تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ..}

قال تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الآية [النساء:22] يُحرِّم الله تَعَالَى زَوْجَاتِ الْآبَاءِ تَكْرِمَةً لَهُمْ، وَإِعْظَامًا وَاحْتِرَامًا أَنْ تُوطَأَ مِنْ بَعْدِهِ، حَتَّى إِنَّهَا لَتَحْرُمُ عن الِابْنِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبيع: حدَّثنا أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسٍ –يَعْنِي: ابْنَ الْأَسْلَتِ- وَكَانَ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ، فَخَطَبَ ابْنُهُ قَيْسٌ امْرَأَتَهُ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا أعُدُّكَ وَلَدًا، وَأَنْتَ مِنْ صَالِحِي قَوْمِكَ، وَلَكِنْ آتِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَسْتَأْمِرُهُ. فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا قَيْسٍ تُوُفِّيَ. فَقَالَ: خَيْرًا، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّ ابْنَهُ قَيْسًا خَطَبَنِي، وَهُوَ مِنْ صَالِحِي قَوْمِهِ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَعُدُّهُ وَلَدًا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إلى بيتِكِ، قال: فنزلت: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي قَيْسِ ابْنِ الْأَسْلَتِ خَلَفَ عَلَى أُمِّ عُبَيْدِاللَّهِ ضمرة، وَكَانَتْ تَحْتَ الْأَسْلَتِ أَبِيهِ، وَفِي الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ خَلَفَ عَلَى ابْنَةِ أَبِي طَلْحَةَ ابْنِ عَبْدِالْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِالدَّار، وكانت عِنْدَ أَبِيهِ خَلَفٍ، وَفِي فَاخِتَةَ ابْنَةِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ كَانَتْ عِنْدَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَخَلَفَ عَلَيْهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ.

الشيخ: المقصود أنَّ الآية الكريمة واضحةٌ في التَّحريم، يقول الله جلَّ وعلا: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ هذا عامٌّ، النِّكاح يُطلَق على العقد غالبًا، ويُطلق على الوطء، المقصود هنا العقد، فجميع الآباء زوجاتهم مُحرَّمات على الأولاد، سواء كانوا أدنين أو أقصين: الآباء والأجداد جميعًا؛ من جهة الأب، ومن جهة الأم، كلّهم آباء: زوجة جدِّه من أبيه، جدّه من أُمّه، كلّهنَّ مُحرَّمات بالإجماع، كلهنَّ من المحرَّمات بالأبدية، نعم.

وَقَدْ زَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ نِكَاحَ نِسَاءِ الْآبَاءِ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، كَمَا قَالَ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23].

قَالَ: وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ كِنَانَةُ بْنُ خُزَيْمَةَ، تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ، فَأَوْلَدَهَا ابْنَهُ النَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ. قَالَ: وَقَدْ قَالَ ﷺ: وُلِدْتَ مِنْ نِكَاحٍ، لَا مِنْ سِفَاحٍ. قَالَ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ سَائِغًا لَهُمْ ذلك، فإن أراد أنَّهم كانوا يَعُدُّونَهُ نِكَاحًا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ الْمُخَرَّمِيُّ: حدَّثنا قراد: حدَّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا امْرَأَةَ الْأَبِ وَالْجَمْعَ بَيْنَ الأُختين، فأنزل الله تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.

وَهَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ، وَلَكِنْ فِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ مِنْ قصّة كنانة نظر، والله أعلم، وعلى كل تقديرٍ فهو حرامٌ في هذه الآية، مُبَشَّعٌ غاية التَّبَشُّع.

الشيخ: المقصود أنَّ ما قد سلف قد عفا اللهُ عنه، سواء كان مأذونًا أم غير مأذونٍ، الماضي قد مضى، والإسلام يهدم ما كان قبله، وقد يكون مثلما قال جماعةٌ: كان مُباحًا لهم على شريعةٍ مضت، قد يكون مباحًا في شريعة إبراهيم التي ساروا على إثرها، وقد يكون مما تساهلوا فيه، فالله جلَّ وعلا عفا عمَّا مضى، واستقرَّ تحريمُ الشَّريعة للأُختين -الجمع بين الأُختين- ولزوجات الآباء مطلقًا.

ولهذا قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]، وَقَالَ: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، وقال: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، فَزَادَ هَاهُنَا: وَمَقْتًا أَيْ: بُغْضًا، أَيْ: هُوَ أَمْرٌ كَبِيرٌ فِي نَفْسِهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى مَقْتِ الِابْنِ أَبَاهُ بَعْدَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَتِهِ؛ فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ يُبْغِضُ مَنْ كَانَ زَوْجَهَا قَبْلَهُ؛ وَلِهَذَا حُرِّمَتْ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتٌ؛ لِكَوْنِهِنَّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ ﷺ، وهو كالأب، بَلْ حَقُّهُ أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ الْآبَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ حُبُّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حُبِّ النُّفُوسِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ عَطَاءُ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَقْتًا أَيْ: يَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَسَاءَ سَبِيلًا أَيْ: وَبِئْسَ طَرِيقًا لِمَنْ سَلَكَهُ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَعَاطَاهُ بَعْدَ هَذَا فَقَدِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ، فَيُقْتَلُ وَيَصِيرُ مَالُهُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ خَالِهِ أَبِي بُرْدَةَ -وَفِي رِوَايَةٍ: ابْنِ عُمَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَنْ عَمِّهِ- أَنَّهُ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ.

