تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا..}

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:161- 163].

يقول تَعَالَى آمِرًا نَبِيَّهُ ﷺ سيِّد المرسلين أن يُخبر بما أنعم بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ، دِينًا قِيَمًا أَيْ: قَائِمًا ثَابِتًا، مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، وَقَوْلِهِ: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120- 123].

الشيخ: وهذا كلّه واضحٌ في أنَّ دين الإسلام صراطٌ مستقيمٌ، ليس فيه خفاءٌ، بل هو طريقٌ واضحٌ يُوصل مَن سلكه إلى غاية السَّعادة والنَّجاة والعاقبة الحميدة؛ ولهذا ذكره اللهُ في مواضع كثيرةٍ؛ لأنَّه الصِّراط المستقيم، وبهذا يقول جلَّ وعلا: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني: قل أيّها الرسول للناس، بلِّغهم هذا، وأنَّ الله هداكَ إلى هذا الصِّراط العظيم، وأنه دينٌ يُدان به، يتعبَّد به المؤمن، وأنَّه قيّم، ليس فيه اعوجاجٌ، كما في قوله جلَّ وعلا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، فهو سبحانه له الصِّراط المستقيم، وهو على الصراط المستقيم، ورسله يدعون إلى الصراط المستقيم، وهكذا دُعاة الحقِّ.

فتوحيد الله، والإخلاص له، والإيمان برسوله ﷺ، والإيمان بكلِّ ما أخبر اللهُ به ورسوله، مع أداء فرائضه، وترك المحارم، هذا هو الصِّراط المستقيم، هذا هو دين الله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90].

فالواجب على جميع المكلَّفين من الجنِّ والإنس أن يلزموا هذا الصِّراط، وألا يحيدوا عنه من أجل ضلال الضَّالين، وتشبيه المشبِّهين، ولا أغراض المغرضين، بل يجب أن يلزموه في السّر والجهر، في الشّدة والرَّخاء، في جميع الأحوال؛ لأنَّه طريق النَّجاة، وما خرج عنه هو طريق الهلاك.

وبيَّن في سورة الفاتحة أنَّه صراط المنعم عليهم من الرسل وأتباعهم، وطريق المنعم عليهم الذين وُفِّقوا للعلم والعمل؛ للعلم النافع، والعمل الصَّالح، هو صراط الله، وهم الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة، وحذَّر من الشُّبَه التي قد يُلبِّس بها بعضُ الناس بقوله: وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]، وهي الطرق الأخرى التي يُشبّه بها على الناس، ويدعو إليها الناس، ويقول: إنها سبل، اتركوها، احذروها؛ لأنها تزيغ بكم عن سبيل الله وعن صراطه المستقيم.

فعلى أهل العلم والدُّعاة إلى الله جلَّ وعلا أن يلزموا هذا الصِّراط، وأن يُوضِّحوه للناس قولًا وعملًا في مجالسهم، وفي مواعظهم، وفي خُطبهم وحلقات العلم ومُذاكراتهم، وغير ذلك من الطرق والوسائل التي بها البلاغ؛ لأنَّ الناسَ كلما طال الزمنُ وبَعُدَ العهدُ عن أهل النبوة زاد الجهلُ، واشتدّت الغُربة، فوجب على أهل العلم أن يُبَيِّنوا ويُوضِّحوا، وأن يصبروا؛ حتى تقوم الحُجَّة، وتنقطع المعذرة، ويجد طالبُ الحقِّ مَن يهديه ويُرشده.

وَلَيْسَ يَلْزَمُ من كونه ﷺ أُمِرَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَكْمَلَ مِنْهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ بِهَا قِيَامًا عَظِيمًا، وَأُكْمِلَتْ لَهُ إِكْمَالًا تَامًّا لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَى هَذَا الْكَمَالِ؛ وَلِهَذَا كَانَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ على الإطلاق، وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلقُ، حتى الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ حَفْصٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ: أَنْبَأَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: سَمِعْتُ ذَرَّ بْنَ عَبْدِاللَّهِ الْهَمْدَانِيَّ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا أَصْبَحَ قَالَ: أَصْبَحْنَا عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أيّ الأديان أحبّ إلى الله تعالى؟ قال: الحنيفية السَّمحة.

وقال أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَقْنِي عَلَى مَنْكِبِهِ لِأَنْظُرَ إِلَى زَفْنِ الْحَبَشَةِ، حَتَّى كُنْتُ الَّتِي مَلِلْتُ فَانْصَرَفْتُ عَنْهُ.

قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ لِي عُرْوَةُ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ: لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ.

