تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1)

وَهَذِهِ عَامَّةٌ في كلِّ مَن دعا إلى الخير، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُهْتَدٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَالسُّدِّيُّ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.

الشيخ: هذه من أعظم الآيات في الدّلالة على فضل الدُّعاة إلى الله جلَّ وعلا، فإنَّ هذا الاستفهام معناه النَّفي: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا [فصلت:33] معناه النَّفي، يعني: لا أحدَ أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا، فهو يدعو إلى الله ويعمل بدعوته حتى يستقيم، يدعو إلى الحقِّ ويعمل به، وينهى عن الباطل ويجتنبه، ما أحد أحسن قولًا منه، وفي الآية الأخرى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، فإذا دعا إلى الله على بصيرةٍ واتَّبع الحقَّ فلا أحدَ أحسن قولًا منه.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْمُؤَذِّنُونَ الصُّلَحَاءُ، كَمَا ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ": الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَفِي السُّنَنِ مَرْفُوعًا: الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، فَأَرْشَدَ اللَّهُ الْأَئِمَّةَ، وَغَفَرَ لِلْمُؤَذِّنِينَ.

الشيخ: لا شكَّ أنَّ المؤذنين من الدّعاة إلى الله، فإذا صلحوا واستقاموا فهم على خيرٍ عظيمٍ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرُوبَةَ الْهَرَوِيُّ: حَدَّثَنَا غَسَّانُ، قَاضِي هَرَاةَ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مَطَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّه قال: «سهامُ المؤذِّنين عند الله تعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَسِهَامِ الْمُجَاهِدِينَ، وَهُوَ بَيْنَ الْأَذَانِ والإقامةِ كالمتشَحِّط في سبيل الله تعالى في دمه».

قال: وقال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: لو كنتُ مُؤذِّنًا ما باليتُ أن لا أَحُجَّ وَلَا أَعْتَمِرَ وَلَا أُجَاهِدَ.

قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّنًا لَكَمُلَ أَمْرِي، وَمَا بَالَيْتُ أن لا أَنْتَصِبَ لِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَلَا لِصِيَامِ النَّهَارِ، سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقول: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ ثَلَاثًا، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَرَكْتَنَا وَنَحْنُ نَجْتَلِدُ عَلَى الْأَذَانِ بالسيوف. قال ﷺ: كلا يا عمر، إنَّه سيأتي على الناس زمانٌ يتركون الأذانَ على ضُعفائهم، وتلك لحومٌ حرَّمها اللهُ عزَّ وجلَّ عَلَى النَّارِ؛ لُحُومُ الْمُؤَذِّنِينَ.

قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: ولهم هذه الآية: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]. قَالَتْ: فَهُوَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا قَالَ: "حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ" فَقَدْ دَعَا إِلَى اللَّهِ.

وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عمر رضي الله عنهما وَعِكْرِمَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ أنَّه قال في قوله : وَعَمِلَ صَالِحًا قَالَ: يَعْنِي صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَغَوِيُّ حَدِيثَ عَبْدِالله بن المغفّل قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْهُ. وَحَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِي إِيَاسٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ. قال الثَّوري: لا أُراه إلَّا قَدْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ: الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ.

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي "الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ.