تفسير قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي..}

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأنعام:130].

وهذا أيضًا مما يقرع الله به كَافِرِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ يَسْأَلُهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ- هَلْ بَلَّغَتْهُمُ الرُّسُلُ رِسَالَاتِهِ؟ وَهَذَا استفهام تقريرٍ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أَيْ: مِنْ جُمْلَتِكُمْ، وَالرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ فَقَطْ، وَلَيْسَ مِنَ الْجِنِّ رُسُلٌ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّسُلُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَمِنَ الْجِنِّ نُذُرٌ.

وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ فِي الْجِنِّ رُسُلًا، واحتجَّ بهذه الآية الكريمة، وفيه نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ، وَلَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ، وَهِيَ -وَاللَّهُ أعلم- كقوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ۝ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ۝ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ إِلَى أَنْ قَالَ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:19- 22]، ومعلومٌ أنَّ اللؤلؤ والمرجان إنما يُستخرجان مِنَ الْمِلْحِ، لَا مِنَ الْحُلْوِ، وَهَذَا وَاضِحٌ ولله الحمد.

وقد ذكر هَذَا الْجَوَابَ بِعَيْنِهِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ إِنَّمَا هُمْ مِنَ الْإِنْسِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ إلى قوله: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:163- 165]، وقوله تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:20]، فَحَصَرَ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّ النُّبُوَّةَ كَانَتْ فِي الْجِنِّ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ الخليل، ثُمَّ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ بِبَعْثَتِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان:20]، وَقَالَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِنَّ تَبَعٌ لِلْإِنْسِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ۝ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:29- 32].

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَلَا عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ، وَفِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ ۝ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:31- 32].

الشيخ: وهذا الذي قاله المؤلف محل نظرٍ ..... قول الجمهور أنَّ الرسل والأنبياء كلّهم من الإنس، ليس في الجنّ إلا النُّذر يُنذرون أقوامهم ويُبصِّرونهم بأوامر الله، ولكن في الآيات التي احتجَّ بها المؤلفُ وغيره نظر؛ لأنَّ قوله جلَّ وعلا: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ظاهره أنهم من الإنس والجنِّ جميعًا، وأنَّ الجنَّ جاءهم رسل أيضًا، والآيات الأخرى غير صريحةٍ في أنهم من الإنس فقط، والجنّ يُقال لذكورهم: رجال، كما يقال للإنس: رجال، قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، والجنّ لهم قرى، والإنس لهم قرى ..... مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109]، ليس بصريحٍ في أنَّه خاصٌّ بالإنس.

وأمَّا قوله جلَّ وعلا: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22] أنَّه يخرج من المالح فقط، هذا فيه نظر، والصواب أنه يخرج من المالح والحلو جميعًا، لا يختصّ بالمالح، ومن هذا ما ذكره سبحانه في سورة فاطر: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ، ثم قال بعدها: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ من كل واحدٍ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [فاطر:12]، الحلية هي: اللؤلؤ والمرجان، فأخبر أنَّه من ذا ومن ذا تُستخرج الحليّ والحوت، وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ ما قال: من الملح، وَمِنْ كُلٍّ يعني: من كل واحدٍ تأكلون لحمًا طريًّا، وتستخرجون حليةً تلبسونها.

فقول الضَّحاك: "إنَّ من الجنِّ رسلًا" قويٌّ، والأمر في هذا واسعٌ، وليس هناك مانعٌ يمنع من أن يكون هناك منهم رسل، وربك له الحكمة البالغة، وهو الحكم العدل جلَّ وعلا، والأمر ليس قطعيًّا، بل محتمل، ولكن الجمهور من أهل العلم على أنهم من الإنس خاصَّةً، والجنّ فيهم النُّذُر.

س: الخلاف قبل بعثة نبينا ﷺ؟

ج: نبينا معروف أنَّه من الإنس، الكلام فقط فيمَن قبل نبينا، أما نبينا فمن الإنس، وخاتم النَّبيين، ما بعده نبي، الكلام فيما مضى: هل وقع فيهم أنبياء ورسل أم لا بعد نوحٍ ومَن بعده؟ وبكل حالٍ قد أُنْذِرُوا، قامت عليهم الحجّة بالرسل؛ لأنَّ كلَّ قومٍ رسول الإنس فيهم رسول للجنِّ ونذير لهم.

س: ..............؟

ج: الله أعلم، الله أعلم، .....، والأمر سهلٌ، وإذا قلنا: فيهم رسل، وأيش المانع؟ وأيش المضرّة؟ زيادة حُجَّة عليهم، إذا كان فيهم رسلٌ ما في شيء يُنافي الآيات، ولا يُنافي .....، بل فيه زيادة إقامة حُجَّة من ربِّنا عليهم، وهم الثّقل الثاني: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، محتاجون إلى النُّذُر والرسل حتى يشرحوا لهم العبادات والمعاملات التي هم مأمورون بها، ومُقتضى هذا أنَّ الشَّرائع التي جاء بها الرسلُ هي شرائع الجنِّ؛ لأنَّ الرسلَ هم رسل الإنس، والجنّ لهم صفات ولهم خصائص، والله أعلم بها سبحانه.

وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا أَيْ: أَقْرَرْنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُونَا رِسَالَاتِكَ، وَأَنْذَرُونَا لِقَاءَكَ، وَأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ كائنٌ لا محالةَ.

وقال تعالى: وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أَيْ: وَقَدْ فَرَّطُوا فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَهَلَكُوا بِتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَمُخَالَفَتِهِمْ لِلْمُعْجِزَاتِ لِمَا اغْتَرُّوا بِهِ مِنْ زُخْرُفِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وشهواتها.

وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أي: يوم القيامة أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ أَيْ: فِي الدُّنْيَا بِمَا جَاءَتْهُمْ به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ۝ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الأنعام:131- 132].

يَقُولُ تَعَالَى: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ أَيْ: إِنَّمَا أَعْذَرْنَا إِلَى الثَّقلين بإرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لئلا يُؤاخذ أَحَدٌ بِظُلْمِهِ وَهُوَ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ، وَلَكِنْ أَعْذَرْنَا إِلَى الْأُمَمِ، وَمَا عَذَّبْنَا أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، كَقَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وَقَالَ تَعَالَى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ۝ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا [الملك:8- 9]، وَالْآيَاتُ فِي هذا كثيرةٌ.

قال الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِظُلْمٍ وَجْهَيْنِ:

أَحَدهُمَا: ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمِ أهلها بالشِّرك ونحوه وهم غافلون، ويقول: إن لَمْ يَكُنْ يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رسولًا يُنَبِّههم على حُجج الله عليهم، ويُنذرهم عَذَابَ اللَّهِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يُؤَاخِذُهُمْ غَفْلَةً، فَيَقُولُوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ [المائدة:19].

والوجه الثاني: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ لِيُهْلِكَهُمْ دُونَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ بِالرُّسُلِ وَالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ فَيَظْلِمَهُمْ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ غَيْرُ ظَلَّامٍ لِعَبِيدِهِ.

ثُمَّ شَرَعَ يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقْوَى، وَاللَّهُ أعلم.

س: هل هناك فرقٌ بين الوجهين؟

ج: الوجه الأول: ذلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ يعني: بظلمٍ منهم هم، بسبب معاصيهم وسيِّئاتهم حتى تُقام عليهم الحُجّة ويُبَلَّغون، فلا يُؤخذون بظلمهم ومعاصيهم وكفرهم وهم غافلون لم تأتهم الرسل، بل لا بدَّ من تقديم الرسل والنَّذارة، ثم إذا أصرُّوا أُخِذُوا، كالإنس وغيرهم على العموم، الجنّ والإنس.

والوجه الثاني: بظلمٍ منَّا ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ أي: بظلمٍ منه سبحانه، ما يظلم أحدًا، وإنما يأخذهم بعدما يُبلّغهم الحجّة، ويُقيم عليهم الأدلة، وبعد ذلك يستحقّون العقوبةَ، فيكونون غير مظلومين، بل هم الظالمون بعدم استجابتهم لداعي الحقِّ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]، وهو سبحانه لا يظلمهم: لا من هذه الحيثية، ولا من هذه، لا يظلمهم من دون ذنبٍ، ولا يظلمهم بعقوبةٍ لم يبلّغوا عنها، ولم يُنذروا، ولم تُقام عليهم الحجّة.

قال: وقوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أَيْ: وَلِكُلِّ عَامِلٍ في طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل مِنْ عَمَلِهِ، يُبَلِّغُهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَيُثِيبُهُ بِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.

قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ قَوْلُهُ: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أَيْ: مِنْ كَافِرِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، أَيْ: ولكل درجة في النار بحسبه، كقوله: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [الأعراف:38]، وَقَوْله: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88].

وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْ: وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِمْ يَا مُحَمَّد بِعِلْمٍ مِنْ رَبِّكَ، يُحْصِيهَا وَيُثْبِتُهَا لَهُمْ عِنْدَهُ؛ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا عِنْدَ لِقَائِهِمْ إيَّاه، ومعادهم إليه.

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ۝ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ۝ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:133- 135].

يَقُولُ تَعَالَى: وَرَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ الْغَنِيُّ أَيْ: عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَهُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، ذُو الرَّحْمَةِ أَيْ: وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ رَحِيمٌ بهم، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيْ: إِذَا خَالَفْتُمْ أَمْرَهُ، وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ أَيْ: قَوْمًا آخَرِينَ، أَيْ: يَعْمَلُونَ بِطَاعَتِهِ، كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أَيْ: هُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، سَهْلٌ عَلَيْهِ، يَسِيرٌ لَدَيْهِ، كما أذهب القرونَ الأولى وَأَتَى بِالَّذِي بَعْدَهَا، كَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِذْهَابِ هَؤُلَاءِ وَالْإِتْيَانِ بِآخَرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء:133]، وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۝ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ۝ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15- 17]، وَقَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ الذُّرِّيَّةُ: الْأَصْلُ، وَالذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ: أَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ الَّذِي يُوعَدُونَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أَيْ: وَلَا تُعْجِزُونَ اللَّهَ، بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ وَإِنْ صِرْتُمْ تُرَابًا ورُفَاتًا وَعِظَامًا، هُوَ قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تفسيرها: حدَّثني أَبِي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُسين.