أَصْلُ الْحَدِيثِ مُخَرَّجٌ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، وَالزِّيَادَةُ لَهَا شَوَاهِدُ مِنْ طُرُقٍ عِدَّةٍ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ طُرُقَهَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

الشيخ: والمعنى أنَّه كاملٌ فيما يتعلق بحاجات الناس في الدنيا، كما أنَّه كاملٌ فيما يتعلَّق بالشَّرائع التي شرعها الله جلَّ وعلا، وجاء بالسَّماح والتَّيسير فيما تدعو له الحاجة من اللَّعب الذي ينفع ولا يضرّ: كالمسابقات بالأقدام، بالخيل، بالإبل، بالرمي، وبغير هذا من أنواع السلاح، كالذي فعلته الحبشةُ في المسجد بالحراب وغيرها، و..... عائشة أن تنظر للعموم، كل هذا مما فيه التَّيسير والتَّسهيل، وأنَّه لا مانع من النَّظر في عموم الرجال في لعبهم المباح على وجهٍ لا خطرَ فيه، ولا فتنةَ فيه، ومن هذا ما أباح اللهُ من الدُّفِّ للنِّساء في الزواج، والدُّفِّ للجواري في أيام العيد، ومن هذا ما جاءت به الشَّريعة من نقل الشعر واستعمال الأشعار التي ليس فيها محذورٌ؛ لنقل العلم وحفظ العلم، أو حثّ على خيرٍ، أو تحذير من شرٍّ، وغير هذا مما جاءت به الشَّريعة مما فيه قوة للنفس وترويح لها، من دون إثمٍ، فكل هذا من كمال الشَّريعة المحمدية، ليس فيها آصارٌ وأغلالٌ كما في التَّوراة، نعم.

س: حديث: أصبحنا على فطرة الإسلام ما صحّة الحديث؟

ج: لا بأس به، ذكرت ..... في "تحفة الأخيار" في ..... والأذكار التي جمعناها.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَأْمُرُهُ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَذْبَحُونَ لِغَيْرِ اسْمِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ لِلَّهِ، وَنُسُكَهُ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] أَيْ: أخلص له صلاتك وذبحك، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيَذْبَحُونَ لَهَا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمُخَالَفَتِهِمْ، وَالِانْحِرَافِ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَالْإِقْبَالِ بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى.

قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي النُّسُكُ: الذَّبْحُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: وَنُسُكِي قَالَ: ذَبْحِي. وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ: حدَّثنا أحمدُ بن خالد الذَّهبي.

الشيخ: كذا عندكم، أو الدّهني؟

الطالب: الوهبي.

الشيخ: انظر "التقريب".

حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي يَوْمِ عيد النَّحر بِكَبْشَيْنِ، وَقَالَ حِينَ ذَبَحَهُمَا: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.

الشيخ: وهذه الآية مثل قوله جلَّ وعلا: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ۝ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:1- 2]، وفسَّر قومٌ نُسُكِي بعبادتي بجميع العبادات: من ذبحٍ، وصومٍ، وحجٍّ، وغيره، فتفسيرها بالعبادة يكون أعمَّ، وتفسيرها بالذَّبح أخصّ، كما في آية الكوثر.

والصَّلاة والنُّسُك عبادتان عظيمتان: هذه بدنية، وهذه مالية، والبقية كذلك، بقية العبادات هكذا: إما بدنية، وإما مالية، كلها لله وحده: الصَّلاة والنُّسُك، وهكذا الصَّدقات والنُّذور والصّوم الحجّ وسائر العبادات يجب أن تكون لله وحده.

الطالب: أحسن الله إليك، أحمد بن خالد بن موسى الوهبي الكندي، أبو سعيدٍ، صدوق، من التاسعة، مات سنة أربع عشرة. (البخاري في جزء القراءة، والأربعة).

الشيخ: هناك غيره؟

الطالب: أحمد بن خالد الخلاد.

الشيخ: غيره؟

الطالب: ما في إلا اثنين فقط.

الشيخ: لا بأس.

الطالب: في "الخلاصة" قال: الذَّهبي.

الشيخ: الظاهر أنَّه تصحيفٌ من "الوهبي".

الطالب: في بعض النُّسخ: "الذهبي" أيضًا.

الشيخ: الذي عنده: "ذهبي" يحطّ: "وهبي"، والذي عنده: "وهبي" يحطّ: "ذهبي"؛ حتى نُراجع "التهذيب" والرجال وغيرهم، ما دام في "الخلاصة" كذا انظر.

س: شرعية هذا الذكر عند الذَّبح؟

ج: مُستحبٌّ عند الذَّبح، مُستحبٌّ.

س: .............؟

ج: لا بأس به، نعم لا بأس به.

الشيخ: مَن عزاه له؟ وقال مَن؟

الطالب: وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ: حدَّثنا أحمدُ بن خالد الذّهبي: حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عن جابر بن عبدالله.

الشيخ: ابن إسحاق هنا ما صرَّح بالسَّماع، الذي في ذهني وحفظي أنَّه لا بأس به، لعله خرج من طرقٍ أخرى، نُراجعه إن شاء الله .....

