قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف:38- 39].
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَقُولُهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ، الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ أَيْ: من أمثالكم، وَعَلَى صِفَاتِكُمْ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الْكَافِرَةِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: فِي أُمَمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي أُمَمٍ أَيْ: مَعَ أُمَمٍ.
وَقَوْلُهُ: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ الآية [العنكبوت:25].
الشيخ: وهذه -نسأل الله العافية- عاقبة المتابعة في الباطل، والسَّير على منهج الكافرين، هكذا يجمعهم اللهُ يوم القيامة في نار جهنم: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا؛ لأنَّهم تتابعوا على الضَّلالة في الدّنيا، وسلك بعضُهم مسلك الآخرين في إيذاء الرسل، وتكذيب الرسل، وعدم الانقياد لما جاء به الشرعُ على أيدي الرسل؛ فلهذا يُقال لهم: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ إلى النار لَعَنَتْ أُخْتَهَا يسُبُّ بعضُهم بعضًا، كل واحدةٍ تقول لمن قبلها يعني: ما علَّمتينا، ولا أنذرتينا، وأغريتينا، وفعلتي بنا، فعلنا هذا بأسبابكم. وهكذا يسُبّ بعضُهم بعضًا.
ففي هذا التَّحذير من التَّقليد الأعمى، وأنَّ الواجبَ على المكلَّف أن يجتهد في معرفة الحقِّ، وأن يلتزم بالحقِّ، وألا يغترَّ بالناس، بل ينظر في الحقِّ ويأخذ به، وإن خالفه الأكثرون، فالحقُّ أحقُّ بالاتِّباع.
فعلى المكلَّف أن يطلب الحقَّ، وأن يتمسَّك بالحقِّ وإن خالفه أهله وأهل بلده، أو الناس كلهم، فالحق أحقّ بالاتِّباع؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا في كتابه العظيم: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ [سبأ:20- 21] يعني: ما كان له عليهم قهر إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]، سلطانه عليهم أنَّه دعاهم واستجابوا.
فالواجب على العاقل ألا يستجيبَ للنَّاعقين والدَّاعين للباطل، بل تكون عنده مناعةٌ، وعنده قوةٌ، فإن رأى الحقَّ قبله، وإلا تركه، وهو مخلوقٌ ليعبد ربَّه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فينظر ما هو عبادة لله وطاعة لله فينقاد له، وما هو معصية لله فيحذره، ويقف عند الحدود التي حدَّها اللهُ له؛ لأنَّه عبدٌ مأمورٌ، فيأتي المأمور، ويجتنب المحذور، ولا يكن كالبهيمة ينقاد مع كل أحدٍ.
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ المقلِّدة تقول لمن قبلها أنها أضلَّتها، تطلب من ربِّها أن يزيدها عذابًا؛ لأنها أضلَّتها ودعتها إلى الباطل، فهكذا المقلِّدُ يلعن المقلَّدَ في الباطل ويسبّه ويطلب من الله أن يزيده عذابًا.
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:166- 167].
وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا أَيِ: اجْتَمَعُوا فِيهَا كُلُّهُمْ، قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ أَيْ: أُخْرَاهُمْ دُخُولًا، وَهُمُ الْأَتْبَاعُ، لِأُولَاهُمْ وَهُمُ الْمَتْبُوعُونَ؛ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ جُرْمًا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ فَدَخَلُوا قَبْلَهُمْ، فَيَشْكُوهُمُ الْأَتْبَاعُ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ أَيْ: أَضْعِفْ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ الآية [الأحزاب:66- 68].
وقوله: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ أَيْ: قَدْ فَعَلْنَا ذَلِكَ وَجَازَيْنَا كُلًّا بِحَسْبِهِ، كقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا الآية [النحل:88]، وقوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13]، وَقَوْلِهِ: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية [النحل:25].
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ أَيْ: قَالَ الْمَتْبُوعُونَ لِلْأَتْبَاعِ، فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ قَالَ السُّدِّيُّ: فَقَدْ ضَلَلْتُمْ كَمَا ضَلَلْنَا، فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.
وهذه الْحَالُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي حَالِ مَحْشَرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ:31- 33].
الشيخ: لا حول ولا قوَّة إلا بالله، وفي هذا المعنى يقول ابنُ مسعودٍ لعمرو بن ميمون لما قال له: تأمرون بالجماعة وتقول: صلِّ وحدك فأنت الجماعة؟! قال: يا عمرو بن ميمون، الجماعة ما وافق الحقَّ وإن كنت وحدك. فالجماعة هم مَن وافق الحقَّ وإن كنت وحدك، لو كان إنسانٌ في قبيلةٍ، أو في قريةٍ، أو في أي مكانٍ خالفه جماعته، ولم يُطيعوه في الحقِّ، ولزم الحقَّ؛ صار هو الجماعة.
