باب أخذ الشارب وإعفاء اللحية

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجَّلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بحضراتكم إلى درسٍ جديدٍ من دروس "المنتقى من أخبار المصطفى ﷺ".

ضيفنا في هذا الدرس الطيب المبارك هو سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.

مع مطلع هذا اللقاء نُرحب بسماحة الشيخ معنا في هذا الدرس الطيب المبارك، فأهلًا ومرحبًا سماحة الشيخ.

الشيخ: حيَّاكم الله وبارك فيكم.

المقدم: قال المؤلفُ رحمه الله في باب أخذ الشَّارب وإعفاء اللِّحية:

- عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ.

- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَاحْفُوا الشَّوَارِبَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

زَادَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.

هذه الأحاديث تدل على أنَّ الواجب إعفاء اللِّحى وتوفيرها وإكرامها، وقصّ الشَّارب، بل فيه الوعيد، يقول: مَن لم يأخذ من شاربه فليس منا، هذا وعيد، وفي روايةٍ: مَن لم يأخذ شاربه فليس منا يعني: يقصّه.

فالواجب قصُّه وعدم تطويله، والواجب إعفاء اللحية وتكريمها وتوفيرها؛ لقوله ﷺ: قصوا الشوارب، وأعفوا اللحى، وفي اللفظ الآخر: جزوا الشَّوارب، وأرخوا اللِّحى، خالفوا المجوس، وفي "الصحيحين": قصوا الشَّوارب، ووفروا اللِّحى، خالفوا المشركين.

فالواجب على كل مسلمٍ أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله في هذه اللِّحية، فكثير من الناس الآن عادوها، وأخذوها تارةً بالحلقٍ، وتارةً بالقصِّ، فالواجب الحذر من ذلك، والواجب امتثال أمره ﷺ بإعفائها وإرخائها وعدم أخذ شيءٍ منها؛ لأنها سيما الرجل، ووقار الرجل، فيها وقار، وفيها دلالة على أنَّ حاملها رجل، فلا ينبغي له أن يتشبه بالنساء في حلقها وتقصيرها.

أما ما ذكره عن ابن عمر أنه كان يأخذ ما زاد على القبضة في الحجِّ، فهذا من اجتهاده ، ولا يجوز تقليده في ذلك، والصواب أنه لا يتعرض لها ولو زادت على قبضةٍ؛ لعموم قوله ﷺ: وفِّروا اللِّحى، أرخوا اللِّحى، هذا عام يعمّ ما بلغ القضبة وما زاد عليها، ولا يجوز تخصيص هذا العموم بفعل ابن عمر رضي الله عنهما.

المقدم: هل يدل حديث مَن لم يأخذ من شاربه فليس منا على وجوب قصِّ الشَّارب؟

الشيخ: نعم، أمر النبي يدل على هذا، قال: قصّوا الشَّوارب يدل على الوجوب، فليس منا هذا وعيد، يدل على وجوبه أيضًا.

س: حكم حلق الشَّارب كله؟

الشيخ: الحلق تركه أولى، القص أولى؛ لأنَّ الرسول قال: قصوا، وأحفوا، ولم يقل: احلقوا، فالقصّ أولى من الحلق، الحلق لا يُبقي شيئًا بالمرة، القص يُبقي الأصول.

س: الأحاديث التي فيها "ليس منا" مثل هذا الحديث، وحديث مَن حُلِفَ له بالله فليرضَ، ومَن لم يرضَ فليس منا على ماذا تدل كلمة "ليس منا"؟

الشيخ: كلها بابها واحد، من باب الوعيد، مثل قوله ﷺ: ليس منا مَن ضرب الخدود من المصيبة أو شقَّ الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية، فالحاصل أنَّ هذا من باب الوعيد الشديد، وأن الواجب على المؤمن أن يمتثل أمر الله، وأن يحذر مخالفة شرعه.

س: الشعر الذي في الحلق هل هو من اللِّحية؟

الشيخ: لا، ما في الحلق ليس من اللحية، اللحية ما نبت على الخدين والذقن، كما قال صاحب "القاموس"، وهكذا في "اللسان": اللحية ما نبت على الخدين والذَّقن، هذه اللحية: ما نبت على الصّدغين والذَّقن، هذه اللحية.

بَابُ كَرَاهَةِ نَتْفِ الشَّيْبِ

- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ؛ فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.

الشيخ: هذا فيه النَّهي عن نتف الشَّيب، وهو نور المسلم، وجمال له، فلا ينبغي له نتفه، وفي هذا الحديث أنَّ الله يكتب له به حسنةً، ويرفعه به درجةً، ويحطّ عنه خطيئةً، هذا فضل كبير، والحديث رواه أبو داود بإسنادٍ جيدٍ لا بأس به، فلا ينبغي للمؤمن أن يتعرض للشَّيب، بل ينبغي له أن يفرح بذلك، ويُسرّ بذلك ..... يُعطيه الله جلَّ وعلا به حسنةً، كل شعرةٍ يمحو بها سيئةً، ويرفعه بها درجةً، هذا خير وفضل كبير، وهو نور المسلم.

س: الحديث صحته؟

الشيخ: جيد، لا بأس به.

س: هل صحيح أن الشَّيب نور للمؤمن؟

الشيخ: مثلما في الحديث.

بَابُ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتمِ وَنَحْوِهِمَا وَكَرَاهَةِ السَّوَاد

- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: جِيءَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَأَنَّ رَأْسَهُ ثَغَامَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اذْهَبُوا بِهِ إلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَلْتُغَيِّرْهُ بِشَيْءٍ، وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ.

- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ خِضَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَكُنْ شَابَ إلَّا يَسِيرًا، وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَهُ خَضَّبَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتمِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَزَادَ أَحْمَدُ قَالَ: وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِي قُحَافَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَحْمِلُهُ، ثُمَّ وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ: لَوْ أَقْرَرْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ لَأَتَيْنَاهُ؛ تَكْرِمَةً لِأَبِي بَكْرٍ، فَأَسْلَمَ وَلِحْيَتُهُ وَرَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: غَيِّرُوهُمَا، وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ.

- وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْرَجَتْ إلَيْنَا مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ ﷺ، فَإِذَا هُوَ مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتمِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ: بِالْحِنَّاءِ وَبِالْكَتمِ.

- وَعَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ.

- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتمُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ رَجُلٌ قَدْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا!، فَمَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتمِ، فَقَالَ: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، فَمَرَّ آخَرُ وَقَدْ خَضَّبَ بِالصُّفْرَةِ، فَقَالَ: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ.

- وَعَنْ أَبِي رَمْثَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتمِ، كَانَ شَعْرُهُ يَبْلُغُ كَتِفَيْهِ أَوْ مَنْكِبَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبِي دَاوُد: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ مَعَ أَبِي وَلَهُ لِمَّةٌ بِهَا رَدْعٌ مِنْ حِنَّاءٍ.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها تدل على شرعية الخضاب، وأنه يُستحب للمؤمن الخضاب، لكن بغير السواد، والأفضل بالحناء والكتم، كما دلَّت عليه الأحاديث الصَّحيحة، الحناء والكتم يصبغ سوادًا، والحناء حمرة، فإذا اجتمعا صار بين السواد والحمرة.

وكان الصديقُ وعمر يصبغان بالحناء والكتم، والنبي أرشد إلى ذلك عليه الصلاة والسلام، فهو أفضل ما يخضب به، وإن خضب بالصُّفرة فلا بأس، كما ثبت عن ابن عمر أنه كان يخضب بها، ويذكرها عن النبي ﷺ أنه كان يخضب بالصفرة، هذا كله مستحب، كله سنة؛ ولهذا أمر النبيُّ ﷺ أبا بكر أن يُغير لحية والده أبا قحافة، قال: غيِّروا هذا الشَّيب، واجتنبوا السَّواد، وكانت رأسه ولحيته كالثَّغامة بياضًا، وهذا عام الفتح -فتح مكة-.

فدلَّ ذلك على أنَّ السنة أن يُغير الشَّيب، سواء كان بالحناء، أو بالحناء والكتم، أو بالصفرة، لكن إذا اجتمع الحناء والكتم فهو أفضل، وإن غير بالصُّفرة وحدها فلا بأس، ولا يبقى بياضًا؛ لأنَّ السنة أن يُغير؛ لقوله: غيروا هذا الشيب، وجنِّبوه السَّواد عليه الصلاة والسلام، وهذا يعمّ الرجال والنساء في استحباب تغيير الشَّيب بالحناء والكتم، أو بالصفرة، أما الأسود الخالص فلا.

س: الثّغامة ما هي؟

الشيخ: الظاهر أنها كقطعة ..... وأشباهه مما يكون أبيض.

س: والكتم؟

الشيخ: الكتم يصبغ سوادًا، والحناء يصبغ حمرةً، فإذا اجتمعا صار بين السَّواد والحُمرة.

