تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..}

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58].

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.

وَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ.

وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَمَانَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ .

مُداخلة: أحسن الله إليك، في نسخة الشعب قال في الحاشية: كذا، ولم أجده في "المسند" حديث الحسن عن سمرة، قال في الحاشية: ولم أجده في "المسند" من حديث سمرة، ولكنه من حديث رجلٍ عن النبي ﷺ. وعزاه للمُسند.

الشيخ: طيِّب.

عَلَى عِبَادِهِ من الصَّلوات والزَّكوات والصِّيام والكفَّارات والنُّذور، وغير ذلك مما هو مُؤتمنٌ عليه، ولا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ، وَمِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ: كَالْوَدَائِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتَمِنُونَ بِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعِ بَيِّنَةٍ عَلَى ذَلِكَ.

الشيخ: وهذا مثلما قال المؤلفُ رحمه الله: الآية تعمّ جميعَ الأمانات؛ ولهذا يقول سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، فيعمّ الأمانات التي لله، والتي للعباد، وأعظم الأمانات التَّوحيد، فأصل العبادة لله وحده، وأن يتوجَّه بقلبه وقالبه وجميع أقواله وأعماله إليه سبحانه دون غيره، قال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ويشمل أيضًا الصَّلوات الخمس، والنَّوافل، والصِّيام، والزكاة، والحجّ، والعُمرة، وجميع العبادات هي أمانة يجب أن تُؤدَّى لله وحده.

وهكذا الأعمال القلبية من الخوف والرَّجاء والمحبَّة والإخلاص هي أيضًا أمانات يجب أن تكون لله وحده، وأن يخاف الله، ويرجوه، ويُعظِّمه، ويُعظِّم حُرماته، ويخشاه، ويشتاق إليه، ويُحبّه المحبَّة الكاملة.

وهكذا المعاصي تركها أمانة، فيجب عليه تركها مطلقًا، خاليًا أو مع الناس، يجب أن يخاف الله، وأن يُراقب الله في هذه الأمانة، فلا يخن عند الخلوة، ولا في غيرها، بل يحذر محارم الله، ويعلم أنَّ الله ائتمنه على ذلك، فالواجب الحذر من جميع المعاصي التي نهى اللهُ عنها.

وهكذا حقوق الناس من الدُّيون والودائع والعواري يجب عليه أن يُؤدِّيها، ائتمنوه، قد لا يكون عليها شهودٌ، ائتمنوه، يكون الواجبُ عليه أن يُؤدِّيها، وهكذا ما عليه شهود، قد ينسى الشُّهود، قد يموت الشُّهود، يجب أن يُؤدِّي الأمانة، يخاف الله ويرجوه، وإذا فُقدت الأمانةُ من القلب خرب، نسأل الله العافية.

فَأَمَرَ اللَّهُ بِأَدَائِهَا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَحْمَسِيُّ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ الشَّهَادَةَ تُكَفِّرُ كُلَّ ذَنْبٍ إِلَّا الْأَمَانَةَ، يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يوم القيامة، وإن كان قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقَالُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ. فيقول: فأنَّى أُؤَدِّيهَا وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَتُمَثَّلُ لَهُ الْأَمَانَةُ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، فَيَهْوِي إِلَيْهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى عَاتِقِهِ. قَالَ: فَتَنْزِلُ عَنْ عَاتِقِهِ فَيَهْوِي عَلَى أَثَرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ.

قَالَ زَاذَانُ: فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ أَخِي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ رَجُلٍ، عَن ابن عباسٍ في الآية، قال: هي مُبهمةٌ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ كلّها لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ.

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْأَمَانَةُ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مِنَ الْأَمَانَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ ائْتُمِنَتْ عَلَى فَرْجِهَا.

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هِيَ مِنَ الْأَمَانَاتِ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ.

الشيخ: والآية مثلما تقدَّم عامَّة، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، المرأة مُؤتمنةٌ على فرجها، والرجل مُؤتمنٌ على فرجه، فمن الأمانة أن يصون فرجَه عن محارم الله، ومن الأمانة أن تصون فرجَها عن محارم الله، وهكذا جميع الأمانات من الواجبات والمحرَّمات كما تقدَّم.

