تفسير قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ..}

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ۝ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ۝ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:7- 10].

قال سعيدُ بن جبيرٍ وقتادة: كان المشركون يجعلون المالَ للرجال الكبار، ولا يُورثون النِّساء ولا الأطفال شيئًا، فأنزل الله: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ الآية، أي: الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى، يستوون في أصل الوراثة، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض اللهُ لكلٍّ منهم بما يُدلي به إلى الميت من قرابةٍ، أو زوجيةٍ، أو ولاءٍ، فإنَّه لُحْمَةٌ كلُحْمَة النَّسب.

الشيخ: كان أهلُ الجاهلية لا يُورثون النِّساء والصِّبيان، ويقولون: المال لمن يحمل السلاح ويُقاتل الرجال، أما هؤلاء فليسوا من ذلك في شيءٍ، وهم النِّساء والصِّبيان، فأنزل الله جلَّ وعلا هذه الآية العظيمة: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا.

والله جلَّ وعلا جعل للرجال والنِّساء نصيبًا من الإرث، صغارهم وكبارهم؛ فضلًا منه وإحسانًا، وليعمّ الخير للجميع، وليشترك الجميع فيما أنعم اللهُ به على قريبهم، فتحصل المودّة والمحبّة والتَّعاون على الخير، ويرحم الضَّعيف والمرأة، وجعل ذلك مُوزَّعًا بينهم على تفصيلٍ اقتضته حكمةُ الله سبحانه، وهو الرحمن الرحيم، فجعل الإرثَ بينهم مختلفًا متنوعًا حسب ما اقتضت حكمتُه سبحانه وحمده وعلمه بأحوال عباده، فجعل للزَّوجين نصيبًا خاصًّا، وجعل للوالدين نصيبًا خاصًّا، وللجدَّات والأجداد، وجعل إرثًا للذُّرية مُتفاوتًا بين الذكور والإناث، وجعل للعصبة حالًا، وأهل الفروض لهم حالٌ، قسم بينهم ميراثَهم على محض حكمته وحمده وعلمه ، وأبطل ما كان عليه أهلُ الجاهلية.

والله جعل الشَّرائع رحمةً لعباده، فيها صلاحُ قلوبهم، وصلاح أعمالهم، وصلاح أخلاقهم، وصلاح أموالهم، فإرسال الرسل وإنزال الكتب من رحمة الله لعباده، ومن إحسانه إليهم، كما قال في حقِّ نبيه محمدٍ عليه الصلاة والسلام: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فالله أرسل الرسلَ وأنزل الكتبَ لرحمة العباد والإحسان إليهم، ووصل القضاء بينهم في جميع شؤونهم، فكانت الجاهليةُ تُشرك بالله وتعبد الأوثان والأصنام، فأبطل ذلك سبحانه بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وكانوا يظلمون، فأبطل اللهُ ذلك بما أرسل من الرسل، وأنزل من الكتب، وأمر بالعدل والإحسان، وكانوا يحيفون في الإرث، فشرع ما شرع من الإرث ، وأزال ما هم عليه من الجاهلية، وكانت لهم أعمال جاهلية في الربا والزنا وسائر أنواع المعاصي، فرحم اللهُ العبادَ بما شرع على أيدي الرسل من الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وإباحة الطَّيبات، والأمر بما فيه صلاحهم من الطَّاعات، والنَّهي عمَّا فيه ضررهم من المعاصي والمخالفات، فالشَّرائع رحمة من الله للعباد، فيها صلاحهم، وفيها نجاتهم، وفيها الحكم بينهم.

وقد روى ابنُ مردويه من طريق ابن هراسة، عن سفيان الثَّوري، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن جابرٍ قال: جاءت أمُّ كجة إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، إنَّ لي ابنتين قد مات أبوهما، وليس لهما شيء. فأنزل الله تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الآية، وسيأتي هذا الحديثُ عند آيتي الميراث بسياقٍ آخر، والله أعلم.