س: هل تغيير الشَّيب واجب لأمر الرسول؟

الشيخ: المشهور عند العلماء أنه سنة مؤكدة؛ لأنَّ بعض الصحابة والنبي ﷺ قد يُرى فيه البياض ولم يصبغ، وهكذا جماعة من الصحابة عليهم البياض لم يصبغوا، فالسنة التَّغيير؛ ولهذا قال ﷺ: إنَّ اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم، فالسنة أن يُخالف اليهود وأن يصبغ المؤمنُ، ويتأكد عليه ذلك، أما كونه يأثم فهذا محل نظرٍ، لكن السنة مُؤكدة لا شكَّ.

بَابُ جَوَازِ اتِّخَاذِ الشَّعْرِ وَإِكْرَامِهِ وَاسْتِحْبَابِ تَقْصِيرِهِ

- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَوْقَ الْوَفْرَةِ وَدُونَ الْجُمَّةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَضْرِبُ شَعْرُهُ مَنْكِبَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ: كَانَ شَعْرُهُ رَجِلًا، لَيْسَ بِالْجَعْدِ وَالسَّبْطِ، بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ. أَخْرَجَاهُ.

وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ: كَانَ شَعْرُهُ إلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ.

- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ التَّرَجُّلِ إلَّا غِبًّا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ جُمَّةٌ ضَخْمَةٌ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهَا، وَأَنْ يَتَرَجَّلَ كُلَّ يَوْمٍ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها تدل على أنه لا بأس أن يُربي الإنسانُ شعره، وأن السنة في حقِّه أن يُكرمه إذا ربَّاه؛ وذلك بترجيله كل يومٍ خلف يومٍ، يعني غبًّا، وأنه ﷺ كان يُربي رأسه، وربما صار جمَّة، وربما صار وفرةً، وربما ضرب إلى منكبيه عليه الصلاة والسلام، فيدل على التَّوسعة في ذلك، وأنه لا حرج أن يكون جمَّة إلى أطراف أذنيه، أو بين أذنيه ومنكبيه، ولا بأس أن يضرب إلى منكبيه، كل ذلك لا حرج فيه.

والرسول عليه الصلاة والسلام ربما حلقه في بعض الأحيان، كما حلق في عمرة الحديبية، حلق رأسه، وحلقه في حجة الوداع، وربما قصَّر رأسه كما في عمرة القضاء وعمرة الجعرانة، والحلق جائز، إذا أراد الإنسانُ أن يحلق رأسه لا بأس أن يحلق رأسه، ولا بأس أن يقصره، فهو مُخير؛ ولهذا لما رأى النبيُّ ﷺ غلامًا قد حلق بعض رأسه وترك بعضه أمر أهله قال: احلقوه كله، أو دعوه كله، وهذا القزع لا يجوز، بل إما أن يحلق الرأس كله، أو يُترك كله، وهكذا التَّقصير: إما أن يُقصر كله، أو يترك كله.

ورخص لأبي قتادة أن يترجل كل يومٍ لما اشتكى إليه حاجته إلى ذلك.

فهذا كله يدل على أنَّ الأمر فيه سعة، وأنه إن شاء ربَّى رأسه، وإن شاء تركه وحلقه، وإن شاء رجَّله كل يومٍ إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك، فإذا لم تدع الحاجةُ إلى ذلك فإنه يكون غبًّا، أو بعد ذلك على حسب الحاجة إلى ذلك.

وإذا كانت تربيةُ الرأس وبقاؤه قد يُفضي إلى تهمة للشخص، أما إذا كان في محلٍّ لا تهمة فيه، ولا يُخشى عليه من شرٍّ فلا حرج: إن شاء ربَّاه، وإن شاء حلقه، وإن شاء قصَّره كما دلَّت عليه السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وأما وصف الخوارج بالتَّحليق فلأنهم يُوجبون ذلك ويُلزمون أتباعهم بالتَّحليق، والخوارج طائفة ضالَّة؛ يُكفِّرون أهل الإسلام، ويُقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، ويرون صاحب المعاصي ليس بمسلمٍ، بل هو كافر مُخلد في النار؛ ولهذا قال فيهم ﷺ: يحقر أحدُكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآنَ لا يُجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السَّهم من الرمية، لئن أدركتُهم لأقتلنَّهم قتل عادٍ، أينما لقيتُموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم.