س: خبر ابن مسعودٍ ما سنده؟

ج: ظاهر سنده أنَّه لا بأس به، ظاهر سنده الصحّة، أعد سند ابن مسعودٍ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَحْمَسِيُّ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ الشَّهَادَةَ تُكَفِّرُ كُلَّ ذَنْبٍ إِلَّا الْأَمَانَةَ.

الشيخ: الشَّهادة يعني: التوحيد، هذا من أحاديث الوعد والرَّجاء، التوحيد الخالص السَّليم يمحو اللهُ به الخطايا؛ لأنَّ التوحيد السَّالم المحقق يكون صاحبُه قد تاب توبةً صادقةً، لم يُصرّ على سيئةٍ، هكذا قال أهلُ العلم: مَن أتى بالتَّوحيد الخالص الذي صحبته التَّوبة أو عدم الإصرار على الذّنوب فإنَّ الله يمحو به جميع السَّيئات، مثل صاحب البطاقة، انظر: عبدالله بن السَّائب، هذا محل نظرٍ، لكن الأحاديث الكثيرة المتواترة تشهد لهذا، الأحاديث في التوحيد وفضله مُتواترة كلّها، تدل على أنَّ التوحيدَ هو أعظم الأعمال، وأنَّ الله يُكفِّر به الخطايا، ويُوجب به الجنة لمن لم يُصرّ على سيئةٍ، انظر عبدالله بن السَّائب.

الطالب: عبدالله بن السَّائب ثلاثة:

الأول: عبدالله بن السَّائب ابن أبي السَّائب ابن عابد بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، المخزومي، المكيّ، له ولأبيه صُحبة.

عبدالله بن السَّائب بن يزيد، الكندي، أبو محمد، المدني، ابن نمر، وثَّقه النَّسائي، من الرابعة، مات سنة ستٍّ وعشرين. (البخاري في "الأدب"، وأبو داود، والترمذي).

الشيخ: لعله هذا، أيش بعده؟

الطالب: عبدالله بن السَّائب الكندي، أو الشَّيباني، الكوفي، ثقة، من السادسة. (مسلم، والنَّسائي).

الشيخ: يحتمل أنَّه هذا أو هذا، لا بأس به، نعم.

س: ما يحتمل أنَّه يكون الشَّهادة في سبيل الله .....؟

ج: محتمل أنَّ الشَّهادة –يعني- كونه يُقتل في سبيل الله، كذلك الشُّهداء موعودون بالجنَّة والكرامة، إلا الدَّين كما في الحديث الصَّحيح: الدَّين أمانة. نعم، المعنى أنَّ حقوقَ الناس لا تضيع عليهم، يُعطون إيَّاها: إمَّا من حسناته، وإمَّا من سيِّئاتهم تُحمل عليه، وإمَّا أن يُعوِّضهم اللهُ عمَّا فات عليهم من فضله إذا تاب على ذاك الرجل الذي عنده الأمانة وعفا عنه لأسبابٍ اقتضت ذلك، والله يُعوِّضهم عن أماناتهم، نعم.

وَقَالَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، قَالَ: قَالَ: يَدْخُلُ فِيهِ وَعْظُ السُّلْطَانِ النِّسَاءَ، يَعْنِي: يَوْمَ الْعِيدِ.

الشيخ: رواية علي ابن أبي طلحة مُنقطعة عن ابن عباسٍ، لكن معناه صحيحٌ؛ لأنَّ وعظ النِّساء من الأمانات، وتذكيرهنَّ بحقِّ الله وحقِّ عباده إذا لم يسمعن خطبةَ العموم، كان النبيُّ يخصُّهنَّ بخطبة يوم العيد عليه الصَّلاة والسلام.

وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَاسْمُ أَبِي طَلْحَةَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِالْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِالدَّارِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ الْقُرَشِيُّ الْعَبْدَرِيُّ، حَاجِبُ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ الَّذِي صَارَتِ الْحِجَابَةُ فِي نَسْلِهِ إِلَى الْيَوْمِ، أَسْلَمَ عُثْمَانُ هَذَا فِي الْهُدْنَةِ بَيْنَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ هُوَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَأَمَّا عَمُّهُ عُثْمَانُ بنُ طلحةَ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ فَكَانَ مَعَهُ لِوَاءُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا.

وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا النَّسَبِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قد يشتبه عليه هَذَا بِهَذَا، وَسَبَبُ نُزُولِهَا فِيهِ: لَمَّا أَخَذَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ خَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ، فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَفُتِحَتْ لَهُ، فَدَخَلَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ، فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ، ثُمَّ طَرَحَهَا، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدِ اسْتَكَنَّ لَهُ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ.

مُداخلة: عندنا: "استكفَّ" في نسخة الشَّعب؟

الشيخ: لا، "استكنَّ" أظهر .....

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أهل العلم أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا كُلُّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدْعَى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ. وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَئِذٍ، إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ؟ فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: هَاكَ مِفْتَاحُكَ يَا عثمان، اليوم يوم وفاءٍ وبِرٍّ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، عن حجاجٍ، عن ابن جُريجٍ في الآية قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، قَبَضَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِفْتَاحَ الكعبة، فدخل في الْبَيْتِ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا الآية، فَدَعَا عُثْمَانَ إِلَيْهِ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمِفْتَاحَ. قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْكَعْبَةِ وهو يتلو هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا فِدَاهُ أَبِي وَأُمِّي، مَا سَمِعْتُهُ يَتْلُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ.

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ: حَدَّثَنَا الزِّنْجِيُّ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: أَعِينُوهُ.

وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ دَعَا عثمانَ بن طَلْحَةَ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ: أَرِنِي الْمِفْتَاحَ، فَأَتَاهُ به، فلمَّا بسط يدَه إليه قام إليه الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، اجْمَعْهُ لِي مَعَ السِّقَايَةِ. فَكَفَّ عُثْمَانُ يدَه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَرِنِي الْمِفْتَاحَ يَا عُثْمَانُ، فَبَسَطَ يَدَهُ يُعْطِيهِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ مِثْلَ كَلِمَتِهِ الْأُولَى، فَكَفَّ عُثْمَانُ يَدَهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا عُثْمَانُ، إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهَاتِنِي الْمِفْتَاحَ، فَقَالَ: هَاكَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ.

قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَفَتَحَ بَابَ الْكَعْبَةِ، فوجد في الكعبة تمثالَ إبراهيم عليه الصَّلاة والسلام مَعَهُ قِدَاحٌ يُسْتَقْسَمُ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا لِلْمُشْرِكِينَ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ! وَمَا شَأْنُ إِبْرَاهِيمَ وَشَأْنُ الْقِدَاحِ؟! ثُمَّ دَعَا بِجَفْنَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَأَخَذَ مَاءً فَغَمَسَهُ فِيهِ، ثُمَّ غَمَسَ بِهِ تِلْكَ التَّمَاثِيلَ، وَأَخْرَجَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ فِي الْكَعْبَةِ، فَأَلْزَقَهُ فِي حَائِطِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَذِهِ الْقِبْلَةُ.

قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فطاف في البيت شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فيما ذُكِرَ لنا بردِّ المفتاح، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ.

وَهَذَا مِنَ الْمَشْهُورَاتِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ أَوْ لَا فَحُكْمُهَا عَامٌّ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ. أَيْ: هِيَ أَمْرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ.

الشيخ: وهو كما قال آيةٌ عامَّةٌ تعمّ الجميع، تعمّ البرَّ والفاجر، وأهل البيت وغيرهم إلى يوم القيامة، كلٌّ عليه أن يُؤدي الأمانة، وأن يتَّقي الله في ذلك، وأن يُراقب الله فلا يبخس إنسانًا حقَّه: لا في وديعةٍ، ولا في دَيْنٍ، ولا في عاريةٍ، ولا في سرٍّ، ولا في غير ذلك، كما أنَّ عليه أن يُؤدي أمانةَ الله التي أوجب عليه بفعلها، والتي حرَّم عليه بتركها، نعم.

س: أثرٌ عن النبي ﷺ أنَّه حينما هاجر كانت عنده أمانات للمُشركين فردَّها إليهم؟

ج: هذا معروفٌ، عند الهجرة أبقى عليًّا بعده حتى ردَّ الأمانات، نعم.

وَقَوْلُهُ: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أَمْرٌ مِنْهُ تَعَالَى بِالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَشَهْرُ بن حوشَب: إنَّ هذه الآيةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْأُمَرَاءِ، يَعْنِي: الْحُكَّام بَيْنَ النَّاسِ. وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْحَاكِمِ ما لم يجر، فإذا جار وكله اللهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَفِي الْأَثَرِ: عَدْلُ يَوْمٍ كَعِبَادَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.

وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أَيْ: يَأْمُرُكُمْ بِهِ مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ والحكم بالعدل بين النَّاس، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوَامِرِهِ وَشَرَائِعِهِ الْكَامِلَةِ الْعَظِيمَةِ الشَّاملة.

وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا أَيْ: سَمِيعًا لِأَقْوَالِكُمْ، بَصِيرًا بِأَفْعَالِكُمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ: حدَّثنا عَبْدُاللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يُقْرِئُ هَذِهِ الْآيَةَ: سَمِيعًا بَصِيرًا يَقُولُ: بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدَكَ الْقَزْوِينِيُّ: أَنْبَأَنَا الْمُقْرِئُ -يَعْنِي أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ عَبْدَاللَّهِ بْنَ يَزِيدَ- حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ -يعني ابن عمران التَّجيبي المصري- حدَّثني أَبُو يُونُسَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا، وَيَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عينه ويقول: هكذا سمعتُ رسولَ الله يَقْرَأُهَا وَيَضَعُ أُصْبُعَيْهِ. قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا: وَصَفَهُ لَنَا الْمُقْرِئُ.

الشيخ: والمعنى أنَّه سمعُ حقيقةٍ، وبصرُ حقيقةٍ، فهو يسمع ويُبصر حقيقةً جلَّ وعلا .....، وليس المراد التَّمثيل والتَّشبيه حين وضع إصبعه، يعني: أنَّه كان سميعًا بصيرًا حقيقةً، يسمع أقوالَ عباده ويراهم ، كما تقول: إنَّ الله في العلو ..... يعني: في العلو فوق.

وَوَضَعَ أَبُو زَكَرِيَّا إِبْهَامَهُ الْيُمْنَى عَلَى عَيْنِهِ الْيُمْنَى، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى الْأُذُنِ الْيُمْنَى، وَأَرَانَا فَقَالَ: هَكَذَا وَهَكَذَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ"، وَالْحَاكِمُ فِي "مُسْتَدْرَكِهِ"، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي "تَفْسِيرِهِ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ الْمُقْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ، وَأَبُو يُونُسَ هَذَا مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاسْمُهُ: سُلَيْمُ بن جُبير.

الشيخ: وفي هذا الحثُّ على الحكم بالعدل، وأنَّ الواجبَ على الأُمراء والقُضاة وجميع الناس أن يحكموا بالعدل فيما لهم وفيما عليهم، والعدل هو ما وافق الشَّرع، إيصال الحقِّ إلى أهله، وليس له أن يجورَ لقريبٍ أو صديقٍ، قال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

الطالب: هنا تخريجٌ لحديث: أَدِّ الأمانةَ لمن ائتَمَنَكَ.

الشيخ: نعم.

الطالب: ممكن أقرأه؟

الشيخ: نعم.

الطالب: قال أبو داود في "سننه": حدَّثنا محمدُ بن العلاء، وأحمد بن إبراهيم، قالا: حدَّثنا طلقُ بن غنَّام، عن شريكٍ -قال: ابن العلاء وقيس- عن أبي حَصِين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: أَدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنَكَ، ولا تَخُنْ مَن خَانَكَ.

ورواه الدَّارميُّ والدَّارقطنيُّ والحاكمُ، كلّهم من طريق طلق بن غنام به، وهذا سندٌ صحيحٌ، إلَّا شريك وهو القاضي، وقيس وهو ابن الرَّبيع، ففيهما ضعفٌ، ولكن يُقوِّي أحدُهما الآخر.

وأبو حَصِين -بفتح الحاء المهملة- هو عثمان بن عاصم الأسدي.

وقال ابنُ أبي حاتم في "العلل": سمعتُ أبي يقول: طلق بن غنام هو ابن عمِّ حفص بن غياث، وهو كاتب حفص بن غياث، روى حديثًا مُنكرًا عن شريكٍ وقيسٍ، عن أبي حصين، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرة، عن النبي ﷺ: أَدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنَك، ولا تَخُنْ مَن خانك، قال أبي: ولم يروِ هذا الحديثَ غيرُه.

