تفسير قوله تعالى: {المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}

سورة الأعراف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المص ۝ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ۝ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:1- 3].

قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بالحروف وبسطه واختلاف الناس فيه.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: المص أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جبيرٍ.

كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ أَيْ: هَذَا كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، أَيْ: مِنْ رَبِّكَ.

فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ قال مجاهدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: شَكٌّ مِنْهُ. وَقِيلَ: لَا تَتَحَرَّجْ به في إبلاغه والإنذار به: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]؛ وَلِهَذَا قَالَ: لِتُنْذِرَ بِهِ أي: أنزلناه إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ الْكَافِرِينَ، وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْعَالَمِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أَيِ: اقْتَفُوا آثَارَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي جَاءَكُمْ بِكِتَابٍ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ، وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ أَيْ: لَا تَخْرُجُوا عَمَّا جَاءَكُمْ بِهِ الرَّسُولُ إِلَى غَيْرِهِ فَتَكُونُوا قَدْ عَدَلْتُمْ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ إِلَى حُكْمِ غَيْرِهِ، قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، كَقَوْلِهِ: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسولِ الله، وعلى آله وأصحابه.

أمَّا بعد، فالحروف المقطَّعة تقدَّم الكلامُ عليها كما قال المؤلفُ رحمه الله في أول سورة البقرة: الم [البقرة:1]، وقد تنازع الناسُ في معناها؛ فقال قومٌ: إنها دلالة على أنَّ هذا الكتابَ العظيمَ الذي فيه الهدى والنّور كلّه مُركَّبٌ من هذه الحروف التي يعرفها العربُ ويتكلَّمون بها، وجاء بها هذا الكتابُ العظيم المعجِز إلى يوم القيامة يُبين لهم طريقَ الهدى، ويُحذِّرهم من طريق الشَّقاء.

وقال آخرون: إنها تُشير إلى أشياء من أسماء الله: الألف تُشير إلى الله، واللام إلى اللَّطيف، والميم إلى الملك، إلى غير ذلك.

وقال آخرون: إنَّها لا يُعرف معناها، بل هي من المتشابه الذي يُوكل علمه إلى الله ، وهو سبحانه أعلم لما أنزل هذه الحروف المقطّعة: المص [الأعراف:1]، الم [البقرة:1]، المر [الرعد:1]، حم ۝ عسق [الشورى:1- 2]، إلى غير ذلك، فهي حروفٌ أنزلها الله هكذا، وله الحكمة البالغة في ذلك.

ويحتمل أنَّ ذلك لبيان أنَّ هذا القرآن مُعجِزٌ تكوَّن من هذه الحروف، ويحتمل أنَّ لهذه معانٍ أخرى.

والأقرب أن يُقال في ذلك: الله أعلم بمُراده منها ، أنزلها وهو أعلم سبحانه بمُراده منها جلَّ وعلا، وجعلها أسماء للسّور تُعرف بها السّور، وهو الحكيم العليم فيما يتكلَّم به، وفيما يقضيه ويحكم به، وفي كل شيءٍ .

والمقصود أنَّ هذا الكتابَ العظيمَ الذي هو مُكوَّنٌ من هذه الحروف فيه الهدى والنّور، وفيه الدَّلالة على كل خيرٍ، وفيه الدَّعوة إلى كلِّ ما فيه السَّعادة والنَّجاة؛ ولهذا قال سبحانه: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ من ربِّك فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف:2] يعني: كتابٌ عظيمٌ مُنزَّلٌ من الله، فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، بل عليك أن تُؤمن به، وأن تُبلغه الناس بانشراح الصَّدر واليقين والإيمان؛ لأنَّه كلام ربِّك؛ ولهذا قال: لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:2]، فأُنزل للذّكرى والإنذار والتَّبشير والهداية والتَّبصير، أنزله الله على نبيِّه عليه الصلاة والسلام، كما في الآية الأخرى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم:1]، فالله جعله صراطًا مستقيمًا، وجعله هدايةً وبشارةً ونذارةً لجميع الثَّقلين: الجنّ والإنس، ومَن تدبَّره وتعقَّله وعمل به فهو السَّعيد، ومَن أعرض عنه فهو الهالك الشَّقي، وهو أعظم كتابٍ، وأصدق كتابٍ، وهو خاتم الكتب المنزلة من الله ، وعلى أشرف نبيٍّ، وأفضل نبيٍّ، وعلى خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.

