تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:147].

يَقُولُ تَعَالَى: فَإِنْ كَذَّبَكَ يَا مُحَمَّدُ مُخَالِفُوكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ، فَقُلْ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ. وَهَذَا تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي ابْتِغَاءِ رَحْمَةِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ، وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ، وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ تَرْهِيبٌ لَهُمْ مِنْ مُخَالَفَتِهِمُ الرَّسُولَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ.

وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165]، وَقَالَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد:6]، وَقَالَ تَعَالَى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49- 50]، وَقَالَ تَعَالَى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3]، وقال: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ۝ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:12- 14]، وَالْآيَاتُ فِي هذا كثيرةٌ جدًّا.

الشيخ: والمقصود من هذا ترغيب الناس في التوبة، وعدم اليأس، وأنَّ الله جلَّ وعلا هو الجواد الكريم، التواب الرحيم، وإن عظمت الذّنوب، وإن طال الأمدُ، فمتى رجع العبدُ إلى ربِّه وتاب إليه وإن عظمت ذنوبه فهو سبحانه هو التَّواب الرحيم، كما قال جلَّ وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ يعني: بالشِّرك لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، أجمع العلماءُ على أنَّ الآية في التَّائبين؛ لأنَّه سبحانه يغفر لهم مهما عظمت الذّنوب، فقد وقع من كثيرٍ من قريشٍ ومن غيرهم من الأذى للرسول ﷺ والكفر العظيم، ثم تابوا فتاب اللهُ عليهم.

فلا ينبغي لأحدٍ أن ييأس أو يُيَئِّس الناس أو يُقَنِّطهم، بل ينبغي له أن يُرغِّبهم في الخير، ويُخبرهم بأنَّ ربَّهم ذو رحمةٍ واسعةٍ، وأنه لا يُردّ بأسه عن القوم المجرمين، فمَن تاب تاب اللهُ عليه، ومَن أعرض فبأسُ الله لا يردّ عنه وعن أمثاله، قال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49- 50]، وقال تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3]، يغفر الذَّنبَ لمن تاب، وشديد العقاب لمن أبى واستكبر، ولا يخرج من هذا أحدٌ؛ الكفَّار والعُصاة جميعًا.

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ۝ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ۝ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:148- 150].

هَذِهِ مُنَاظَرَةٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وشُبهةٌ تشبث بِهَا الْمُشْرِكُونَ فِي شِرْكِهِمْ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا، فَإِنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّحْرِيمِ لِمَا حَرَّمُوهُ، وَهُوَ قَادِرٌ على تغييره بأن يُلهمنا الإيمانَ، ويحول بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْكُفْرِ، فَلَمْ يُغَيِّرْهُ، فَدَلَّ عَلَى أنَّه بمشيئته وإرادته ورضاه منا بذلك؛ ولهذا قالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ الآية [الزخرف:20]، وكذلك الآية الَّتِي فِي النَّحْلِ مثل هَذِهِ سَوَاءٌ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ ضَلَّ مَنْ ضَلَّ قَبْلَ هَؤُلَاءِ، وَهِيَ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمَا أَذَاقَهُمُ اللَّهُ بَأْسَهُ، وَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ، وَأَدَالَ عَلَيْهِمْ رُسُلَهُ الْكِرَامَ، وَأَذَاقَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَلِيمِ الِانْتِقَامِ، قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ أي: بأنَّ الله رَاضٍ عَنْكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ، فَتُخْرِجُوهُ لَنَا أَيْ: فَتُظْهِرُوهُ لَنَا وَتُبَيِّنُوهُ وَتُبْرِزُوهُ، {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} أَيِ: الْوَهْمَ وَالْخَيَالَ، وَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ هَاهُنَا الِاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ فِيمَا ادَّعَيْتُمُوهُ.

قَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عباسٍ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا، وَقَالَ: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الأنعام:107]، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: عِبَادَتُنَا الْآلِهَةَ تُقَرِّبُنَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَأَخْبَرَهُمُ اللهُ أنَّها لا تُقرِّبهم، فقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا، يَقُولُ تَعَالَى: لَوْ شِئْتُ لَجَمَعْتُهُمْ عَلَى الْهُدَى أَجْمَعِينَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ أَيْ: لَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ، وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فِي هِدَايَةِ مَنْ هَدَى، وَإِضْلَالِ مَنْ ضَلَّ، فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ فكلّ ذَلِكَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْضَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُبْغِضُ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [الأنعام:35]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [يونس:99].

الشيخ: والمعنى أنَّه سبحانه هو القادر على كل شيءٍ، ولكنه يُملي ولا يغفل، هو القادر على أن يجعلهم جميعًا مُهتدين، كما هو القادر على أن يجعلهم جميعًا ضالّين، ولكنَّه سبحانه يُملي ولا يغفل، قد بيَّن الحقَّ وأوضحه بالدَّليل، وبيَّن الباطل الذي نهاهم عنه وحذَّرهم منه، فلا حُجَّةَ لهم في كونه لم يهدِهم لهذا الخير، فإذا أملى للظَّالمين وأنظرهم فله الحكمة البالغة في ذلك: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، لما أعرضوا عن الحقِّ أُملي لهم وأُمهلوا، وهو سبحانه قادرٌ على كل شيءٍ، كونه يقدر على هدايتهم، وكونه جلَّ وعلا هو الخلَّاق العليم، ليس لهم في ذلك حُجَّة، وقد أبان اللهُ لهم الحقَّ، وأوضح لهم ما يجب عليهم فعله، وبيَّن لهم ما يجب عليهم تركه، وأعطاهم العقول.

فالواجب عليهم أن يمتثلوا أمره، وأن يحذروا نهيه، وأن يحكموا هذه العقول التي أعطاهم الله إيَّاها فيما ينفعهم، وفي ترك ما يضرّهم، فالعذاب حين يأتيهم ليس لهم حُجَّة في ذلك: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35].

وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:118- 119].

قَالَ الضَّحَّاكُ: لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَصَى اللَّهَ، وَلَكِنْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى عِبَادِهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ أَيْ: أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا أَيْ: هَذَا الَّذِي حَرَّمْتُمُوهُ وَكَذَبْتُمْ وَافْتَرَيْتُمْ عَلَى اللَّهِ فِيهِ، فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أَيْ: لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَشْهَدُونَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَذِبًا وَزُورًا، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أَيْ: يُشركون به ويجعلون له عديلًا.