وقوله: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الآية، قيل: المراد: وإذا حضر قسمةَ الميراثِ ذوو القربى ممن ليس بوارثٍ، واليتامى، والمساكين، فليُرضَخ لهم من التركة نصيبٌ، وأنَّ ذلك كان واجبًا في ابتداء الإسلام، وقيل: يُستحبّ.

واختلفوا: هل هو منسوخٌ أم لا؟ على قولين:

فقال البخاري: حدَّثنا أحمدُ بن حميد: أخبرنا عبيدُالله الأشجعي، عن سفيان، عن الشَّيباني، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ قال: هي مُحكمةٌ، وليست بمنسوخةٍ. تابعه سعيد عن ابن عباسٍ.

وقال ابنُ جريرٍ: حدَّثنا القاسم: حدَّثنا الحسين: حدَّثنا عبَّاد بن العوام، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباسٍ قال: هي قائمةٌ يُعْمَل بها.

وقال الثَّوري: عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ في هذه الآية قال: هي واجبةٌ على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم.

وهكذا رُوِيَ عن ابن مسعودٍ، وأبي موسى، وعبدالرحمن ابن أبي بكر، وأبي العالية، والشَّعبي، والحسن.

وقال ابنُ سيرين وسعيدُ بن جبير ومكحول وإبراهيم النَّخعي وعطاء ابن أبي رباح والزُّهري ويحيى بن يعمر: إنها واجبة.

وروى ابنُ أبي حاتم عن أبي سعيدٍ الأشجّ، عن إسماعيل بن عُلية، عن يونس بن عبيد، عن ابن سيرين قال: ولي عبيدةُ وصيةً فأمر بشاةٍ فذُبِحَتْ.

الشيخ: عبيدة السَّلماني؟

الطالب: الأشجعي، قال: عبيدالله بن عبدالرحمن، الأشجعي، أبو عبدالرحمن، الكوفي، ثقة، مأمون، أثبت الناس كتابًا في الثوري، من كبار التاسعة، مات سنة اثنتين وثمانين ومئة. (خ، م، ت، س، ق).

الشيخ: على كل حالٍ: عبيدالله بالتَّصغير.

الأصل في الأحكام البقاء وعدم النَّسخ؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء:8]، فالأصل بقاء الأحكام، كما قال ابنُ عباسٍ وجماعة، أظهر في شرعية ذلك إذا حضروا القسمةَ يُعطون ما يسَّر اللهُ من ذلك: من نقودٍ، أو طعامٍ يُصنع، أو ما أشبه ذلك .....

فالمقصود أنَّهم يُواسون بشيءٍ: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8] يعني: هذا المال الذي يُقسم، وظاهره أنَّه يعمّ المكلَّفين والصِّغار؛ لأنَّه مُشتركٌ، ويحتمل أن يُقال أنَّ ذلك يكون من باب المكلَّفين المرشدين فقط، ولكن ظاهر الآية العموم؛ لأنه شيء لا يضرّ الجميع، شيء خفيفٌ لا يضرّ الجميع، والأصل عدم النَّسخ. نعم.

وروى ابنُ أبي حاتم عن أبي سعيدٍ الأشجّ، عن إسماعيل بن عُلية، عن يونس بن عبيد، عن ابن سيرين قال: ولي عبيدةُ وصيةً، فأمر بشاةٍ فذُبِحَتْ، فأطعم أصحابَ هذه الآية، وقال: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي.

وقال مالكٌ فيما يُروى عنه من التَّفسير في جزءٍ مجموعٍ عن الزُّهري: أنَّ عروة أعطى من مال مصعب حين قسم ماله.

وقال الزهري: هي محكمة.

وقال مالك: عن عبدالكريم، عن مجاهدٍ قال: هي حقٌّ واجبٌ ما طابت به الأنفس.