قلتُ: طلق وثَّقه ابنُ نمير، والدَّارقطني، وابن سعدٍ، وغيره. وضعَّفه ابنُ حزمٍ وحده، وفي "التقريب": ثقةٌ، ولحديثه شواهد؛ قال الإمامُ أحمد في "مسنده": حدَّثنا محمدُ ابن أبي عدي، عن حميدٍ، عن رجلٍ من أهل مكَّة يُقال له: يوسف، قال: كنتُ أنا ورجلٌ من قريشٍ نلي مالَ أيتامٍ. قال: وكان رجلٌ قد ذهب مني بألف درهم، فوقعت لي في يده ألف درهمٍ. قال: فقلتُ للقرشي: إنَّه قد ذهب لي بألف درهم، وقد أصبتُ له ألفَ درهمٍ. قال: فقال القُرشي: حدَّثني أبي أنَّه سمع رسولَ الله ﷺ يقول: أَدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنَك، ولا تَخُنْ مَن خانك.

ورواه أبو داود من طريق حميدٍ -يعني الطَّويل- عن يوسف بن ماهك المكِّي به، وهذا سندٌ رجاله كلهم ثقات إلا شيخ يوسف فإنَّه لم يُسَمَّ.

وأخرج الدَّارقطني والطَّبراني في "الصَّغير" وابنُ عديٍّ والحاكمُ من طرقٍ عن أيوب بن سويد، عن ابن شوذب، عن أبي التياح، عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله ﷺ: أَدِّ الأمانةَ الحديث. وهذا سندٌ ضعيفٌ؛ أيوب بن سويد هو الرَّملي، ضعَّفه العلماءُ، بل قال النَّسائي: ليس بثقةٍ. أمَّا الحافظُ فقال: صدوقٌ يُخطئ. وابن شوذب هو عبدالله، قال الحافظُ: صدوقٌ عابدٌ. وتابعه قُرَّة بن ربيعة.

وقال الطَّبراني في "الكبير": حدَّثنا يحيى بن عثمان بن صالح، قال: حدَّثنا أحمدُ بن زيد القزَّاز، قال: حدَّثنا قرَّة، عن ابن شوذب به. وضمرة بن ربيعة هو الفلسطيني، قال الحافظُ: صدوقٌ يَهِمُ قليلًا. وأحمد بن زيدٍ القزَّاز لعله الذي في "الجرح والتَّعديل" لابن أبي حاتم، حيث قال: أحمدُ بن زيد الرَّملي روى عن أيوب بن سويد، وروى عنه محمود بن إبراهيم بن سميع، قال: حدَّثنا عبدُالرحمن، قال: ذكره أبي، قال: حدَّثنا محمودُ بن إبراهيم بن سميع، قال: حدَّثنا أحمدُ بن زيدٍ الرَّملي. وكان ثقةً، وابن سميع هذا قال أبو حاتم: ما رأيتُ بدمشق أكيس منه. وسُئِلَ عنه فقال: صدوقٌ. ويحيى بن عثمان بن صالح هو السَّهمي المصري، قال الذَّهبي في "الميزان": وهو صدوقٌ إن شاء الله.

وقال الحافظُ: صدوقٌ رُمِيَ بالتَّشيُّع. وليَّنه بعضُهم بكونه حدَّث من غير أصلِه.

وقال الطبراني أيضًا: حدَّثنا يحيى بن عثمان بن صالح، قال: حدَّثنا عمرو بن الربيع، قال: حدَّثنا يحيى بن أيوب، عن إسحاق بن .....، عن أبي حفص الدّمشقي، عن مكحول، عن أبي أمامة به مرفوعًا.

وعمرو بن الرَّبيع هو الكوفي، قال الحافظُ: ثقة. ويحيى بن أيوب هو الغافقي، في "التقريب": صدوقٌ ربما أخطأ. وإسحاق بن أسيد –بالفتح- قال الحافظُ: فيه ضعفٌ. وأبو حفصٍ الدّمشقي قال الذَّهبي في "الميزان": لا يُعرف أبدًا. وقال الحافظُ: مجهول. وأمَّا مكحولٌ فقال أبو حاتم: لم يرَ أبا أُمامة. وقال البيهقيُّ بعد أن ذكر الحديثَ مُعلَّقًا: وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ مكحولًا لم يسمع من أبي أُمامة شيئًا، وأبو حفصٍ الدّمشقي هذا مجهولٌ.