الشيخ: وهذه قاعدةٌ: كون مَن استحلَّ ما حرَّم الله يكون مُرتدًّا إذا استحلَّ ذلك: زوجة الأب، أو الزنا، أو الخمر، أو غير ذلك، فمَن استحلَّ ما حرَّم الله -ومثله لا يخفى- يكون مُرتدًّا، فإن كان جاهلًا يُعلَّم، وهكذا مَن اعتقد إسقاطَ ما أوجب الله من الأمور المعروفة من الدِّين بالضَّرورة: كأن يعتقد عدم وجوب الزكاة، عدم وجوب الصلاة، عدم وجوب صوم رمضان مع القُدرة، كل هؤلاء حكمهم حكم الردّة، إلا مَن قد يشتبه عليه الأمر، هذا يُبَيَّن له ويُوضَّح له. نعم.

س: يُحمل على الاستحلال؟

ج: إيه، نعم، على كل حالٍ ما في شكّ الذي قد يجهل معروف، نعم.

س: مَن استحلَّ الصَّغائر؟

ج: لا، المقصود أنَّه لا بدَّ أن يكون مُجْمَعًا عليه، حكمه مجمعٌ عليه، نعم.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مَرَّ بِي عَمِّي الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو وَمَعَهُ لِوَاءٌ قَدْ عَقَدَهُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْ عَمِّ، أَيْنَ بَعَثَكَ النبيُّ؟ قَالَ: بَعَثَنِي إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ.

.............

مَسْأَلَةٌ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ مَنْ وَطِئَهَا الْأَبُ بِتَزْوِيجٍ أو ملكٍ أو شُبهةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ بَاشَرَهَا بِشَهْوَةٍ دُونَ الْجِمَاعِ.

الشيخ: لأنَّ النِّكاحَ يشمل العقدَ، ويشمل الوطء، إذا كان الوطءُ بملك يمينٍ، مثل: النِّكاح، أو شُبهة: كأن وطئها يظنّها زوجته، أو عقد عليها عقدًا فاسِدًا.

أَوْ نَظَرَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْهَا لَوْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً، فَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تَحْرُمُ أَيْضًا بِذَلِكَ.

وقد روى الحافظُ ابن عساكر في ترجمة خديج الحمصي مَوْلَى مُعَاوِيَةَ، قَالَ: اشْتَرَى لِمُعَاوِيَةَ جَارِيَةً بَيْضَاءَ جميلةً، فأدخلها عليه مجرَّدةً، وَبِيَدِهِ قَضِيبٌ، فَجَعَلَ يَهْوِي بِهِ إِلَى مَتَاعِهَا وَيَقُولُ: هَذَا الْمَتَاعُ لَوْ كَانَ لَهُ مَتَاعٌ! اذْهَبْ بِهَا إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. ثُمَّ قَالَ: لَا، ادْعُ لِي رَبِيعَةَ بْنَ عَمْرٍو الحرسي. وَكَانَ فَقِيهًا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ أُتِيتُ بِهَا مُجَرَّدَةً، فَرَأَيْتُ مِنْهَا ذَاكَ وَذَاكَ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَبْعَثَ بِهَا إِلَى يَزِيدَ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ. فَدَعَوْتُهُ، وَكَانَ آدَمَ شَدِيدَ الْأُدْمَةِ، فَقَالَ: دُونَكَ هَذِهِ، بَيِّضْ بِهَا ولدك. قال: وكان عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعَدَةَ هَذَا وَهَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، فَرَبَّتْهُ، ثُمَّ أَعْتَقَتْهُ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مع معاوية من الناس على عليٍّ .

الشيخ: الأقرب والله أعلم والأظهر أنَّها لا تحرم إلا بالنِّكاح، نعم، وهذا الأثرُ فيه نظر؛ ابنُ عساكر يروي الغثَّ والسَّمين.

س: أشار إلى متاعِها؟

ج: فرجها؛ لأنَّه يُستمتع به: "هذا المتاع لو كان له متاع" يعني: لو كان عند معاوية قوّة وقُدرة، كأنَّه ضعف في آخر حياته؛ لأنَّه بلغ الثَّمانين ، إن صحَّت الحكاية، والحكاية بعيدة، الحكاية الظَّاهر أنها موضوعة، "تاريخ ابن عساكر"، ابن عساكر مُتأخِّر، وأسانيده يقلُّ فيها الصَّحيح، ثم يُستبعد أن يدخل بها عاريةً، كيف يكون هذا؟! كيف يُباح أن تدخل امرأةٌ على رجلٍ عاريةً؟! بعيدٌ هذا، هذا والله أعلم أثرٌ موضوعٌ.

...........