تفسير قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ..}

ذِكْرُ سَبَبٍ آخَرَ غَرِيبٍ جِدًّا: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِالْأَعْلَى قِرَاءَةً: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: وأخبرني عَبْدُاللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: اخْتَصَمَ رَجُلَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فقضى بينهما، فقال المقضيُّ عَلَيْهِ: رُدَّنَا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَعَمْ، انْطَلِقَا إِلَيْهِ، فلمَّا أتيا إليه، فقال الرَّجُلُ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، قَضَى لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى هَذَا، فقال: رُدَّنا إلى عمر بن الخطَّاب، فردَّنا إليك. فقال: أكذاك؟ قال: نَعَمْ. فَقَالَ عُمَرُ: مَكَانَكُمَا حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمَا فأقضي بينكما. فخرج إليهما مُشْتَمِلًا عَلَى سَيْفِهِ، فَضَرَبَ الَّذِي قَالَ: رُدَّنَا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخرُ فأتى إلى رسولِ الله ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَتَلَ عُمَرُ وَاللَّهِ صَاحِبِي، وَلَوْلَا أَنِّي أَعْجَزْتُهُ لَقَتَلَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَجْتَرِئَ عُمَرُ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ الآية [النساء:65]، فهدر دم ذلك الرجل، وبرئ عُمَرُ مِنْ قَتْلِهِ، فَكَرِهَ اللَّهُ أَنْ يُسَنَّ ذلك بعد، فأنزل: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء:66].

وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، بِهِ. وَهُوَ أثرٌ غريبٌ مُرْسَلٌ، وَابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: وهذا الخبر ضعيفٌ جدًّا من جهة ابن لهيعة، ومن جهة إرساله، ومن جهة نكارة متنه أيضًا، فإنَّ عمر ما يفعل هذا مع الرجل، وإنما يُوجِّهه ويُرشده ويُعلمه، ثم النبي ﷺ كيف يُحوِّلهم إلى عمر والنبي ﷺ يُعلِّمهم؟! بعثه الله مُعلِّمًا ومُرشدًا، ويُبين له أنَّ ما حكم اللهُ به ورسوله لا يُحال إلى أحدٍ.

المقصود أنَّ هذا مُنكرٌ، باطلٌ من جهاتٍ كثيرة، وإن كان يُستشهد به في الآية؛ ولهذا لما ذكره الشيخُ محمد في "التوحيد" قال: وقيل: المقصود أنَّ هذا الأثر ليس بصحيحٍ، ولا شكَّ أنَّ الواجبَ على جميع المكلَّفين التَّحاكم إلى شرع الله، والحذر من التَّحاكم إلى خلاف ذلك؛ ولهذا قال : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، وقال جلَّ وعلا: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، وقال : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:49]، وقال سبحانه: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

فالواجب على جميع المسلمين: على ولاة الأمور تحكيم شرع الله، وعلى المكلَّفين الخضوع لشرع الله، الخضوع لحكم الله، وعلى الحاكم أن يتحرَّى ما قاله الله ورسوله؛ حتى يحكم بحقٍّ، يتحرَّى شرع الله، ويتحرَّى الأدلة حتى يحكم، فإن أصابَ فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، إنما الواجب التَّحري؛ أن يتحرى الكتابَ والسُّنةَ وما دلَّ عليه شرعُ الله، ثم يحكم، وهذا ليس بالاختيار، بل يجب وجوبًا على أهل الإسلام أن يحكِّموا شرعَ الله، وعلى عُلمائهم أن ينظروا في ذلك، وأن يحكموا شرع الله، وأن يجتهد القاضي ويحرص على مُوافقة حكم الله، فإن بذل وسعَه واجتهد فله أجرانِ إن أصاب، وأجرٌ واحدٌ إن أخطأ، كما في "الصَّحيحين" عن النبي ﷺ من حديث عمرو بن العاص : أنَّ النبي ﷺ قال: إذا حكم الحاكمُ فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم واجتهد وأخطأ فله أجر.

