أو تركَه فليس فيه مُشاورة، نعم.

وقال صلَّى الله عليه وسلَّم فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْمٍ أَبَنُوا أَهْلِي وَرَمَوْهُمْ، وَايْمُ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سُوءٍ، وَأَبَنُوهُمْ بِمَنْ؟ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا»، وَاسْتَشَارَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِي فِرَاقِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاوِرُهُمْ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: هَلْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ بَابِ النَّدْبِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ.

س: ..............؟

ج: الله أعلم، ما عندي فيه ضبطٌ.

الطالب: عليه حاشية أحسن الله إليك، قال: "أعلق إلى كذا" أسرع إليه، وقد قال فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ..... ليموت، أي أنَّ المنيّة أسرعت فيه وساقته إلى مصرعه.

الشيخ: يعني: أسرع، سارع ليموت.