تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ۝ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ۝ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [النساء:49- 52].

قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18].

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَفِي قَوْلِهِمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111].

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يُقَدِّمُونَ الصِّبْيَانَ أَمَامَهُمْ فِي الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ يَؤُمُّونَهُمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا ذَنْبَ لَهُمْ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وأبو مالك، وروى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ.

الشيخ: الآية عامَّة في المعنى في كلِّ مَن يُزَكِّي نفسَه، فالله جلَّ وعلا هو الذي يعلم حالَه، هو الذي يُزَكِّي مَن يشاء، والمؤمن عليه أن يسأل ربَّه التوفيق، وأن يجتهد بطاعة الله، ويُزري على نفسه ويتَّهمها ولا يُزَكِّيها، بل لا يزال يُحاسبها ويُجاهدها لعله ينجو، والله هو الذي يُزَكِّي مَن يشاء ، مَن زكَّاه الله فهو الزَّكِيّ.

وأمَّا قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا [الشمس:9] يعني: أقامها على الطريق، زكَّاها يعني: بطاعة الله واتِّباع شريعته. وقال قومٌ: زكَّاها ..... يعني: يُزكِّيها الله، ولا مُنافاة، فالله هو المزكِّي بتوفيقه وهدايته، والعبد يُنْسَب إليه الفعل بطاعة الله، زكَّى نفسَه بطاعة الله، كما في الآية الأخرى: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى [الأعلى:14] يعني: بطاعة الله واتِّباع شريعته.

فالعبد يجتهد في تزكية نفسه وفي إدخال الخير إليها، ولكن لا يمنّ، ولا يعجب، ولا يدَّعي، ولكن يجتهد في تزكيتها بطاعة الله، والحذر من تدسيتها بالمعاصي، ويسأل ربَّه التوفيق والقبول.

أما هؤلاء الضَّالون المجرمون المغضوب عليهم؛ فهم أهل كل بلاءٍ، ومع هذا يُزكُّون أنفسَهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، قال اللهُ تعالى: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، الجنَّة ما هي بالأماني، ولا بالدّعاوى، الجنة بالعمل والإيمان والتَّقوى؛ ولهذا قال : تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، وفي الآية الأخرى قال: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:18]، فالعبد لا يُزَكِّي نفسَه، ولكن يجتهد في إصلاحها، وفي إبعاد الشَّر عنها، هذا هو واجبه، والتَّوفيق بيد الله .

وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إِنَّ أَبْنَاءَنَا تُوُفُّوا، وَهُمْ لَنَا قُرْبَةٌ، وَسَيَشْفَعُونَ لَنَا ويُزَكُّوننا، فأنزل اللهُ على محمدٍ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ. ورَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى: حَدَّثَنَا ابنُ حمير، عن ابن لهيعة، عن بشر ابْنِ أَبِي عَمْرَة، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ اليهودُ يُقدمون صِبْيَانَهُمْ يُصَلُّونَ بِهِمْ، وَيُقَرِّبُونَ قُرْبَانَهُمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا خَطَايَا لَهُمْ وَلَا ذُنُوبَ، وَكَذَبُوا، قَالَ الله: إِنِّي لَا أُطَهِّرُ ذَا ذَنْبٍ بِآخَرَ لَا ذَنْبَ لَهُ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ.

الشيخ: نعم، نعم، كل إنسانٍ عمله له.

مُداخلة: في السَّند بشير ابن أبي عمرو.

الشيخ: والذي عندك أيش هو؟

قارئ المتن: عن بشر ابن أبي عمرة.

الشيخ: انظر "التقريب": بشر وبشير: بشر ابن أبي عمرة، وبشير ابن أبي عمرو. و"الخلاصة" كذلك.

...........

الطالب: بشير ابن أبي عمرو، الخولاني، أبو الفتح، المصري، ثقة، من السابعة. (البخاري في "خلق أفعال العباد").

الشيخ: صلّحه على: بشير ابن أبي عمرو.

ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَالسُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ نَحْوُ ذَلِكَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَالُوا: لَيْسَ لَنَا ذُنُوبٌ كما ليس لأبنائنا ذنوبٌ. فأنزل اللَّهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فِيهِمْ.

وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ذَمِّ التَّمَادُحِ وَالتَّزْكِيَةِ.

الشيخ: الأقرب في هذا أنَّ المراد تزكيتهم هم، ما هو أولادهم، الأقرب أنَّ المراد تزكيتهم؛ لما ذكر اللهُ عنهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، ما نصَّ اللهُ عليه هو المراد، وليس خاصًّا بهم، الآية عامَّة، حتى ولو كان السببُ معروفًا الآية عامَّة.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ نَحْثُوَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي بكرةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَمِعَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: وَيْحَكَ! قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُهُ كَذَا، وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نُعَيْمِ ابْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ عَالِمٌ، فَهُوَ جَاهِلٌ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ فِي الْجَنَّةِ، فَهُوَ فِي النَّارِ.

وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِرَأْيِهِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ عَالِمٌ، فَهُوَ جَاهِلٌ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي الْجَنَّةِ، فَهُوَ فِي النَّارِ.

الشيخ: انظر نعيم ابن أبي هند، الظَّاهر أنَّه منقطع، والثاني ضعيفٌ: موسى بن عبيدة ليس بشيءٍ، والأول نعيم ابن أبي هند لم يُدرك عمر.

الطالب: نعيم ابن أبي هند، النّعمان بن أشيب، الأشجعي، ثقة، رُمِيَ بالنَّصْبِ، من الرابعة، مات سنة عشرٍ ومئة. (البخاري تعليقًا، ومسلم، وأبو داود في "المراسيل").

الشيخ: مُنقطع؛ لأنَّه ما أدرك عمر، وهو غريبٌ عن عمر، هذا اللَّفظ غريبٌ عن عمر، والمقصود التَّحذير من التَّزكية، ولكن قوله: "مَن قال: هو مؤمن، فهو كافر" محل نظرٍ، والظَّاهر أنَّ نعيمًا رواه عمَّن لا يُوثق به.

وأما السَّند الثاني ففيه موسى بن عبيدة الضّمري، ليس بشيءٍ، وكان السلفُ يتورَّعون من هذا، بعضهم يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وبعضهم يقول: مؤمن بالله وباليوم الآخر، مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. هذا هو الأحوط ..... إن شاء الله، يردّ المشيئة إلى استكمال الإيمان يعني، نعم، وليس هذا باستثناء، ولكن من باب الإزراء على النفس، من باب الحيطة، فنحن في إيماننا نستثني من غير شكٍّ، كما قال السَّفاريني.

س: هذا من باب تزكية النَّفس؟

ج: نعم، الإطلاق من باب التزكية، ثم المؤمن يحتاط فيقول: أنا مؤمنٌ إن شاء الله.

س: ...........؟

ج: هذا يقوله السلفُ من باب التَّواضع، من باب ردِّ المشيئة إلى الكمال -كمال الإيمان- أو يقول: أنا مؤمنٌ بالله وباليوم الآخر، أنا مؤمنٌ بالله وملائكته وكتبه ورسله. إذا سُئل، مع أنَّ السؤال ما ينبغي، السؤال: أنت مؤمن؟ أو ما أنت مؤمن؟ ما ينبغي هذا السؤال: هل أنت مؤمن؟ لكن بعض الناس قد يطرحه.

س: بعض الناس إذا أُنكر عليهم شيءٌ قال: أنا أصلي، وأنا كذا وكذا، هل يدخل في هذا؟

ج: لا، هذا ردٌّ للحقِّ، كونه يُصلي ما يمنع، كونه يُنكر عليه المنكر هذا شيء ثانٍ، هذا معناه يرد مَن أنكر عليه الباطل! بل يقول: جزاك الله خيرًا، نسأل الله العون، نسأل الله الهداية، هكذا إذا أُنكر عليه منكرٌ يقول: جزاك الله خيرًا، ادعُ اللهَ لي بالهداية، أسأل الله أن يُعينني، أستغفر الله، ويتوب إلى الله.