ذكر مَن ذهب إلى أنَّ ذلك أمرٌ بالوصية لهم:

قال عبدُالرزاق: أخبرنا ابنُ جريج: أخبرني ابنُ أبي مليكة: أنَّ أسماء بنت عبدالرحمن ابن أبي بكر الصِّديق والقاسم بن محمد أخبراه: أنَّ عبدالله بن عبدالرحمن ابن أبي بكر قسم ميراثَ أبيه عبدالرحمن وعائشة حيَّة. قالا: فلم يدع في الدار مسكينًا ولا ذا قرابةٍ إلا أعطاه من ميراث أبيه. قالا: وتلا وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى.

قال القاسم: فذكرتُ ذلك لابن عباسٍ، فقال: ما أصاب، ليس ذلك له، إنما ذلك إلى الوصية، وإنما هذه الآية في الوصية، يُريد الميت يُوصي لهم. رواه ابنُ أبي حاتم.

ذكر مَن قال: هذه الآية منسوخة بالكليَّة:

قال سفيانُ الثَّوري: عن محمد بن السَّائب الكلبي، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ قال: منسوخة.

وقال إسماعيلُ بن مسلم المكّي: عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ قال في هذه الآية: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى نسختها الآيةُ التي بعدها: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النساء:11].

وقال العوفي: عن ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض، فأنزل اللهُ بعد ذلك الفرائض، فأعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، فجُعلت الصَّدقةُ فيما سمَّى المتوفَّى. رواهنَّ ابنُ مردويه.

وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا الحسنُ بن محمد بن الصّباح: حدَّثنا حجاج، عن ابن جريج. وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباسٍ في قوله: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ نسختها آيةُ الميراث، فجعل لكل إنسانٍ نصيبه مما ترك الوالِدانِ والأقربون مما قلَّ منه أو كَثُرَ.

الشيخ: وهذا فيه نظر مثلما تقدم؛ لأنَّ الآيةَ في حضور القسمة، والقسمة موجودة، القسمة بين الورثة، إذا حضروها -قسمة الأموال بين الورثة- ودعوى أنَّ الآية منسوخةٌ بالآية التي بعدها ليس بظاهرٍ؛ لأنَّ المقصودَ هو ما بيَّنه الله في آية المواريث، المقصود: المال الذي ورثه الميتُ يُقسّم بين الورثة، فالآية في الشَّيء المقسوم الذي بيَّنه اللهُ لعباده وأرشدهم إليه، فإذا كان القسمُ بحضرة أيتامٍ أو فُقراء أو قرابات رُزِقُوا ما يسَّر الله من ذلك مما يراه القائمون على القسمة، ليس فيه تحديدٌ.

س: .............؟

ج: الأقرب والله أعلم أنَّه عن الأحياء؛ لأنَّه صار مالهم، صال المالُ مالهم؛ لأنَّ النفوسَ قد تعلّقت بذلك ..... برزقهم ..... وليمة أو شيء مما ينفعهم ولا يضرّ أهل الميراث.

س: نقلُ أكثر من رأيٍ عن ابن عباسٍ؟

ج: اجتهادٌ، ويختلف الاجتهاد ويتنوع الاجتهاد إذا صحَّ.

س: هذا على الوجوب، أو على الاستحباب؟

ج: مثلما تقدَّم فيه خلافٌ، والأصل في الأوامر الوجوب، هذا هو الأصل.

وحدَّثنا أسيدُ بن عاصم: حدَّثنا سعيدُ بن عامر، عن همام: حدَّثنا قتادةُ، عن سعيد بن المسيّب أنَّه قال: إنها منسوخة، كانت قبل الفرائض، كان ما ترك الرجلُ من مالٍ أُعطي منه اليتيمُ والفقيرُ والمسكينُ وذوو القُربى إذا حضروا القسمةَ، ثم نُسخ بعد ذلك، نسختها المواريثُ، فألحق اللهُ بكل ذي حقٍّ حقَّه، وصارت الوصيةُ من ماله، يُوصي بها لذوي قرابته حيث شاء.

وقال مالكٌ: عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب: هي منسوخة، نسختها المواريثُ والوصية.