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40- 41].
قَوْلُهُ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ قِيلَ: الْمُرَادُ لَا يُرْفَعُ لَهُمْ مِنْهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَا دُعَاءٌ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ وَعَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَا تُفْتَحُ لِأَرْوَاحِهِمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ. رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قاله ابْنُ جَرِيرٍ.
الشيخ: كلّه حقّ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لا لأعمالهم، ولا لأرواحهم، الكفَّار أرواحهم تُردّ إلى الأرض، ولا تصعد إلى السَّماء، وأعمالهم باطلة لا تُرفع أيضًا، كلّها باطلة، لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لا لأعمالهم، ولا لأرواحهم، نسأل الله العافية.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا قاله ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ -هُوَ ابْنُ عَمْرٍو- عَنْ زَاذَانَ، عَنِ الْبَرَاءِ: أنَّ رسولَ الله ﷺ ذَكَرَ قَبْضَ رُوحِ الْفَاجِرِ، وَأَنَّهُ يُصْعَدُ بِهَا إلى السَّماء، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا تَمُرُّ عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُدْعَى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيَسْتَفْتِحُونَ بَابَهَا لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ الْآيَةَ. هَكَذَا رَوَاهُ، وَهُوَ قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِطُولِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَاذَانَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ من الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلَحَّدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وجلسنا حوله كأنَّ على رُؤوسنا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عذابِ القبر مرتين أو ثلاثة، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ إِلَى الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ.
الشيخ: والحنوط: الطِّيب، الحنوط يعني: الطِّيب.
ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ المطمئنَّة، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ.
قَالَ: فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُج مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوح الطَّيبة؟ فيقولون: فلان بن فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ : اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى.
قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. فيقولان له: وما علمُك؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ. فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قبره مدَّ البصر.
قال: ويأتيه رجلٌ حسنُ الوجه، وحسنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ؛ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي.
قَالَ: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ إِلَى الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فيقول: أيُّها النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ اللَّهِ وَغَضَبٍ. قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُج مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا في الدُّنيا، حتى يُنتهى بها إلى السَّماء الدُّنيا، فيُستفتح، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، فَيَقُول اللَّهُ : اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحَ رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ! هَاهْ! لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ! هَاهْ! لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ! هَاهْ! لَا أَدْرِي. فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّماء: أن كذبَ عبدي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوؤُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ. فَيَقُولُ: رَبِّ لا تُقم السَّاعة.
الشيخ: والمقصود من هذا التَّحذير من الإصرار على مُخالفة أمر الله ومُتابعة الكفرة والضَّالين، والحثُّ على الاستقامة على دين الله، والتوبة إلى الله من سيِّئ الأعمال، والإعداد لهذا اليوم العظيم، وهو يومٌ لا بدَّ منه: فإما الجنة، وإما النار، إمَّا أن تُنزع هذه الروح بيد الملك فيُقال لها: اخرجي أيَّتُها الروح الطَّيبة في الجسد الطيب. وإمَّا أن يُقال: اخرجي أيَّتُها الروح الخبيثة.
فالمؤمن يعدّ العُدّة لهذا اليوم العظيم، وهذه الرَّائحة لا يشمّها أهلُ الدنيا، ولكن تشمّها الملائكةُ، وتطلع عليها الملائكةُ، ومَن بين السَّماء والأرض، وإن كان مَن حول الميت لا يجدون تلك الرائحة، ولكنَّها أمرٌ معلومٌ يشمّه ويجده أولئك الملائكة الذين وُكِّلوا بهذا الأمر، ويمرّ عليهم بهذه الأرواح، فأرواحهم إن كانوا من أهل جهنم: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40]، وهكذا أعمالهم، وأما السُّعداء فأرواحهم تُفتح لهم أبواب السَّماء، وأعمالهم كذلك.
والقبر إمَّا روضة من رياض الجنة، إن كان مؤمنًا يُفتح له بابٌ إلى الجنة، ويأتيه من ريحها وطيبها، ويرى مقعدَه من الجنة، فهو في نعيمٍ، وإن كان بالضدِّ فُتِحَ له بابٌ إلى النار، نسأل الله العافية.