س: يكون متنُه منكرًا؟

ج: ضعيف، ضعيف، مُنكر المتن.

س: ما ورد عن النبي ﷺ أنَّه مرَّت جنازتان، فقال أصحابُه على صاحب الأولى، مدحوه، فقال: وجبت؟

ج: هذا في الصَّحيح، ثابتٌ في الصَّحيح: مُرَّ عليه بجنازةٍ فأثنوا عليها خيرًا، فقال: وجبت، ومُرَّ عليه بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال: وجبت، قيل: يا رسول الله، ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتُم عليه خيرًا فوجبت له الجنَّة، وهذا أثنيتُم عليه شرًّا فوجبت له النَّار، أنتم شُهداء الله في الأرض، احتجَّ بهذا جماعةٌ على أنَّ مَن شهد له الناسُ بالخير ومَن شهد له العدولُ فهو من أهل الجنة؛ ولهذا قال بعضُهم في الإمام أحمد وجماعة من السَّلف: إنَّهم في الجنة؛ لأنَّهم شُهِدَ لهم بالخير، ولكن المعروف عند أهل السُّنة أنهم لا يشهدون لأحدٍ إلَّا لمن شهد اللهُ له أو الرسول خاصَّة عليه الصلاة والسلام، كما في "العقيدة الواسطية" وغيرها: لا نشهد لأحدٍ بجنةٍ ونارٍ إلا مَن شهد الله له، أو شهد له الرسولُ ﷺ: كأبي لهبٍ من أهل النار، وأبي طالبٍ من أهل النار، والعشرة من أهل الجنة: كالخلفاء الراشدين، وغير العشرة، وعبدالله بن سلام، وثابت بن قيس بن شماس، كلّ مَن شهد له الرسولُ ﷺ: عكاشة بن محصن. لكن كل مؤمنٍ في الجنَّة على العموم، وكل كافرٍ في النار، هذا على العموم.

س: الذي يُرى منه الصَّلاح أليس الأولى أن يُقال أنَّه يُرجى له الجنَّة؟

ج: الرجاء طيب، الرجاء ما فيه كلام .....، الخلاف في الشَّهادة بالعين: فلان من أهل الجنة، وفلان من أهل النار.

س: ...........؟

ج: هذا في سنده نظر، لكن على العموم اليهود في النَّار، والكفَّار في النار، هذا يقينٌ، لكن فلان ابن فلان محلّ نظرٍ، إن مات على الكفر فهو من أهل النَّار.

س: قوله: احثوا في وجوه المدَّاحين التُّراب على ظاهره؟

ج: على ظاهره، أقول: على ظاهره؛ ولهذا وقع عند عثمان أن مدح إنسانٌ عثمانَ، فحثى عليه المقدادُ الترابَ، فقال عثمانُ: ما شأنك؟ فقال: إني سمعتُ الرسول ﷺ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَحَجَّاجٌ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ قَلَّمَا كان يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. قَالَ: وَكَانَ قَلَّمَا يَكَادُ أَنْ يَدَعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِنَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، يَقُولُ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوٌ خَضِرٌ، فَمَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ؛ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ.

الشيخ: لأنَّه قد تغرّه نفسُه بالتَّمادح، يُعجب بها فيهلك، انظر: معبد الجهني، الحديث هذا مخرّج في "الصَّحيحين": قال النبيُّ ﷺ: مَن يُرد اللهُ به خيرًا يُفقهه في الدِّين، هذه جملة عظيمة.

س: وبقية المتن؟

ج: كلّه صحيحٌ، وأيش بعده؟

وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوٌ خَضِرٌ، فَمَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ.

الشيخ: جاء في الصَّحيح: ومَن يأخذه بغير حقِّه لم يُبارك له فيه، وكان كالَّذي يأكل ولا يشبع، نسأل الله العافية.