والمقصود من ذلك أنهم ضلال؛ يُكفرون أهل الإسلام ويُقاتلونهم، ويدعون أهل الأوثان، ويرون أنَّ مَن مات على معصيةٍ: على الزنا، أو السرقة، أو العقوق، أو غير ذلك يرونه مُخلدًا في النار، وهذا باطل بإجماع أهل السنة والجماعة، ومخالف للآيات والأحاديث؛ ولهذا أنكر عليهم النبيُّ ذلك، وأمر بقتالهم.

وقد نبغوا في عهد عليٍّ في وقت اختلافه مع معاوية، فقتلهم عليٌّ في النَّهروان، وظهرت علاماتهم ودلائل أنهم هم الخوارج.

أما الحلق العادي: كونه يحلق رأسه بعض الأحيان، أو يقصّه، لا حرج في ذلك، وإذا أتى الحجَّ فالسنة الحلق أفضل، وإن قصَّر فلا بأس، وهكذا في العمرة الحلق أفضل؛ لقوله ﷺ: اللهم ارحم المحلِّقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصِّرين؟ قال: اللهم ارحم المحلِّقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: اللهم ارحم المحلِّقين، قيل: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: والمقصرين، فدعا للمُحلِّقين بالرحمة والمغفرة ثلاثًا، وللمُقصرين واحدة، فدلَّ على أنَّ الحلق في الحجِّ والعمرة أفضل، ومَن قصَّر فلا حرج، لكن إذا كانت العمرةُ قرب الحجِّ: كالذي يأتي للعمرة في ذي القعدة، فإن السنة أن يُقصر، كما أمر النبيُّ أصحابه لما قدموا في حجة الوداع في ذي القعدة؛ أمرهم أن يُحلوا ويُقصروا، إلا مَن كان معه الهدي؛ حتى تتوفّر بقيةُ الرأس للحلق أيام الحجِّ، فالحلق يكون للحجِّ، والتقصير يكون للعمرة إذا كانت قريبةً من الحجِّ؛ حتى يجمع بين المصلحتين والسُّنتين.

وفَّق الله الجميع.

س: بعض الشباب قد يُطيلون شعورهم ويتَّخذون بفعل الرسول حُجَّة، مع أنهم مُخالفون؟

الشيخ: إذا كان بقاءُ الرأس وتوفيره للتَّأسي بالنبي ﷺ فلا حرج، لكن يُكرمه، ولا يجعله مُشوهًا، إلى منكبيه، أو فوق ذلك، أما إذا كان يتّهم الشَّاب بأنه قصده أنه يتعرض للنساء، أو يقع الشرُّ منه فهذا يُمنع، ولا يمكن من هذا؛ لظنِّ السُّوء، فينبغي له أن يجتنب هذا، إذا كان يظنّ به السّوء يجتنب هذا.

س: المرأة التي تأخذ من شعر رأسها حتى يصل إلى كتفيها، هل هذا من التَّشبه بالكفَّار؟

الشيخ: ليس للمرأة أن تأخذ من رأسها، عليها أن تُوفر رأسها؛ لأنه زينة لها وجمال، وليس لها التَّشبه بالكفار، ولا بالرجال، لكن إذا دعت الحاجةُ إلى أخذ شيءٍ منه لطوله فلا بأس، أزواج النبيِّ ﷺ بعدما تُوفي النبي ﷺ أخذن من طول الرؤوس للكلفة والمشقة في كثرته، فإذا أخذت من أطرافه؛ لطوله وكُلفته فلا بأس، أما التَّشبه بالرجال على أي حالةٍ أو بالكفار فلا يجوز.

 

بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الْقَزَعِ وَالرُّخْصَةِ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ

- عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْقَزَعِ، فَقِيلَ لِنَافِعٍ: مَا الْقَزَعُ؟ قَالَ: أَنْ يُحْلَقَ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ، وَيُتْرَكَ بَعْضٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى صَبِيًّا قَدْ حُلِقَ بَعْضُ رَأْسِهِ وَتُرِكَ بَعْضُهُ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: احْلِقُوا كُلَّهُ، أَوْ ذَرُوا كُلَّهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَالَ: لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ، ادْعُوا لِي بَنِي أَخِي، قَالَ: فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّنَا أفراخٌ، فَقَالَ: ادْعُوا لِي الْحَلَّاقَ، قَالَ: فَجِيءَ بِالْحَلَّاقِ فَحَلَقَ رؤُوسَنَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ.

الشيخ: هذه الأحاديث مثلما تقدم تدل على أنه لا يجوز القزع، والقزع من قزع السّحاب القطعة، يعني: كون الرأس يُؤخذ بعضُه ويُترك بعضُه، منعه النبيُّ ﷺ، ولا يجوز؛ لما فيه من التَّشويه، وقال: احلقوه كله، أو دعوه كله، هذا هو الواجب: أن يُحلق كله، سواء كان صبيًّا أو كبيرًا، أو يُترك كله.