وقوله : وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ كُلَّهُمْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَصْلُهُ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقد أخبرنا تَعَالَى عَنْ نُوحٍ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:72]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:130- 132]، وَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ۝ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:84- 86]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ الآية [المائدة:44]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة:111].

الشيخ: وهذا كلّه يُبين أنَّ الإسلامَ هو دين الله، فهو دين آدم ومَن بعده، ودين نوحٍ ومَن بعده، وهكذا إلى محمدٍ ﷺ، هو دين الأنبياء جميعًا، فقوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ يعني: من هذه الأمة، وإلا فآدم قبله، ونوح قبله، وهكذا، فدين الإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، وهو دين الله في الأرض، سار عليه آدمُ وذُريته والمسلمون، وهكذا مَن بعدهم من الأنبياء والرسل، إلى أن وصلت الدَّورة والذّروة إلى محمدٍ عليه الصلاة والسلام.

س: قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [المائدة:44] وجه التَّفريق .....؟

ج: كل الأنبياء مُسلمين، أسلموا يعني: انقادوا لله، خضعوا لله ووحَّدوه، كل مسلمٍ هكذا، أنبياء وغيرهم، أسلموا يعني: خضعوا لله، وذلُّوا له، وعبدوه وحده.

فأخبر تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ رُسُلَهُ بِالْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ بِحَسَبِ شَرَائِعِهِم الْخَاصَّةِ الَّتِي يَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضًا، إِلَى أَنْ نُسِخَتْ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّتِي لَا تُنْسَخُ أَبَدَ الآبدين، ولا تزال قائمةً منصورةً، وأعلامها منشورة إلى قيام السَّاعة؛ ولهذا قال : نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، دِينُنَا وَاحِدٌ، فَإِنَّ أَوْلَادَ الْعلَّاتِ هُمُ الْإِخْوَةُ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمَّهَاتٍ شَتَّى، فَالدِّينُ وَاحِدٌ؛ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ تَنَوَّعَتِ الشَّرَائِعُ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمَّهَاتِ، كَمَا أَنَّ إِخْوَةَ الْأَخْيَافِ عَكْسُ هَذَا؛ بَنُو الْأُمِّ الْوَاحِدَةِ مِنْ آبَاءٍ شَتَّى، وَالْإِخْوَةُ الْأَعْيَانُ: الْأَشِقَّاءُ؛ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ، وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: يعني أنَّ الإخوةَ ثلاثةُ أقسام:

إخوة لعلّات: وهم الإخوة لأبٍ، فالشَّرائع مُشبهات بهم، الأنبياء ديننا مُشبَّهٌ بهم؛ فالعقيدة واحدة بمنزلة الأب، وهو دين الله: التوحيد، والإسلام الذي هو الخضوع لله، وعبادته وحده، والشَّرائع متنوعة، بمنزلة العلَّات: الزَّوجات.

وأولاد الأخياف: أولاد الآباء المتعددين من أمٍّ واحدةٍ، وهم الإخوة لأم.

وأولاد الأعيان يُقال: إخوة الأعيان؛ الذين هم من أمٍّ وأبٍ، وهم الأشقّاء.

س: وما السَّبب في تخصيص ملّة إبراهيم عليه السلام لاتِّباعه دون سائر مِلل الأنبياء؟

ج: الظَّاهر والله أعلم لما حباه اللهُ من العلم العظيم، والشَّرائع العظيمة، وما نشره من الذكر الحكيم، وما قام به من جهة الكعبة، وغير هذا من الخصائص التي جعله اللهُ بها أمةً وحده، ثم جعل الأنبياء بعده من ذُريته، فله مزايا؛ ولهذا نبَّه على ملّة إبراهيم، وهي ملّة الأنبياء، لكن له خصائص عظم بها، وشرف بها حتى صار أشرفَ الأنبياء، ما عدا محمدًا عليه الصلاة والسلام.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ الْمَاجِشُونُ: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيُّ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا كَبَّرَ اسْتَفْتَحَ، ثُمَّ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الآية [الأنعام:162]، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِيمَا يَقُولُهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ. وقد رواه مسلمٌ في "صحيحه".

الشيخ: في رواية النَّسائي وآخرين: اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأعمال، زيادة "والأعمال"، وهي داخلةٌ في الأخلاق، نعم.

س: يقول: وأنا أول المسلمين؟

ج: يعني: من هذه الأُمَّة.

س: إذا دعا؟

ج: الشَّخص يقول: "من المسلمين"، والنبي يقول: وأنا أول المسلمين؛ لأنَّه الأول من هذه الأمّة، أما أنت فتقول: "وأنا من المسلمين" كما في الرِّواية الأخرى: وأنا من المسلمين.