وهكذا رُوِيَ عن عكرمة وأبي الشَّعثاء والقاسم بن محمد وأبي صالح وأبي مالك وزيد بن أسلم والضَّحاك وعطاء الخراساني ومُقاتل بن حيان وربيعة ابن أبي عبدالرحمن أنَّهم قالوا: إنها منسوخة.

وهذا مذهب جمهور الفُقهاء والأئمّة الأربعة وأصحابهم.

وقد اختار ابنُ جريرٍ هاهنا قولًا غريبًا جدًّا، وحاصله أنَّ معنى الآية عنده: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي: وإذا حضر قسمةَ مال الوصية أولو قرابة الميت فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لليتامى والمساكين إذا حضروا قَوْلًا مَّعْرُوفًا. هذا مضمون ما حاوله بعد طول العبارة والتَّكرار، وفيه نظرٌ، والله أعلم.

الشيخ: نعم مثلما قال المؤلفُ فيه نظر، ليس بجيدٍ حمله على الوصية، ثم اليتامى ..... ليس بجيدٍ، والأظهر في هذا هو قول الأقلّ: أنها على ظاهرها، يُعطون ما يسَّر الله، فالأصل عدم النَّسخ، وإن كان قال الجمهورُ بالنَّسخ، نعم إذا قُسمت المواريث وهناك حضورٌ لغير أصحاب المواريث فليُرزقوا من ذلك: إمَّا طعامًا يُصنع يأكلون معهم فيه، أو غير ذلك مما يكون فيه نوعٌ من الرِّزق.

س: يُؤخذ من مال الصِّغار والكبار جميعًا؟

ج: الظَّاهر العموم، نعم، شيء يسيرٌ لا يضرّ الجميع.

س: .............؟

ج: الوصية لها شأنٌ آخر، ما لها تعلُّقٌ بهذا، الوصية لها شأنٌ آخر ..... يُوصي بالثلث فأقلّ، ليس له إلا الثلث فأقلّ، هذا مأخوذٌ من أدلةٍ أخرى ما لها تعلُّقٌ بالآية.

..............

وقال العوفي: عن ابن عباسٍ: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ هي قسمة الميراث.

وهكذا قال غيرُ واحدٍ، والمعنى على هذا لا على ما سلكه ابنُ جريرٍ رحمه الله، بل المعنى أنَّه إذا حضر هؤلاء الفُقراء من القرابة الذين لا يرثون واليتامى والمساكين قسمةَ مالٍ جزيلٍ، فإنَّ أنفسَهم تتوق إلى شيءٍ منه إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ، وهم يائسون لا شيء يُعطونه، فأمر الله تعالى وهو الرَّؤوف الرَّحيم أن يُرضخ لهم شيءٌ من الوسط يكون برًّا بهم، وصدقةً عليهم، وإحسانًا إليهم، وجبرًا لكسرهم.

الشيخ: وهذا من المؤلف اختيارٌ لقول الأقلّ، وهو أنها غير منسوخةٍ.

كما قال الله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، وذمَّ الذين ينقلون المالَ خُفيةً خشيةَ أن يطَّلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة، كما أخبر عن أصحاب الجنَّة: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [القلم:17] أي: بليلٍ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ۝ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ [القلم:23- 24]، فـدَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10]، فمَن جحد حقَّ الله عليه عاقبه في أعزِّ ما يملكه؛ ولهذا جاء في الحديث: ما خالطت الصَّدقةُ مالًا إلا أفسدته أي: منعها يكون سببَ محقِّ ذلك المال بالكليَّة.

وقوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ الآية [النساء:9].

قال عليُّ ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ: هذا في الرجل يحضره الموت، فيسمعه رجلٌ يُوصي بوصيةٍ تضرّ بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتَّقي الله ويُوقفه ويُسدده للصَّواب، فينظر لورثته كما كان يُحبّ أن يُصنع بورثته إذا خشي عليهم الضَّيعة.

وهكذا قال مجاهدٌ وغيرُ واحدٍ.