فجديرٌ بكل مُكلَّفٍ –ولا سيّما أهل الإيمان- التَّدبر لهذا الكتاب العظيم، والفرح العظيم به، والعناية بتدبُّر معانيه، والعناية بالعمل بذلك، والعناية بالتَّبليغ والإنذار لهذا الكتاب العظيم، فهو بشيرٌ ونذيرٌ، وهو هدى للنَّاس، وهو شفاءٌ لما في الصُّدور: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۝ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل:76- 77].

فالواجب اعتقاد ما بيَّنه اللهُ من كونه مُنَزَّلًا من عنده، وأنه كلامه سبحانه، والواجب العمل به قولًا وعملًا وعقيدةً في جميع الأحوال: في الشدة والرَّخاء، في السّر والعلانية، أينما كان العبدُ حسب الطاقة والقُدرة، وفي ذلك السَّعادة والنَّجاة، وفي ذلك عظيم الأجور وجزيل الثَّواب لمن اتَّبعه واستقام عليه ودعا إليه.

وَقَوْله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الآية [الأنعام:146]، وَقَوْله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106].

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ۝ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ۝ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ۝ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:4- 7].

يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَيْ: بِمُخَالَفَةِ رُسُلِنَا وَتَكْذِيبِهِمْ، فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ خِزْيُ الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام:10]، وكقوله: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45]، وَقَالَ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].

وَقَوْلُهُ: فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ أَيْ: فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ جَاءَهُ أَمْرُ اللَّهِ وَبَأْسُهُ وَنِقْمَتُهُ بَيَاتًا أَيْ: لَيْلًا، أَوْ هُمْ قَائِلُونَ مِنَ الْقَيْلُولَةِ، وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ وَسَطَ النَّهَارِ، وَكِلَا الْوَقْتَيْنِ وَقْتُ غَفْلَةٍ وَلَهْوٍ، كَمَا قال: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ۝ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:97- 98]، وَقَالَ: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ۝ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ۝ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النحل:45- 47].

الشيخ: وهذا كلّه تحذيرٌ من الغفلة والإعراض، فيُصيب مَن أعرض وغفل ما أصاب الأوَّلين، وقصّة قوم نوحٍ وقصّة قوم هودٍ وقصّة قوم صالحٍ وقصّة قوم لوطٍ وقصّة قوم شعيبٍ، كلها مُكررة في القرآن الكريم، فيها العِظَة، كانوا أُمَّةً قائمةً، أُممًا قائمةً، فأنزل الله بها بأسَه فهلكوا عن آخرهم بسبب إعراضهم وكفرهم وتكذيبهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهكذا ما أصاب فرعون وقومَه من الهلاك في ساعةٍ واحدةٍ في البحر؛ لعتوهم وطغيانهم واستكبارهم عن الحقِّ.

فالعاقل له عبرة، وله ..... في هذه الأشياء التي يسمعها ويقرأها، والله هو أحكم الحاكمين، وإنما يأخذ مَن يأخذ لكفره وإعراضه وظلمه لنفسه، فليحذر كل عاقلٍ أن يُصيبه ما أصاب أولئك؛ من أن يُؤخذ على غِرَّةٍ وعلى غفلةٍ بسبب إعراضه عن الحقِّ، واستكباره عن الهدى.