س: حديث: "القُضاة ثلاثة" صحيحٌ؟

ج: نعم، نسأل الله العافية.

............

طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دُحَيْمٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ شُعَيْبٍ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ: حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ ضَمْرَةَ: حَدَّثَنِي أَبِي: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَضَى لِلْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: لَا أَرْضَى. فَقَالَ صَاحِبُهُ: فَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أَنْ نَذْهَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. فَذَهَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ لَهُ: قَدِ اخْتَصَمْنَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فقضى لي. فقال أبو بكر: أَنْتُمَا عَلَى مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. فَأَبَى صَاحِبُهُ أَنْ يرضى، فقال: نأتي عمرَ بن الخطَّاب. فَقَالَ الْمَقْضِيُّ لَهُ: قَدِ اخْتَصَمْنَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَضَى لِي عَلَيْهِ، فأبى أن يرضى. فسأله عمرُ بن الخطَّاب، فَقَالَ كَذَلِكَ، فَدَخَلَ عُمَرُ مَنْزِلَهُ وَخَرَجَ وَالسَّيْفُ فِي يَدِهِ قَدْ سَلَّهُ، فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الآية.

الشيخ: وهذا مُرسلٌ أيضًا.

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ۝ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ۝ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ۝ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ۝ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:66- 70].

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَوْ أُمِرُوا بِمَا هُمْ مُرْتَكِبُونَهُ مِنَ الْمَنَاهِي لَمَا فَعَلُوهُ؛ لِأَنَّ طِبَاعَهُمُ الرَّدِيئَةَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَهَذَا مِنْ عِلْمِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ فَكَيْفَ كَانَ يَكُونُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الآية.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ، قَالَ رَجُلٌ: لَوْ أُمِرْنَا لَفَعَلْنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: إِنَّ مِنْ أُمَّتِي لَرِجَالًا الْإِيمَانُ أثبت في قلوبهم من الجبال الرَّواسي.

الشيخ: ولهذا قال: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وهم أهل الإيمان الصَّحيح الصَّادق، نعم.

ورواه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُنِيرٍ: حدَّثنا روح: حدَّثنا هشام، عن الحسن بإسناده عن الأعمش قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ، قَالَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: لَوْ فَعَلَ رَبُّنَا لَفَعَلْنَا. فَبَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: لَلْإِيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِ أهلِه من الجبال الرَّواسي.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: افْتَخَرَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْقَتْلَ فَقَتَلْنَا أَنْفُسَنَا. فَقَالَ ثَابِتٌ: وَاللَّهِ لَوْ كَتَبَ عَلَيْنَا أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ لفعلنا، فأنزل اللهُ هذه الآية.

وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَمِّهِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْ نَزَلَتْ لَكَانَ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ.

الشيخ: يعني ابن مسعودٍ ، وهذا مُرسلٌ، نعم.

س: المراسيل هذه يُقوِّي بعضُها بعضًا؟

ج: نصّ القرآن يكفي، أقول: نصّ القرآن يكفي: إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ يُنفِّذون، والمعنى أنَّ أكثر الخلقِ ما يُنفّذ ما يُخالف هواه أو نفسه الأمَّارة بالسُّوء، أكثر الخلق تبع هواه، وليس عنده قوّة على تنفيذ ما فيه مشقّة: كقتل النفس، والخروج من البلد –وطنه- لكن أهل الإيمان الصَّادقين أقوياء الإيمان يُنفِّذون كلَّ شيءٍ حتى قتل النَّفس، كما جرى لليهود، مَن قوي الإيمانُ في قلبه نفَّذ ما وافق هواه وما خالف هواه؛ لأنَّ طاعةَ ربِّه مُقدَّمة عنده على كل شيءٍ، والإيمان في قلوبهم -مثلما في الأثر هذا- كالجبال الرَّواسي، الناس في إيمانهم طبقات كثيرة، والله المستعان: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253]، وهكذا أهل الإيمان فضل بعضهم على بعضٍ، ليسوا على حدٍّ سواء.