مُداخلة: في نسخة: محمد بن حمير، ما هو حسين.

الشيخ: حطّ نسخة: ابن حمير، المعروف الحافظ المعروف متّهم، هذه طبقته، هذه الطبقة طبقته ..... ابن حمير فوقه.

مُداخلة: محمد بن المصفى بن بهلول، الحمصي، القرشي، صدوق، له أوهام، وكان يُدلس، من العاشرة، مات سنة ستٍّ وأربعين. (أبو داود، والنسائي، وابن ماجه).

الشيخ: هذا يدل على أنَّه ما أدركه ابن أبي حاتم.

س: ..............؟

ج: ..... أبو حاتم هو الصّواب؛ لأنَّ الذي مات سنة ستٍّ وأربعين ما أدركه ابنُ أبي حاتم، ومولده سنة أربعين تقريبًا ..... صلّحه: حدَّثنا أبي .....

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تفسيرها: حدَّثني أَبِي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُسين.

الشيخ: حطّها نسخة: عن ابن حمير.

عَنْ أَبِي بَكْرِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَطَاءِ ابْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: يَا بَنِي آدَمَ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لِآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أكيدٌ، أي: استمرُّوا على طريقتكم وَنَاحِيَتِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَ أَنَّكُمْ عَلَى هُدًى، فأنا مُستمرٌّ على طريقتي ومنهجي، كقوله: وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ۝ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود:121- 122].

قَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عباسٍ: عَلَى مَكَانَتِكُمْ ناحيتكم.

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أَيْ: أَتَكُونُ لِي أو لكم؟ وقد أنجز اللهُ موعدَه لرسوله صلوات الله عليه، أي: فإنَّه تعالى مكَّنه فِي الْبِلَادِ، وَحَكَّمَهُ فِي نَوَاصِي مُخَالِفِيهِ مِنَ الْعِبَادِ، وَفَتَحَ لَهُ مَكَّةَ، وَأَظْهَرَهُ عَلَى مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ وَعَادَاهُ وَنَاوَأَهُ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ عَلَى سَائِرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ الْيَمَنُ، وَالْبَحْرَيْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ، ثُمَّ فُتِحَتِ الْأَمْصَارُ وَالْأَقَالِيمُ وَالرَّسَاتِيقُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي أَيَّامِ خُلَفَائِهِ أَجْمَعِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وَقَالَ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ۝ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51- 52]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].

وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ رُسُلِهِ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ۝ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:13- 14]، وَقَالَ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا الآية [النور:55]، وقد فعل اللهُ ذلك بهذه الأمّة المحمدية، وله الحمد والمنّة أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا.

س: هل جاء في السّنة نداءٌ من الله للنبي بقوله: "يا محمد"، أم هذا من كلام المؤلف؟

ج: ما أتذكر، في قصّة جبرائيل لما سأله قال: "يا محمد"، في سؤالاته المعروفة، لكن الأدب مع الأمّة أن يُنادونه: "يا أيها الرسول"، أو "يا نبي الله"، وألا يدعون غيره: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]، فالأفضل: يا رسول الله، يا نبيّ الله.

س: الحديث السَّابق مدار صحّته الذي أخرجه ابنُ أبي حاتم؟

ج: هذا ما هو بظاهرٍ ..... سنده فيه نظر ..... ابن أبي مريم ليس بشيءٍ، وأيش بعد محمد بن المصفى؟

حدَّثنا محمد بن المصفى: حدَّثنا محمد بن حمير، عن أبي بكر ابن إبراهيم، عن عطاء ابن أبي رباح، عن أبي سعيدٍ الخدري.

الشيخ: المقصود أنَّ محمد بن حميد الذي في الرِّواية ضعيفٌ، وأبو بكر ابن أبي ..... ضعيفٌ أيضًا، ومتنه؟

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: يَا بَنِي آدَمَ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لِآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.

الشيخ: هذه ما فيها: يا محمد.

الطالب: ..... التي فيها.

الشيخ: أين؟

الطالب: وما أنتم بمعجزين أي: أخبرهم يا محمد أنَّ الذي توعدون به من أمر المعاد كائنٌ لا محالة.

الشيخ: هذا كلام المؤلف، هذا من كلام المؤلّف.

...........

س: إذا قيل: "من الجنِّ رسلٌ" فهل يكونون مخلوقين من نارٍ؟

ج: وأيش المانع؟ الجنّ من النار، والإنس من الطين، ما في مانع، ولو كان فيهم رسل، فيهم مؤمنون، وفيهم صالحون وأخيار.

س: رأيكم أنَّ من الجنِّ رسلًا؟

ج: الله أعلم، الله أعلم.