وثبت في "الصحيحين" أنَّ رسولَ الله ﷺ لما دخل على سعد بن أبي وقاصٍ يعوده قال: يا رسول الله، إني ذو مالٍ، ولا يرثني إلا ابنةٌ، أفأتصدَّق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: فالشَّطر؟ قال: لا، قال: فالثُّلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، ثم قال رسولُ الله ﷺ: إنَّك إن تذر ورثتَك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفَّفون الناس.

وفي "الصحيح" عن ابن عباسٍ قال: لو أنَّ الناس غضّوا من الثلث إلى الربع؛ فإنَّ رسولَ الله ﷺ قال: الثلث، والثلث كثير.

قال الفقهاءُ: إن كان ورثةُ الميت أغنياء استُحبَّ للميت أن يستوفي في وصيَّته الثلث، وإن كانوا فقراء استُحبَّ أن ينقص الثلث.

وقيل: المراد بالآية فليتَّقوا الله في مُباشرة أموال اليتامى، ولا يأكلوها إسرافًا وبدارًا أن يكبروا. حكاه ابن جريرٍ من طريق العوفي، عن ابن عباسٍ.

وهو قولٌ حسنٌ يتأيَّد بما بعده من التَّهديد في أكل أموال اليتامى ظلمًا، أي: كما تُحبّ أن تُعامل ذُريتك من بعدك، فعامل الناسَ في ذراريهم إذا وليتهم.

الشيخ: والآية ظاهرةٌ في الموصين أن يتَّقوا الله، وألا يحيفوا على الورثة، ولا سيما الضُّعفاء، فليس لهم إلا ما شرع الله من الثلث فأقلّ، فعليهم أن يتَّقوا الله، وليحذروا ظلمَ الورثة؛ فإنَّه إن يذرهم أغنياء خيرٌ من أن يذرهم عالةً يتكفَّفون الناس.

فالواجب على المالك الذي حضره الأجلُ أن يتَّقي الله، وألا يحيف في الوصايا، ولا في الأموال، بل يتَّقي الله في الورثة؛ ولهذا قال النبيُّ لسعدٍ: إنَّك أن تذر ورثتَك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفَّفون الناس، وليتحرَّ الخيرَ في وصيته، ويتَّقي الظلمَ للورثة بالحيل التي تحرمهم ما جعل اللهُ لهم: لا هذا، ولا هذا، يُوصي بالخير الذي ينفعهم -بالثلث فأقلّ- ويحذر ظلم الورثة في أخذ ما سوى ذلك.

س: إذا أوصى الميتُ ببناء مسجدٍ، وكان هذا المسجدُ يُكلِّف أكثر من الثلث من ماله؟

ج: إذا أوصى بعمارة مسجدٍ يعمر المسجد فقط، أمَّا إذا كان الثلثُ في إصلاح مسجدٍ ثم فضل شيءٌ يُصرف في مساجد أخرى.

ثم أعلمهم أنَّ مَن أكل أموالَ اليتامى ظلمًا، فإنما يأكل في بطنه نارًا؛ ولهذا قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] أي: إذا أكلوا أموالَ اليتامى بلا سببٍ فإنَّهم يأكلون نارًا تتأجَّج في بطونهم يوم القيامة.

وفي "الصحيحين" من حديث سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن سالم أبي الغيث، عن أبي هريرة: أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: اجتنبوا السَّبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هنَّ؟ قال: الشِّرك بالله، والسِّحر، وقتل النَّفس التي حرَّم اللهُ إلا بالحقِّ، وأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتَّولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات.

وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أبي: حدَّثنا عبيدة: أخبرنا عبدُالعزيز بن عبدالصمد العمّي: حدَّثنا أبو هارون العبدي، عن أبي سعيدٍ الخدري قال: قلنا: يا رسول الله، ما رأيتَ ليلةَ أُسْرِيَ بك؟ قال: انطُلِقَ بي إلى خلقٍ من خلق الله كثيرٍ، رجال كل رجلٍ منهم له مشفران كمشفري البعير، وهو مُوكّل بهم رجالٌ يفكّون لحاء أحدهم.

الشيخ: قف على ابن أبي حاتم.