تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي "مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ": حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا علي عُفَيْفُ بْنُ سَالِمٍ.

الشيخ: انظر عفيف بن سالم.

الطالب: في "الخلاصة": (عس) عفيف بن سالم الموصلي، أبو عمرو، الفقيه، عن عكرمة بن عمار ومسعر، وعنه محمد بن عبدالله بن عمار وعلي بن حجر، وثَّقه ابنُ معين وأبو داود، قال ابنُ عمار: مات سنة ثلاثٍ وثمانين ومئة.

الشيخ: احذف "علي": عفيف، ما في "علي".

الطالب: في "التقريب": عفيف بن سالم الموصلي، البجلي مولاهم، أبو عمرو، صدوق، من الثامنة، مات بعد الثَّمانين. (عس).

عن أيوب، عن عُتْبَةَ.

الشيخ: أيوب بن عتبة.

الطالب: في الأصل: أيوب بن عتبة، انظر: أيوب بن عتبة في "الخلاصة".

الطالب: (ق) أيوب بن عتبة اليمامي، قاضيها، أبو يحيى، عن عطاء ويحيى ابن أبي كثير، وعنه آدم ومحمود بن محمد، ضعَّفه أحمدُ في يحيى، قال خليفة: توفي سنة ستين ومئة.

عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: سَلْ وَاسْتَفْهِمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فُضِّلْتُمْ عَلَيْنَا بالصُّور والألوان والنُّبوة. ثم قال: أَفَرَأَيْتَ إِنْ آمَنْتُ بِمَا آمَنْتَ بِهِ، وَعَمِلْتُ بما عَمِلْتَ بِهِ، إِنِّي لَكَائِنٌ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيُضِيءُ بَيَاضُ الْأَسْوَدِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ.

الشيخ: هذه من غرائب أيوب ..... وأشباهه، نعم، الله المستعان.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَانَ لَهُ بِهَا عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، كُتِبَ لَهُ بِهَا مِئَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ نَهْلَكُ بَعْدَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَمَلِ لَوْ وُضِعَ عَلَى جَبَلٍ لَأَثْقَلَهُ، فَتَقُومُ النِّعْمَةُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ، فَتَكَادُ أَنْ تستنفد ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِلَى قَوْلِهِ: نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان:20]، فَقَالَ الْحَبَشِيُّ: وَإِنَّ عَيْنَيَّ لَتَرَيَانِ مَا ترى عيناك في الجنة؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَعَمْ، فَاسْتَبْكَى حَتَّى فَاضَتْ نَفْسُهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُدْلِيهِ فِي حُفْرَتِهِ بِيَدَيْهِ.

فِيهِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.

الشيخ: لا شكَّ أنَّه ضعيفٌ، أقول: لا شكَّ أنَّه ضعيفٌ، ومتنه مُنكر.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ [النساء:70] أَيْ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ برحمته، وهو الَّذِي أَهَّلَهُمْ لِذَلِكَ، لَا بِأَعْمَالِهِمْ.

وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا أَيْ: هُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ والتَّوفيق.

.............

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ۝ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ۝ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ۝ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:71- 74].

يأمر الله تعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّأَهُّبَ لَهُمْ بِإِعْدَادِ الْأَسْلِحَةِ وَالْعُدَدِ، وَتَكْثِيرِ العدد بالنَّفير في سبيل الله، ثُبَاتٍ أَيْ: جَمَاعَةً.

الشيخ: وهذا أيضًا يدل على وجوب الأخذ بالأسباب، وأنَّ مجرد السَّبب الإيماني لا يكفي، بل لا بدَّ مَن أخذ العُدَّة والتَّحرز من الأعداء من جميع الوجوه، الإيمان هو الأصل، ولكن الإيمان يأمر بهذه العُدَّة، فمن الإيمان الإعداد والحذر، كما قال جلَّ وعلا: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]؛ ولهذا كان النبيُّ ﷺ يأخذ العُدَّة، ويجعل المرابطين والحرس، كل ذلك من أجل أخذ الحذر، ولا يجوز لأهل الإسلام أن يتساهلوا في هذا الأمر، بل يجب أن يقوموا بالحذر، ويعدّوا العُدَّة حسب الطاقة: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، مأمورون بالمستطاع، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [الأنفال:60]، والباقي على الله جلَّ وعلا، هم عليهم أن يأخذوا بالأسباب في جميع الأمور: في قتال عدوهم، في حفظ حياتهم، في ستر عوراتهم، وأداء ما أوجب الله عليهم، وترك ما حرَّم الله عليهم، وصلة أرحامهم، وبرّ والديهم، وإكرامهم جيرانهم، إلى غير هذا، عليهم أن يأخذوا بالمستطاع في كل شيءٍ، فوعد الله وراء ذلك: هذا للجنة، وهذا للنار، لكن كلها مُقيدة بأسبابها، مربوطة بأسبابها، نعم.