س: عملٌ بلا إيمانٍ؟

ج: ما يصلح عملٌ بلا إيمانٍ، إيمان القلوب هو الأساس، أصل الإيمان هو الأساس، لكن الإيمان يتفاوت، بعضُهم أقوى من بعضٍ؛ ولهذا أعمال المنافقين باطلة، وهم في الدَّرك الأسفل من النار؛ لأنَّ أعمالهم صدرت عن غير إيمانٍ، مخادعة، نعم.

وَحَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: لَمَّا تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ، أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ إِلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ يَعْنِي: ابْنَ رَوَاحَةَ.

الشيخ: وهذا مُرسلٌ أيضًا؛ لأنَّ شريحَ بن عبيد تابعي، الأثر الأول ابن مسعود، وهنا عبدالله بن رواحة، لا شكَّ أنَّ عبدالله بن رواحة وعبدالله بن مسعود وغيرهما من أعيان الصَّحابة حريّون بهذا الاستثناء، وأنهم من هؤلاء المستثنين لو كتب ذلك، نعم.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ أَيْ: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، وَتَرَكُوا مَا يُنْهَوْنَ عَنْهُ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ أَيْ: مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَارْتِكَابِ النَّهْيِ، وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا، قَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ وَأَشَدَّ تَصْدِيقًا، وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَيْ: مِنْ عِنْدِنَا أَجْرًا عَظِيمًا يَعْنِي الْجَنَّةَ، وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

الشيخ: وهذا فيه دلالة على أنَّ العبد إذا تحرَّى فعل الأوامر، وترك النَّواهي، وانتفع بموعظة الله وتذكير الله؛ أنَّ الله يزيده ثباتًا وتوفيقًا وهدايةً وعلمًا نافعًا بسبب عمله الصَّالح، وبسبب مُسارعته للخيرات، وبسبب انتفاعه بتذكير الله وعظته، فكلما زاد العبدُ في الاتِّعاظ والتَّذكر والعمل زاده الله خيرًا، وزاده اللهُ هدًى، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد:17]، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76]، فكلما كان إقبالُ العبد على الله أكثر وامتثالُه أكمل صارت الهدايةُ أكثر وأكمل، وتوفيق القلوب وتثبيتها.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] أَيْ: مَنْ عمل بما أمره اللهُ به، وَتَرَكَ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُسْكِنُهُ دَارَ كَرَامَتِهِ، وَيَجْعَلُهُ مُرَافِقًا لِلْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ لِمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الرُّتْبَةِ وهم الصِّديقون، ثم الشُّهداء والصَّالحون الَّذِينَ صَلُحَتْ سَرَائِرُهُمْ وَعَلَانِيَتُهُمْ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ تَعَالَى فَقَالَ: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وكان في شكواه التي قُبض فيها أخذته بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ.

وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ.

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الآخر: اللَّهم الرَّفِيق الْأَعْلَى ثَلَاثًا، ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ.

الشيخ: "ثم قضى" يعني: ثم تُوفي، ثم خرجت روحُه عليه الصلاة والسلام، يعني مع هؤلاء الرَّفيق، الرفيق الأعلى، وحسُن أولئك رفيقًا، مَن كان مع هؤلاء قد صار مع أحسن رفيقٍ، الله أكبر، نعم.

س: أكلُ الحرامِ هل يُقَسِّي القلبَ؟

ج: لا شكَّ، أكل الحرام من أسباب قسوة القلوب، وهكذا الغفلة عن الله، وهكذا صُحبة الأشرار، كلّها من أسباب قسوة القلوب ومرضها، نسأل الله العافية.

س: ..... قال: "أطب مطعمك تُستجاب دعوتك"؟

ج: لا شكَّ أنَّ أكل الحرام شرّه عظيم، نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم في عافيةٍ.

س: الترتيب في الآية بحسب الأفضلية: الصِّديقين، ثم الشُّهداء، ثم الصَّالحين؟

ج: نعم، نعم، هم على هذه المراتب.