س: قول النبي ﷺ لأشجّ عبدالقيس: إنَّ فيك خصلتين يُحبُّهما اللهُ ورسولُه: الحلم والأناة، هذا مدحٌ؟

ج: نعم، هذا يدل على جواز المدح القليل، مثل قوله في عمر: ما سلكتَ فَجًّا إلَّا سلك الشَّيطانُ فجًّا غير فجِّك، وأشياء جاءت عن النبي في المدح بالوجه، القليل لا بأس به، لكن لا يُسرف، لا يُكثر.

الطالب: معبد بن خالد الجهني، القدري، ويقال أنَّه ابن عبدالله بن عكيم. ويقال: اسم جدّه عُويمر، صدوق، مُبتدع، وهو أول مَن أظهر القدر بالبصرة، من الثالثة، توفي سنة ثمانين. (التمييز).

الشيخ: الذي قبله؟

الطالب: الذي قبله: معبد بن خالد الجهني، صحابي، أحد مَن حمل ألوية جهينة يوم الفتح، وله رواية عن أبي بكر وغيره، مات سنة اثنتين وسبعين. (التمييز).

الشيخ: والذي قبله؟

الطالب: الذي قبله: معبد بن خالد بن أنس، مجهول، من شيوخ .....

الشيخ: غيره؟

الطالب: ما في غيره.

الشيخ: الجهني فقط.

الطالب: ما في إلا اثنين.

الشيخ: أعدهم.

الطالب: الأول: معبد بن خالد الجهني، صحابي، أحد مَن حمل ألوية جهينة يوم الفتح، وله رواية عن أبي بكر وغيره، مات سنة اثنتين وسبعين. (التمييز).

الثاني: معبد بن خالد الجهني، القدري، ويقال: أنَّه ابن عبدالله بن عكيم. ويقال: اسم جدّه عويمر. صدوق، مبتدع، وهو أول مَن أظهر القدر بالبصرة، من الثالثة، توفي سنة ثمانين. (التمييز).

مُداخلة: أحسن الله إليك، في "الخلاصة" رمز له إلى ابن ماجه.

الشيخ: الثاني؟

الطالب: معبد الجهني، قال: معبد الجهني، البصري، عن معاوية، وعنه الحسن وقتادة، وثَّقه ابنُ معين، وضعَّفه أبو زرعة، قال أبو حاتم: وهو أول مَن تكلم بالقدر، وكان صدوقًا في الحديث. قال سعيد بن عفير: قتله عبدُالملك وصلبه بدمشق سنة ثمانين. (ابن ماجه).

مُداخلة: أحسن الله إليك، بيَّنه الحافظُ بعد سطرين.

الشيخ: نعم، نعم، كمل.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْهُ: إِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ؛ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِهِ. وَمَعْبَدٌ هَذَا هُوَ ابْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُوَيْمٍ، الْبَصْرِيُّ، الْقَدَرِيُّ.

الشيخ: وإنما ساقه هنا لأجل: إيَّاكم والتَّمادح، وإلا فأصل الحديث في "الصَّحيحين": مَن يُرد اللهُ به خيرًا يُفقهه في الدِّين، وإنما أنا قاسمٌ، والله المعطِي، ولا تزال هذه الأُمَّة قائمة على أمر الله، لا يضرّها مَن خالفها حتى يأتي أمرُ الله.

س: حديث معبد صحيحٌ؟

ج: لا بأس به، هو صدوق، إذا كان ما يتعلَّق بالقدر فهو صدوق، نعم، إذا كان ما يتعلَّق ببدعته.

............

الشيخ: ..... اشتهر عنه القدر بعد ذلك؛ ولهذا قتله عبدُالملك، كان أولًا عنده تَنَسُّكٌ وعبادةٌ، ثم ابتُلِيَ بالشَّكِّ في القدر.

س: كيف تُقبل روايته وهو رأسٌ في القدر؟

ج: ما لها تعلُّقٌ بروايته: إيَّاكم والتَّمادح ما لها تعلُّقٌ، ما لها شيءٌ، ما فيها شيءٌ ينصر القدر .....

