تفسير قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ..}

حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ حَمْدَانَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِالْغَفَّارِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ وَيُنْفَيَانِ، وَالثَّيِّبَانِ يُجْلَدَانِ وَيُرْجَمَانِ، وَالشَّيْخَانِ يُرْجَمَانِ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنِ أَخِيهِ عِيسَى بْنِ لَهِيعَةَ.

الشيخ: انظر عيسى بن لهيعة.

عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا حَبْسَ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ.

قَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى الْقَوْلِ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الثَّيِّبَ الزَّانِي إِنَّمَا يُرْجَمُ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ جَلْدٍ، قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ وَالْيَهُودِيَّيْنِ، وَلَمْ يَجْلِدْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أنَّ الرَّجمَ لَيْسَ بِحَتْمٍ.

الشيخ: فدلَّ على أنَّ الجلد. يعني: الجلد مع الرَّجم.

مُداخلة: أحسن الله إليك، هناك تعليق ..... في قوله: لا حبسَ بعد سورة النِّساء، الصواب: لا حبسَ بعد سورة النور.

الشيخ: هو الظاهر؛ لأنَّ النور ..... بها الحدود، أما النساء: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، النساء فيها الحبس، لكن الخبر هذا محل نظرٍ.

عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا حَبْسَ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ.

الشيخ: حطّ عليه: صوابه: لا حبسَ بعد سورة النُّور.

قَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى الْقَوْلِ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الثَّيِّبَ الزَّانِي إِنَّمَا يُرْجَمُ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ جَلْدٍ، قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ وَالْيَهُودِيَّيْنِ، وَلَمْ يَجْلِدْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أنَّ الجلدَ لَيْسَ بِحَتْمٍ، بَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ عَلَى قَوْلِهِمْ، والله أعلم.

الشيخ: وهذا هو الصّواب: أنَّ الثَّيبَ يُرجم فقط؛ لأنَّ القتلَ ما وراءه شيء، قتله هو النِّهاية، وجاء عن عليٍّ أنَّه جمع بينهما: بين الجلد والرَّجم في قصة .....، ولكن الصَّواب كما قاله الجمهور أنَّه يُكتفى بالرجم في حقِّ الثَّيب، سواء كان الثَّيب شابًّا أو شيخًا، رجلًا أو امرأةً، يُرجم فقط؛ لأنَّ الرسول ﷺ رجم ماعزًا في "الصحيحين" ولم يجلده، ورجم اليهوديين ولم يجلدهما في "الصحيحين"، والغامدية في "صحيح مسلم" ولم يجلدها.

وقوله تعالى: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا [النساء:16] أَيْ: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ فآذوهما.

قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا: أَيْ بِالشَّتْمِ وَالتَّعْيِيرِ وَالضَّرْبِ بِالنِّعَالِ، وَكَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ حَتَّى نَسَخَهُ اللَّهُ بِالْجَلْدِ أَوِ الرَّجْمِ.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا زَنَيَا.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ في الفتيان من قبل أن يَتَزَوَّجُوا.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي الرَّجُلَيْنِ إِذَا فَعَلَا لَا يُكَنِّي.

الشيخ: يعني اللِّواط؛ لأنَّ الفاحشةَ تشمل الزِّنا واللِّواط.

وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ اللِّوَاطَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو ابْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَعَمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ.

الشيخ: هذا الحديث معروفٌ من حديث عمرو ابن أبي عمرو مثلما في نسخة الشّعب، نعم.

وَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا [النساء:16] أَيْ: أَقْلَعَا وَنَزَعَا عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ، وَصَلُحَتْ أَعْمَالُهُمَا وَحَسُنَتْ.

الشيخ: أمَّا اللِّواط فالحديث هذا فيه كلامٌ لأهل العلم، ولكن أجمع الصحابةُ على أنَّ اللَّائط يُقتل، والملوط به يُقتل، إذا كانا مُكلَّفين قُتِلَا قتلًا، وعليه الحديث المذكور: مَن وجدتُموه يعمل عمل قوم لوطٍ فاقتلوا الفاعلَ والمفعولَ به، ولكن اختلفوا كيف يُقتل؟ هل يُرجم، أو يُلقى من شاهقٍ كما فعل اللهُ بقوم لوطٍ، أو يُقتل بالسَّيف؟ على أقوالٍ، والأقرب والأرجح أنه يُقتل بالسَّيف؛ لأنَّه أحسن قتلة: إذا قتلتُم فأحسنوا القتلة.

س: .............؟

ج: لا بدَّ من الإقرار، أو شهادة أربع شهود عدول أنَّهم رأوه .....، أو إقراره على الخلاف أربع أو واحدة على المشهور، والأرجح واحدة، وإذا قرر أربعًا خروجًا من الخلاف واحتياطًا فحسنٌ، مثل: الزنا.

فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [النساء:16] أَيْ: لَا تُعَنِّفُوهُمَا بِكَلَامٍ قَبِيحٍ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:16].

وَقَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ": إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا أَيْ: ثُمَّ لَا يُعَيِّرْهَا بِمَا صَنَعَتْ بَعْدَ الْحَدِّ الَّذِي هو كفَّارةٌ لما صنعت.

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17].

س: حديث قتل مَن فَعَلَ فِعْلَ قوم لوطٍ ثابتٌ؟

ج: فيه خلافٌ؛ منهم مَن أعلَّه بعمرو بن أبي عمرو؛ لأنَّ له أوهامًا وأغلاطًا، والحافظ ابن حجر قال: في إسناده اختلافٌ. أو نحو هذه العبارة، وفي آخره: ومَن وقع على بهيمةٍ فاقتلوه واقتلوا البهيمةَ، وابن عباسٍ راويه خالف وقال: يُعزَّر ..... البهيمة، فهو إسناده فيه خلافٌ بين أهل العلم، لكن العُمدة مع الصَّحابة مثلما قال ابنُ القيم رحمه الله في "الجواب الكافي" وغيره: إجماع الصَّحابة هو العُمدة على قتله. أيش قال على: عمرو ابن أبي عمرو؟

الطالب: عمرو ابن أبي عمرو ميسرة، مولى المطلب، المدني، أبو عثمان، ثقة، ربما وهم، من الخامسة، مات بعد الخمسين. (الجماعة).

الشيخ: انظر عيسى بن لهيعة.

الطالب: ما هو بموجودٍ.

الشيخ: ما هو بموجودٍ، نعم.

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ۝ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:17- 18].

يقول : إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ التَّوْبَةَ مِمَّنْ عَمِلَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، ثُمَّ يَتُوبُ وَلَوْ بعد مُعَايَنَةِ الْمَلَكِ رُوحه قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ.

قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَهُوَ جَاهِلٌ حَتَّى يَنْزِعَ عَنِ الذَّنْبِ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانُوا يَقُولُونَ: كُلُّ ذَنْبٍ أَصَابَهُ عَبْدٌ فهو جهالة. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَقَالَ عَبْدُالرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَرَأَوْا أَنَّ كلَّ شيءٍ عُصِيَ اللهُ بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ، عَمْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُلُّ عَامِلٍ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ جَاهِلٌ حِينَ عَمِلَهَا.

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ لِي عَطَاءُ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ نَحْوَهُ.

وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ جَهَالَتِهِ عَمِلَ السُّوءَ.

الشيخ: والمعنى أنَّ مَن أتى الذنبَ فله حكم الجهالة، تُقبل منه التوبة إذا تاب، وليس من شرطها أن يكون جاهلًا كما قد يُتوهم من ظاهر النَّص، بل حتى مَن أتاها وهو عالمٌ أنها معصية فإنَّه إذا تاب تاب اللهُ عليه؛ لأنَّ مَن عصى الله فهو جاهلٌ، لولا جهله لما أقدم عليها، فإنَّ غلبةَ الشَّهوة وغلبةَ الهوى تجعل العالمَ كالجاهل بسبب استيلاء الهوى عليه والشَّهوة وحبّ الانتقام، وغير ذلك.

وقد أجمع المسلمون على هذا المعنى، أجمع المسلمون على أنَّ التوبةَ مقبولة من العامد الذي عنده بصيرة، ومن العامد الذي عنده جهالة، التوبة مقبولة، مَن تاب تاب اللهُ عليه إذا تاب توبةً صادقةً، توبةً نصوحًا؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ [النور:31]، المؤمنون هم أهل العلم، وأهل البصيرة.

فالحاصل أنَّ التوبةَ واجبةٌ على جميع مَن عصى الله جاهلًا أو عالمـًا، وأنَّه متى استوفت شروطها قُبِلَتْ وعفا الله عنه، وكل مَن تاب قبل الموت فقد تاب من قريبٍ، كل مَن تاب قبل أن يُغرغر فقد تاب من قريبٍ؛ لأنَّها كلّها قريبٌ، العمر كله قريبٌ، والدنيا كلها قريبةٌ، فكل مَن تاب قبل أن يُغرغر ما دام عقلُه معه توبةً صادقةً تاب اللهُ عليه.

س: .............؟

ج: قبل أن يُغرغر ما دام عقلُه معه، ما دام يعقل النَّدم، ويعقل الإقلاع قبل أن يتغيّر شعوره.

............

وَقَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قَالَ: مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا كَانَ دُونَ الْمَوْتِ فَهُوَ قَرِيبٌ.

وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: مَا دَامَ فِي صِحَّتِهِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الدُّنْيَا كُلُّهَا قَرِيبٌ.