يأمر الله تعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّأَهُّبَ لَهُمْ بِإِعْدَادِ الْأَسْلِحَةِ وَالْعُدَدِ، وَتَكْثِيرِ العدد بالنَّفير في سبيل الله، ثُبَاتٍ أَيْ: جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ، وَفِرْقَةً بَعْدَ فِرْقَةٍ، وَسَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةٍ. وَالثُّبَاتُ جَمْعُ ثُبَةٍ، وَقَدْ تُجْمَعُ الثُّبَةُ عَلَى ثُبِين.

قَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عباسٍ: قوله: فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَيْ: عُصَبًا، يَعْنِي: سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ، أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا يَعْنِي: كُلّكُمْ.

الشيخ: يعني على حسب المصلحة، وليُّ الأمر يُرتِّبهم ويُنَظِّمهم حسب المصلحة: تارةً تكون المصلحةُ في بعث السَّرايا وتوزيع الجيش فرقًا: هذا إلى جهةٍ، وهذا في جهةٍ، وهذا في جهةٍ، وتارةً تدعو الحاجةُ إلى أن يجتمعوا؛ لأنَّ عدوَّهم مجتمعٌ، فيجتمعوا له، وولي الأمر ينظر المصلحةَ في نفيرهم، والنبي ﷺ هكذا فعل؛ نفر إلى قريشٍ جماعةً، وهكذا يوم أحدٍ نفروا جميعًا؛ لأنَّ العدو جاء مجتمعًا، وأرسل السَّرايا عليه الصلاة والسلام، نعم.

وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَخُصَيْفٍ الْجَزَرِيِّ.

وَقَوْلُهُ تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ.

قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ.

وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَيُبَطِّئَنَّ أَيْ: لَيَتَخَلَّفَنَّ عَنِ الْجِهَادِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَتَبَاطَأُ هُوَ فِي نَفْسِهِ، وَيُبَطِّئُ غَيْرَهُ عَنِ الْجِهَادِ، كَمَا كَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ -قَبَّحَهُ اللَّهُ- يَفْعَلُ؛ يَتَأَخَّرُ عَنِ الْجِهَادِ وَيُثَبِّطُ النَّاسَ عَنِ الْخُرُوجِ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ وَابْنِ جَرِيرٍ.

الشيخ: وهذا جاء بشدّة، قُرِئَتْ بالتَّشديد: يُبَطِّئَنَّ، هذا يقتضي أنه يبطئ غيره، وبالتَّخفيف: يُبْطِئَنَّ، يتأخَّر هو، لكن المنافقين شرّهم مُستطير؛ فيُبْطِئُون ويُبَطِّئُون: يُبْطِئون عن الخير، ويُبَطِّئون غيرهم عن الخير، يعني: يَكسلون ويُكسِّلون غيرهم ويُثَبِّطون غيرهم، نسأل الله العافية.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُنَافِقِ أَنَّهُ يَقُولُ إِذَا تَأَخَّرَ عَنِ الْجِهَادِ: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أَيْ: قَتْلٌ وَشَهَادَةٌ وَغَلْبُ الْعَدُوِّ لَكُمْ؛ لِمَا لِلَّهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ: قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا أَيْ: إِذْ لَمْ أَحْضُرْ مَعَهُمْ وَقْعَةَ الْقِتَالِ. يَعُدُّ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَدْرِ مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ فِي الصَّبْرِ أَوِ الشَّهَادَةِ إِنْ قُتِلَ.

وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ: نَصْرٌ وَظَفَرٌ وَغَنِيمَةٌ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أَيْ: كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا أَيْ: بِأَنْ يُضْرَبَ لِي بِسَهْمٍ مَعَهُمْ فَأَحْصُلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَكْبَرُ قَصْدِهِ، وَغَايَةُ مُرَادِهِ.

الشيخ: يعني: الغنيمة.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلْيُقَاتِلْ أَيِ: الْمُؤْمِنُ النَّافِرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ أَيْ: يَبِيعُونَ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ قَلِيلٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِكُفْرِهِمْ وَعَدَمِ إِيمَانِهِمْ.

الشيخ: ظاهر السِّياق: يَشْرُونَ الْحَيَاةَ يعني: يشترونها، يشترون الحياةَ بالآخرة، يبيعون الآخرة ويشترون الدنيا؛ لعدم إيمانهم، يعني: يُؤثِرون الحياةَ الدُّنيا على الآخرة: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا الذين يشترونها ويبيعون الآخرة، يعني: يرفضون الآخرة ويزهدون فيها، وهم الكفَّار والمنافقون؛ لقلَّة علمهم، وعدم إيمانهم.