ومن أعظم العقوبات أن يُصاب في قلبه بالقسوة والإعراض والغفلة حتى لا يقبل الحقَّ، وحتى لا يُريده، ولا يطلبه، فينزل به أمرُ الله وهو على ذلك؛ في إعراضٍ وغفلةٍ وسكرةٍ بالشَّهوات والمعاصي؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ [الأعراف:4] يعني: احذروا يا أُمَّةَ محمدٍ أن يُصيبكم ما أصاب أولئك، فالعاقل يتَّعظ ويتذكر، فأولئك قومٌ كانت لهم سيادةٌ وقوّةٌ، وأخذٌ وعطاءٌ وسلطانٌ، فما أغنى عنهم ذلك شيئًا، لما نزل بهم أمرُ الله صاروا كأمس الذَّاهب.

فليحذر العاقل أن يغترَّ بقوةٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو سلطانٍ أو غير ذلك مما اغترَّ به الأوَّلون، فيحمله ذلك على التَّكذيب والإنكار للحقِّ، أو التَّقاعس والاستكبار عن العمل، فالمصيبة ما أصاب أولئك الهالكين الضَّالين.

وَقَوْلُهُ: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ أَيْ: فَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ عِنْدَ مَجِيءِ الْعَذَابِ إِلَّا أَنِ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ حَقِيقُونَ بهذا، كقوله تَعَالَى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً إلى قوله: خَامِدِينَ [الأنبياء:11- 15].

قال ابْنُ جَرِيرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ من قَوْلِهِ: مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.

الشيخ: يعني: حتى يعترفوا، "يعذروا" يعني: حتى يُصرِّحوا بأنَّ الله مُعذورٌ فيهم، قد أقام عليهم الحجّة، وأرشدهم إلى الهدى فأبوا؛ ولهذا يعترفون أنَّهم ظالمون، وأنهم أُخِذُوا بسبب ظلمِهم وعنادهم: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأعراف:5]، وهذا الاعترافُ ما عاد ينفع، بل نزول العذاب لا يُغني عنهم شيء ينفع، لو كانوا في حال المهلة، في حال العمل قبل نزول العذاب.

حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ الزَّرَّادِ قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِالْمَلِكِ: كَيْفَ يَكُونُ ذَاكَ؟ قَالَ: فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ.

وقوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ الآية، كقوله: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65]، وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:109]، فيسأل اللهُ الأممَ يوم القيامة عَمَّا أَجَابُوا رُسُلَهُ فِيمَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ، وَيَسْأَلُ الرُّسُلَ أَيْضًا عَنْ إِبْلَاغِ رِسَالَاتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عباسٍ في تفسير هذه الآية: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ قال: عَمَّا بَلَّغُوا.

وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُلُّكُمْ راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته، فالإمامُ يُسأل عن رعيَّته، وَالرَّجُلُ يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِهِ، وَالْمَرْأَةُ تُسْأَلُ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَالْعَبْدُ يُسْأَلُ عَنْ مَالِ سَيِّدِهِ.

قَالَ اللَّيْثُ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ طَاوُسٍ مِثْلَهُ، ثُمَّ قرأ: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ.

الشيخ: وهذا مثل قوله جلَّ وعلا: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92- 93]، فالأمم مسؤولة: هل بلَّغتها الرسل؟ والرّسل مسؤولون: هل بلَّغوا؟ فيقول الرسلُ: إنَّهم بلَّغوا، والأمم تقول: إنها بُلِّغَتْ، ولكن غلب عليها الشَّقاء والهوى، نسأل الله العافية؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ۝ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ۝ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ۝ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:8- 11]، نسأل الله العافية.

س: قوم يونس ألم يُرفع عنهم العذاب بعد مُعاينتهم له؟

ج: مُستثنون، أقول: جاء في النَّص استثناؤهم.

وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" بِدُونِ هذه الزِّيادة.

وقال ابنُ عباسٍ في قوله: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ يَعْنِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُخْبِرُ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا قَالُوا، وَبِمَا عَمِلُوا مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَجَلِيلٍ وَحَقِيرٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى الشَّهيد عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَغْفَلُ عَنْ شَيْءٍ، بَلْ هُوَ الْعَالِمُ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].