وقال الطَّبري في "تفسيره": حدَّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدَّثنا يزيد، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادة في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، عن الحسنِ: أنَّ نبيَّ الله ﷺ كان يقول: أَدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنَك، ولا تَخُنْ مَن خانك، وهذا مرسلٌ صحيحٌ.

بشر بن معاذ هو العقدي، صدوق، ويزيد هو ابن زريع، وسعيد هو ابن أبي عروبة، وبالرغم من تعدد طرق هذا الحديث قال الشَّافعي: هذا الحديثُ ليس بثابتٍ. وقال ابنُ الجوزي: لا يصحّ من جميع طرقه. ونقل عن الإمام أحمد أنَّه قال: هذا حديثٌ باطلٌ لا أعرفه من وجهٍ يصحّ.

تنبيهٌ: قال الحافظُ ابنُ كثيرٍ في "تفسيره": وفي حديث الحسن، عن سمرة: أنَّ رسول الله ﷺ قال: أَدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنَك، ولا تخن مَن خانك، رواه الإمامُ أحمد وأهلُ السُّنن.

قلتُ: وهذا وهمٌ من ابن كثيرٍ رحمه الله؛ فإنَّ لفظَ حديث الحسن عن سمرة: على اليد ما أخذتْ حتى تُؤدِّيه، والله أعلم.

الشيخ: بارك الله فيك، هذا فيه تفصيل مسألة الخيانة بطرقه، فيه تفصيلٌ؛ إن كان السببُ واضحًا هذا ما يكون فيه لبسٌ، مثلما قال ﷺ لهند لما بخل عليها أبو سفيان ولم يُعطها حقَّ الأولاد، قال: خُذِي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بَنِيكِ من غير علمه، فإذا كان للآخذ حقٌّ واضحٌ، وبَخِلَ عليه صاحبُ الحقِّ أو جحده؛ فله أن يأخذ، كما جاء في الأحاديث الصَّحيحة في قصّة هند مع زوجها أبي سفيان، وهكذا مع المملوك إذا قصر عنه سيدُه يأخذ حقَّه من النَّفقة ولو بغير علمه، أمَّا إذا كانت أشياء خفيَّة فهذا هو محل النَّظر؛ قد يأخذ مقابل حقِّه هو الذي يشمل الحديث، ولا تَخُنْ مَن خانك فيه نظرٌ، أمَّا أَدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنك، هذا واضحٌ من الآية الكريمة، والأقرب والله أعلم عدم صحّة الحديث مثلما قال أحمدُ وجماعةٌ؛ لأنَّ كلَّ الطرق فيها عللٌ.

الخيانة إذا كان صاحبُها مُتأكِّدًا أنه أخذ حقَّه وتمكَّن من أخذ ما يُقابله من دون شبهةٍ ولا تساهلٍ له وجهٌ يتقوَّى بقصّة هند مع زوجها أبي سفيان، وهكذا أشباههم من العبيد الذين قصر سيدهم في نفقتهم يأخذون حاجتَهم بالمعروف.

س: لكن المعنى صحيحٌ يا شيخ؟

ج: فيه تفصيلٌ مثلما تقدَّم؛ كونه يأخذ مقدار حقِّه إذا كان الشَّيءُ ثابتًا ولا شُبهةَ فيه إذا قدر على شيءٍ، هذا هو محل النَّظر، وكثيرٌ من أهل العلم فصلوا بين الأسباب الظَّاهرة والأسباب الخفيَّة؛ في الأسباب الخفيَّة لا يأخذ، بل يُؤدِّي الأمانةَ ولا يخن، والأسباب الظَّاهرة كالزوج والمماليك، هؤلاء أسبابهم ظاهرة.

س: لكنَّه قال: ولا تَخُنْ مَن خانك؟

ج: هو البحث فيه، إذا كان شيء خفيّ ما هو بواضحٍ؛ عند زيدٍ لعمرو دراهم، ويأخذ منها ويقول: إنَّه خانني. لا، ما يُطاع، لا بدَّ من أسبابٍ واضحةٍ بيِّنةٍ، ولا يجوز له أن ..... شيئًا من حقِّ أخيه ويدَّعي عليه أنَّه خانه، عليه أن يُبين.