وكذا التَّقصير: لا يقصّ بعضه ويُخلي بعضه، إما [أن] يقصّ كله، وإلا يُترك كله؛ ولهذا أمرهم ﷺ بأن يحلقوه كله، ويدعوه كله، وهذا قصة أولاد جعفر بن أبي طالب : عبدالله وأصحابه، أمر النبيُّ بحلق رؤوسهم، إذا اقتضت المصلحةُ حلق الرؤوس حُلقت الرؤوس؛ إذا كان في بقاء الرأس مشقَّة: إما لكثرة القمل، أو لغير هذا.

كما أمر كعب بن عجرة لما اشتكى وجع رأسه وكثرة القمل؛ أمره بحلقه في الحجِّ، وأمره أن يفدي عن ذلك، في يوم الحُديبية أمره أن يحلق ويفدي بإطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام، أو ذبح شاةٍ، وهنا أمر بحلق رؤوس أولاد جعفر ؛ لأنَّ المصلحة تقتضي ذلك، فدلَّ ذلك على أنَّ الحلق جائز، وأن التقصير جائز، وأما ما وُصف به الخوارج من التَّحليق فذلك لأنهم يعتقدونه دينًا، ويُشددون فيه، ويُلزمون به، قبَّحهم الله، كما تقدم.

س: لماذا سُمي بهذا الاسم: القزع؟

الشيخ: مثل: قزع السحاب: قطعة في السماء، قزعة يعني: قطعة، سُمي القزع؛ لأنه قطعة من الرأس كذا، وقطعة من الرأس كذا.

س: هل القزع محرَّم أو مكروه؟

الشيخ: ظاهر السنة تحريمه، وأنه لا يجوز القزع، بل إما أن يُحلق كله، وإما أن يُترك كله؛ لأنَّ الأصل في أوامر الرسول ﷺ الوجوب، والأصل في النَّواهي التَّحريم، قال الله : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال ﷺ: ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتوا به ما استطعتم.

باب الاكتحال والادّهان والتَّطيب

- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنِ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ.

- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ لَهُ مكْحلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا كُلَّ لَيْلَةٍ، ثَلَاثَةً فِي هَذِهِ، وَثَلَاثَةً فِي هَذِهِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ: كَانَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، وَكَانَ يَكْتَحِلُ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ.

- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: حُبِّبَ إلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

- وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَجْمِرُ بِالْأَلُوَّةِ غَيْر مُطْرَاةٍ، وَبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَ الْأَلُوَّةِ، وَيَقُولُ: هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدَّهُ؛ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ، طَيِّبُ الرَّائِحَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُد.

- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي الْمِسْكِ: هُوَ أَطْيَبُ طِيبِكُمْ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ، وَابْنَ مَاجَهْ.

- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَطَيَّبُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، بِذِكَارَةِ الطِّيبِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ فِي "تَارِيخِهِ".

- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إنَّ طِيبَ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ، وَطِيبَ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَخَفِيَ رِيحُهُ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

الشيخ: هذه الأحاديث تدل على معنيين:

أحدهما: الاكتحال، وأنَّ السنة الاكتحال؛ لأنَّ الاكتحال يُقوي البصر، ويُحسن منظر العين والشعر الذي فيها أيضًا، فالسنة أن يكتحل؛ كان النبيُّ يكتحل ﷺ كل ليلةٍ بالإثمد، ويكتحل ثلاثة أميالٍ عليه الصلاة والسلام في كل عينٍ، وهو ﷺ القُدوة في أقواله وأعماله عليه الصلاة والسلام.

ويدل أيضًا على أنَّ السنة مُراعاة ذلك، وأنه يُنبت الشعر، ويُقوي البصر، فينبغي للمؤمن أن يتحرى سنة الرسول ﷺ في ذلك فيكتحل كما كان النبيُّ يكتحل؛ لما في ذلك من قوة البصر، والفائدة الأخرى: إنبات الشعر.

والسنة ثلاثة أميال، كل عينٍ ثلاثة أميال.

وقول نافع: أن ابن عمر كان يستجمر بالألوة، يعني: بالطِّيب يستجمر يعني، يتطيب يعني: يضع الجمر، ويضع فيه الطيب، يعني: يتطيب بالألوة، وهي العود؛ اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسَّلام.

المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.