فهذه التي ذكرها النبيُّ ﷺ مواعظ وذكرى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42]، ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا بالله.
س: قوله: "ربي أقم السَّاعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي" إذا أُقيمت السَّاعة فماذا يستفيد من ماله؟
ج: يحتمل أمرين: أحدهما: يعني أهلي ومالي في الجنَّة ..... ما أعطاه الله مالًا له، ويحتمل من دهشته، كأنَّه يظن أنَّه يرجع إلى الدنيا، وأهلي في الدنيا، ومالي في الدنيا مما يحصل له من النَّعيم والسُّرور، فيذهل عن كونه في البرزخ، يرجع فيه إلى الجنة، يحتمل هذا وهذا؛ لأنَّ الأمر عظيمٌ، بعدما يرى من النَّعيم ويرى من البشارة العظيمة، فالأقرب والله أعلم: أهلي ومالي في الجنة؛ لأنَّ المؤمن موعودٌ بالجنة، إذا ثبَّته اللهُ مصيره إلى الجنَّة.
س: الوعظ عند القبور؟
ج: هذا من أدلته، مشروعٌ، مشروعٌ؛ لأنَّ الناس عند القبور ألين قلوبًا، ويذكرون الآخرة.
س: قوله: "كفن من أكفان الجنة"؟
ج: يعني: من ملابسها وثيابها والله أعلم.
س: إسناده صحيحٌ؟
ج: لا بأس به، جيد، إسناده جيد، ثقات، ما عدا الأعمش عنعن، لكن ذكر المؤلف وسبق أنه جاء من طرقٍ كثيرةٍ ..... من غير طريق الأعمش.
س: حديث: "القبر أول روضةٍ من رياض الجنَّة"؟
ج: هذا معناه مأخوذٌ من هذا الحديث وأشباهه.
س: صحيح؟
ج: معناه صحيحٌ، معناه: إمَّا روضة من رياض الجنة، وإما حُفرة من حُفر النار، نسأل الله العافية.
س: العبد العاصي .....؟
ج: على خطرٍ، على خطرٍ، قد ينجو ويعفو الله عنه، وقد يُعذَّب، لكن ليس كالكافر، وليس كالمؤمن السَّليم، بينهما، في حديث ابن عباسٍ في "الصحيحين" أنَّ الذي مات وهو يتعاطى النَّميمة يُعذَّب في قبره، نسأل الله العافية.
س: .............؟
ج: هو ذو ..... مُلحق بالمؤمنين، وقد يُصيبه بعض العذاب؛ ولهذا قال جلَّ وعلا في سورة فاطر ألحقه بالمصطفين فقال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ هذا العاصي، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ هذا البرّ، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ هذا المقرَّب، فألحق الظَّالم لنفسه -وهو العاصي- بالمصطفين من أهل الإيمان، لكن في غالب الآيات يذكر اللهُ طائفتين: المؤمنة والكافرة، فالعاصي يسكت عنه، لكنَّه مُلحقٌ بالمؤمنين في النَّجاة، وإن جرت عليه محنٌ في القبر وفي البرزخ، لكنَّه مع النَّاجين ولو في العاقبة.
س: يقول: "العبد الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدُّنيا"؟
ج: مثل المؤمن، يعني: إذا حضره أجلُه.
والحكمة في ..... العاصي في غالب النُّصوص، الحكمة في ذلك والله أعلم التَّرغيب والتَّرهيب؛ حتى لا ييأس، ولا يأمن، يكون على خطرٍ، يحذر أن يكون مع القسم الثاني، فإذا تأمَّل الآيات والأحاديث التي في ذكر المؤمنين وما وعدهم اللهُ من الخير العظيم وأسرف على نفسه خاف ألا يكون معهم، وإذا سمع عذابَ الكافرين خاف أن يُصيبه ما أصابهم، فيكون بين خوفٍ ورجاءٍ؛ حتى يرجع ويتوب ويندم ليلحق بالمؤمنين.
س: مُستقرُّ أرواح المؤمنين والكافرين؟
ج: مُستقرُّ أرواح المؤمنين في الجنَّة، أرواحهم تسرح في الجنَّة.
س: والكافرين؟
ج: مُستقرُّهم النار، نسأل الله العافية، لكن ذكر جلَّ وعلا في أرواح الكفَّار من أهل فرعون قال: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، كان لهم في البرزخ عذابٌ غير الأشدِّ يُعرضون عليه، ثم يوم القيامة ..... لأشدِّ العذاب، نسأل الله العافية.