ويحتمل: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ يعني: فاعل، يُقاتل –يعني- الذين يشرون الحياة الدنيا، يعني: يبيعونها بالآخرة؛ لأنَّه وصفٌ للمُقاتلين الذين يُقاتلون في سبيل الله، الَّذِينَ فاعل يُقاتل، فيكون معناها مثلما قال المؤلِّفُ: باعوا الدُّنيا واشتروا الآخرة. معنى يَشْرُونَ يعني: باعوا الحياة الدنيا بالآخرة، والشِّراء يُسْتَعْمَلُ بمعنى: باع، وبمعنى: اشترى.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:74] أَيْ: كُلُّ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -سَوَاءٌ قُتِلَ أَوْ غَلَبَ- عِنْدَ اللَّهِ مَثُوبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأَجْرٌ جَزِيلٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ".

وَتَكَفَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إِنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجرٍ أو غنيمةٍ.

وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ۝ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:75- 76].

يُحَرِّضُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَعَلَى السَّعْيِ فِي اسْتِنْقَاذِ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الْمُتَبَرِّمِينَ من المقام بِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ يَعْنِي: مَكَّةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد:13].

ثُمَّ وَصَفَهَا بِقَوْلِهِ: الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا أَيْ: سَخِّرْ لَنَا مِنْ عِنْدِكَ وَلِيًّا وَنَاصِرًا.

قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ.

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَلَا: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ [النساء:98]، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ يُقَاتِلُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ، وَالْكَافِرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ.

ثُمَّ هَيَّجَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِتَالِ أَعْدَائِهِ بِقَوْلِهِ: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا.

الشيخ: وهذا ضعيفٌ بالنسبة إلى أولياء الله الذين يحترزون منه ويبتعدون منه ويُجاهدونه، ولكنَّه شديدٌ على أولئك الذين يُوالونه، استحوذ عليهم وأغراهم وصدَّهم عن الهدى بالوساوس وما زيَّنه لهم وما وعدهم به من الأكاذيب والأباطيل، نسأل الله العافية.

والمقصود من هذا التَّحريض على محاربة الشَّيطان الذي حكم اللهُ عليه بأنَّ كيده ضعيفٌ، فكيف ترضى بأن يغلبك؟ كيف ترضى أن يُغيرك بالباطل ويصدّك عن الهدى؟ ألا تُصدّق الله في هذا الخبر العظيم؟

احرص على محاربة هذا العدو، فكيده ضعيفٌ لمن جاهد نفسَه لله، وصدق مع الله، وبذل وسعه في طاعة الله، والله يقيه شرَّه، ويكفيه وساوسه؛ ولهذا في الآية الأخرى يقول جلَّ وعلا: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6] يعني: عامله معاملة الأعداء، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ، هذا طلبه أن يكونوا معه في النار، فلا تتساهل في تحقيق رغباته، وإجابته إلى طلباته، والإصغاء إلى وساوسه، بل احذر، نعم.

ومن العجب العجيب أنَّ هذا الشَّيطان مع كون كيده ضعيفًا قد تابعه الأكثرون، وأطاعوه، واتَّبعوا خطواته بسبب الأهواء، وضعف الإيمان، وقلّة اليقين، وغلب على الأكثر إيثار الشَّهوات التي حرَّم الله، والتَّكاسل عن الواجبات، فصار بهذا تحقيق مطالب العدو واتِّباع خطواته: كترك الصَّلوات والتَّثاقل عنها في الجماعات، والبخل بالزكاة، وعدم الصوم، وعدم الحجِّ، وعدم برِّ الوالدين، وعدم الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، إلى غير هذا من .....، كلّه من تزيين عدو الله، ومن ضعف الإيمان، وقلّة البصيرة، وقلّة العزم، وضعف العزم، وعدم بُعْدِ النَّظر، أكثر الخلق نظره قاصرٌ على شهوته الحاضرة، وحظِّه العاجل، ليس عنده بُعْدُ نظرٍ إلى العواقب وما يكون بعد الموت، سكرانٌ بهذه الشَّهوات العاجلة؛ ولهذا غلب عليهم عدو الله، قال سبحانه: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، وقوله جلَّ وعلا عنه أنَّه قال: وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17]، وقال عن ظنٍّ، فصدق عليهم ظنّه وتابعوه؛ لضعف الإيمان، وعدم بُعْدِ النَّظر، وغلبة الهوى وطاعة أولياء الشَّيطان، نسأل الله السَّلامة.