س: صدوق .....؟

ج: نعم، صدوقٌ في نفسه، لكن البدعة هي التي أوجبت ردّ حديثه بالنسبة إلى ما يتعلّق ببدعته، هذه قاعدة: المبتدع الصَّدوق المعروف لا تُقبل روايته فيما يقوي بدعتَه، لكن إذا كان داعيةً لا يُروى عنه بالكليَّة، ولعلَّ مَن روى عنه من الأئمّة كان قبل أن يُظهر البدعة سابقًا.

س: بدعته ما هي مُكفِّرة؟

ج: نفي القدر، مُكفَّر، مَن نفى القدر فهو كافرٌ؛ لأنَّه مُكذِّبٌ لله، لكن إذا كان جاهلًا عاميًّا، ما يدعو إلى بدعته؛ أسهل، إذا كان صدوقًا، وقد يخفى، قد يشتبه عليهم الأمرُ.

وَقَالَ ابْنُ جريرٍ: حدَّثنا يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْدُو بِدِينِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ وَمَا مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، يَلْقَى الرَّجُلَ لَيْسَ يَمْلِكُ له نفعًا ولا ضرًّا، فيقول له: إنَّك والله كَيْتَ وَكَيْتَ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَرْجِعَ وَلَمْ يحظَ مِنْ حَاجَتِهِ بِشَيْءٍ، وَقَدْ أَسْخَطَ اللَّهَ. ثُمَّ قَرَأَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ.

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُطَوَّلًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ أَي: الْمَرْجِعُ فِي ذلك إلى الله ؛ لأنَّه أعلم بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَغَوَامِضِهَا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ: وَلَا يُتْرَكُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَجْرِ مَا يُوَازِنُ مِقْدَارَ الْفَتِيلِ.

الشيخ: لا يُظلم، ولا يحمل، لا يُظلم: لا بتحميل وزرٍ، ولا بنقصٍ من أجرٍ، ولا مقدار الفتيل، ولا النَّقير أيضًا: وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124]، نعم.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: هُوَ مَا يَكُونُ فِي شِقِّ النَّوَاةِ.

الشيخ: يعني الفتيل، نعم.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ مَا فَتَلْتَ بَيْنَ أَصَابِعِكَ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُتَقَارِبٌ.

وَقَوْلُهُ: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أَيْ: فِي تَزْكِيَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَقَوْلِهِمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، وَقَوْلِهِمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [آل عمران:24]، وَاتِّكَالِهِمْ عَلَى أَعْمَالِ آبَائِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْآبَاءِ لَا تُجْزِي عَنِ الأَبناء شَيْئًا فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134].

ثُمَّ قَالَ: وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا أي: وكفى بصنيعهم هَذَا كَذِبًا وَافْتِرَاءً ظَاهِرًا.

الشيخ: نسأل الله العافية، نسأل الله العافية، أمَّا الحديث المتقدّم أنَّه مُرَّ عليه بجنازةٍ فأثنوا عليها خيرًا وشرًّا، هذا لأنَّه ميِّتٌ، ما يضرّه هذا، أقرَّهم على الثَّناء؛ لأنَّه ميتٌ، الميت لا بأس أن يُثنى عليه، الخطر على الحيِّ، الثَّناء على الحيِّ هو الذي فيه الخطر، أما الثَّناء على الميت بما فعل من الخير أو ذمّه بما أظهر من الشَّر فهذا لا يضرّ.

س: مَن قال: يُحكم بالجنَّة والنَّار بالاستفاضة من أهل العدل؟

ج: هذا قول بعض السَّلف، لكن المعروف عند أهل السّنة: لا يُحكم بجنةٍ ولا نارٍ إلا لمن حكم اللهُ له أو رسوله، من المعيَّنين يعني، أمَّا العموم فكل مؤمنٍ في الجنة، وكل كافرٍ في النار على العموم.